الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محاسن الإسلام
الصلاة
نشرت سنة 193 (1)
لم أجد أسخف ممّن يقول: "نحن لا نحتاج إلى الصلاة لأنها نوع من الرياضة، ولأننا نتريّض كل يوم"
…
لأن هذا القائل لم يدرِ ما هي الصلاة.
الصلاة رياضة، ولكنها رياضة للنفس الخالدة لا لهذا الجسد الفاني، هي اتصال بالله وانقطاع عن هذا العالم. وإن المصلي لا يزال يرى الدنيا تتضاءل في عينيه وتصغر حتى لا يبقى لها من أثر، فلا يفكر إلا في الله جلَّ وعزّ، مؤمناً بأنه ليس في الوجود من يقدر على نفعه وضرّه إلا هو، ويستقر هذا الإيمان في نفسه ثم يفيض على لسانه فيقول:«لا إله إلا الله» ، أي لا موجود غيره يؤثّر في هذا الكون، فلأرجعنَّ إليه ولأقِفَنَّ ببابه وعند أمره ونهيه، فإذا فعلت أغناني وأرضاني وأبلغني من كل شيء ما أريد.
هذه هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا يُقْدم
(1) نشرت هذه المقالة في العدد الأول من كتاب «البعث» الذي صدر في غرة المحرم سنة 1350 (19/ 5/1931).
عليهما من يعلم أن الله مطّلع عليه وأنه سيقف عما قليل بين يديه، وأنه إن سأل عباده ولم يسأله كان كالذي يدخل على الملك فلا يسأله حاجته ثم يخرج فيتوسل إلى خادمه ويطلبها منه، ولا يقدر عليها هذا إلا بأمر سيده!
لقد اختلفوا في عقاب تارك الصلاة، ولكن أكبر عقاب له هو حرمانه من هذه اللذة العظيمة، لذة الإيمان والاطمئنان التي لا توصَف ولا تدرَك بوصف:
لا يعرف العشقَ إلا مَن يكابده
…
ولا الصَّبابةَ إلا من يعانيها
المصلي جريء شجاع، لا يرهب مخلوقاً ولا يطمع فيه لأنه يسمع صوت الخالق يدعوه أن سلني أُجِبْك، واطلب مني أُعْطِك، وادعُني أستجِبْ لك. أفتدع الله وتقصد العبد الضعيف؟
* * *
المصلي إنسان كامل رقيق الشعور حي العاطفة، لأنه يفيق كل يوم سَحَراً، والليل خاشع ساكن، والكون صامت هادئ لا يُسمَع فيه إلا صدى صوت المؤذن العذب، فيرى جمال الطبيعة ويشهد ساعة التجلي والنور، في حين أن تارك الصلاة يغط في نومه غطيط البَكْر! (1)
المصلي صادق المواعيد قوي الإرادة، لأنه يريد النهوض،
(1) البَكْر هو الفَتِيّ من الإبل، والأنثى بَكْرة، ومنه قولهم:«جاؤوا على بَكرة أبيهم» (ولا تقل: عن بكرة أبيهم) أي جاؤوا جميعاً (مجاهد).
فيدع فراشه الوثير وما فيه من راحة ودفء ثم يعمد من فوره إلى الماء البارد، في حين أن تارك الصلاة يريد أن يقوم، فلا يزال يتمطّى كالكلاب ويقوم ويقعد كمن به مَسّ، فإذا ترك السرير استقبل الأريكة، وإذا قام عن الأريكة ابتدر الكرسي!
ومن أراد أن يطلب من تارك الصلاة وفياً مخلصاً كان كطالب من الماء جذوة نار! فإنه ليس في الناس من يقدر على التدليل والإثبات بأن الصلاة مُضرّة أو غير لازمة، بل هو يعترف بفائدتها ويتركها. إنه يضر نفسه، ومن ضَرَّ نفسه فأَوْلى به أن يضر غيره، ومن لا يفي لربه بخمس صلوات في اليوم لن يفي لأمته وبلاده.
الصلاة ليست ركوعاً وسجوداً وقياماً وقعوداً، بل إن هذا كله بمثابة الجسد منها، أما روحها فهي الخشوع؛ فمن لم يخشع في صلاته كان كمن يرفع إلى الله جسداً ميتاً، ولا خشوع لمن عقله في بيته أو دكانه، وفي تجارته أو ولده.
* * *
لا تحاول أن تقنع تارك الصلاة بلزومها وتسرد له فوائدها وما ورد فيها، بل اسعَ لتذيقه لذّتها. وكثيراً ما كنت أنصح الرجل ثم أضطر أن أقول له:
لو كنتَ تفهم ما أقول عذرتني
…
أو كنتُ أطمع أن تبوء عذلتُكا
لكنْ جهلتَ مقالتي فعذلتني
…
وعلمتُ أنك جاهل فعذرتُكا
وصلى الله على محمد، لقد كانت قرة عينه في الصلاة.
* * *