الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اسمعوا يا عباد الله
قطعةٌ من حديث (3)
نشرت سنة 1929 (1)
-
…
الوَيْل لكَ يا هذا، ما تنفكّ تحدثني وتعمى عن هذا الرجل يقتطع من أحاديثنا قِطَعاً، ولا أدري والله ما يصنع، غير أني خائف أن ينالنا بِشَرّ، وإني أراه يتربص بنا الدوائر. وليس بالرجل الحكيم من وثق بعدوّه وركن إليه، وقد قالت الحكماء: ثلاثٌ من ارتجاهنّ من ثلاث فهو أحمق: الماء من النار، والرزق من المخلوق، والنفع من العدوّ
…
وإن مثلك -في هذا- كمثل المعارف والغراب، حين وثقن به فأهلكهن.
قال: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أنه كان بمدينة كذا جماعة من المعارف (2)، وكان عليهنّ وزير منهنّ، وكنّ قد شَدَدْنَ وَكْرَهُنّ إلى شريعة
(1) في مجلة «الفتح» ، العدد 166 من السنة الرابعة، الصادر بتاريخ 26/ 9/1929 (23 ربيع الثاني 1348).
(2)
المعارف هنا نوعٌ من الطير، ورُوي غير ذلك.
ولغة (1) قائمتين على ضفّة نهر جارٍ، فَعِشْنَ فيه دهراً على خير عيشة، حتى نزل بهن -ذات يوم- غرابٌ جائع اسمه «رَوْجَة» ، فشفقن عليه ورأفنَ به، فأطعمنه وسقينه، فلما شبع وروي رأى ما عندهن من الحب؛ فطمع بهن، فقام فيهن خطيباً فقال: إنكنّ قد أحسنتُنّ إليّ وإني مكافئكنّ على إحسانكنّ، اعلمْنَ أني آتٍ من بلد أرقى من بلدكن، وعندي من العلم ما ليس عندكن، فاتّبِعْنَني واتخِذْنَني مستشاراً لوزيرتكنّ أنهضْ بكنّ فتصِرن أمة من الإوز.
فقلن له: أنظرنا حتى نرى رأينا.
وانتحين ناحية يتشاوَرْنَ، فقالت حكيمتُهنّ: إن هذا الغراب يُفسد عليكنّ أمركنّ، وهو عامل على إهلاككنّ بقطعِكُنّ عن أصلكنّ، فقُمْنَ إليه فافقَانَ عينيه، واعلمْنَ أنّ مَن صادق ما ليس من طبعه أصابه ما أصاب البيت من النار.
قُلنَ: وكيف كان ذلك؟
قالت: إنه كان في روضة غَنّاء بيت جميل أمام نهر جارٍ، وإنه لبث ما شاء الله أن يلبث، ثم بدا له فقال:"ما أشَقَّ الحياة بلا رفيق ولا أنيس، وما أشقى من يقيم وحده لا يجد من يشاطره سرّاءه وضرّاءه! وإني منطلقٌ فمبتغٍ لي صديقاً". ولكنه لم يجد إلا النار فخاللها، وباتا متعانقين، فلم يصبحا حتى أصبح رماداً. وإني خائفة عليكنّ صُحبةَ هذا الغراب، فأطعنَني اليوم واعصينَني آخر الدهر.
(1) هما هنا نوع من الشجر، وقيل غير ذلك.
فأَبَيْنَ ذلك عليها وأعرضْنَ عنها، وذهبن إلى رَوجَة فاتخذْنَه مستشاراً (1). فقال لهن: المُستشار مؤتمَن؛ وأنا واضع لكنّ برنامجاً إذا أنتنّ عملتُنّ به صيَّرَكنّ أمة راقية من الإوز. فقُمْنَ إلى هذه الأسباب التي تربطكنّ بهذه اللغة وهذه الشريعة فاصرمْنَها، واتركن وكركنّ يسبح بالماء، فإنه لا ينتهي النهر إلى مصبّه حتى ينتهي أمركن إلى ما أردتنّ.
فأطعنَه وفعلن ما أراد لهن، فما شَعَرن إلا وهنّ يتخبطنَ في الماء، والغرابُ ناجٍ بما اختزنَّ من الحب.
* * *
هذا ما سمعته من حديثهما، وإن فيه لعظة لقومي لو كانوا يفقهون.
* * *
(1) الفرنسي راجه كان مستشار وزارة المعارف أيام الانتداب، وصفه علي الطنطاوي في ذكرياته فقال:"كان المستشار الفرنسي هو الوزير الحقيقي وهو الآمر الناهي"(الذكريات 1/ 214)، وانظر الرسالة العاشرة من رسائل «سيف الإسلام» التي ستأتي في هذا الكتاب (مجاهد).