المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رسائل سيف الإسلامالرسالة العاشرة - البواكير

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌كلمات

- ‌خواطر غريب

- ‌طلاب دمشق

- ‌في ذكرى مولد فخر الكائنات

- ‌ألا ليشهد العالم كله

- ‌قطعةٌ من حديث (1)

- ‌قطعةٌ من حديث (2)

- ‌قطعةٌ من حديث (3)

- ‌أنا ونفسي

- ‌على قارعة الطريق

- ‌خطرات وكلماتالشهرة

- ‌أم الذكريات

- ‌استفتاء لغوي

- ‌على أطلال الخضراء

- ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (1)

- ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (2)

- ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (3)

- ‌رسائل سيف الإسلامالرسالة العاشرة

- ‌لماذا أنا مسلم

- ‌جمعية «الهداية الإسلامية» في دمشق

- ‌مقدمة كتاب «البعث»

- ‌أرجال…أم نساء

- ‌محاسن الإسلامالصلاة

- ‌الفاجعة

- ‌ما وراء الأكمة

- ‌في سبيل المقاطعة

- ‌افتتاحية مجلة «البعث»

- ‌على إثر الخسوف:احتجاجاتنا كطبولنا

- ‌من رسائل العطلة

- ‌ذكرى يوم الاستقلال

- ‌لا قوة إلا قوة الحقولا مجد إلا مجد التضحية

- ‌يا أمة الحرية

- ‌أندية الطلاب في العالم

- ‌أليس فيكم رجل رشيد

- ‌دع السياسة

- ‌مقدمة مجلة

- ‌معلم القرية

- ‌صفات الزعيم الحقيقي

- ‌على أنقاض آماليأنشودة الظلام

- ‌تحرير الرجل من ظلم المرأة

- ‌نريد خصومة موضوعية لا شخصية

- ‌إلى المبشرين

- ‌من هو السنوسي

- ‌خذوا الصواب من قلب الخطأ

- ‌نَحْطِمُهم كما يَحْطِم النسرُأمةً من الذباب

- ‌الشَّرَف

- ‌الأدب القومي

- ‌الأدب القومي أيضاً

- ‌بالأسلوب التلغرافيتَرَقّي الموظف

- ‌بالأسلوب التلغرافينحن وفلسطين

- ‌التربية الوطنية والدينية

- ‌نصائح لمن كان يتعلم الوطنية

- ‌عند الحلاق

- ‌الأستاذ شفيق جبري والوظيفة

- ‌إن في هذا لعبرة

- ‌قصة رمزيةورقة الخمسين

- ‌أبناؤنا وتاريخنا

- ‌الراتب، أم الواجب

- ‌رسالة الطالب

الفصل: ‌رسائل سيف الإسلامالرسالة العاشرة

‌رسائل سيف الإسلام

الرسالة العاشرة

لك الحمد ربنا على ما أنعمت علينا بأن جعلتنا من أمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ومنك التوفيق وإليك الإنابة، ولك الحول وعليك الاتكال.

هذه عشر رسائل، علم الله كم قاسينا من أجلها من متاعب وعانينا من مصاعب، فهل لنا من مغبَّتها في الإصلاح عُقْب مما نالنا، ومن عاقبتها في الخير بديل مما لحق بنا؟

نعم، إنني لست على رأي من يعمل ثم ينظر رأي الناس فيه ورضاهم عنه، فيتابع ويواصل إن وجد حسناً ويصدّ ويحيد إن وجد سيئاً. ولست أرجو صلاح أمة قد عَرَقَ فيها الفساد (1) وتمكن منها الداء بخَطّة قلم ونقطة مداد، ولا يكون ذلك ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث في قومه سنين يدعوهم فلا يستجيبون له، ويناديهم فلا يلتفون إليه، وهو الأمين المأمون وسيد العالمين، وقومه على الفطرة النقية، فما قولك بأمة كلها فساد، وداع هو أحوج إلى الإصلاح والنصح ممّن يدعوهم؟ هل يثمر عمله في يوم أو شهر

(1) أعرَقَ الشجرُ في الأرض وعَرَق فيها: امتدت فيها عروقه (مجاهد).

ص: 119

أو عام؟ لا. فهل يفرّ وينهزم إذا لم يثمر عمله في شهر؟ لا، إن شاء الله.

وإنّا متابعون السير في هذه الرسائل، علّ الله تعالى يوفق أثرياءنا وأغنياءنا إلى بذل قليل من مالهم ننشئ به مجلة إسلامية، يكون فيها متّسَع لما لا تتسع له هذه الرسائل، فيكتب فيها رجال مختلفون يعالج كلٌّ منهم ناحيةً من النواحي التي نحتاج إلى معالجتها في قضيتنا الإسلامية. إن هذه المجلة من أحسن ما يقوم به مسلم لخدمة القضية الإسلامية، لأن الجرائد والمجلات هي المعلّم السيَّار الذي يكلم كل إنسان ويدخل كل دار، ويبث الشرور والمفاسد إذا كان فاسداً شريراً، والصلاحَ والخير إذا كان صالحاً خيّراً.

فمن أي النوعين جرائدنا ومجلاتنا؟ ليُجِبْ القارئ كما يريد، وإنما ليسمح لي أن أقول له:

(1)

إن قضية البربر -على عظمها وجلالها- لم تنل من صفحات جرائدنا «الإسلامية!» إلا بضعة أسطر من الصفحة الثالثة نُشرت كخبر بسيط بجانب خبر قدوم جوقة موسيقية وخبر الدعوة إلى راقصة أو مغنية!

(2)

وإن بلاغ الحكومة الرسمي بترخيصها لناد من النوادي بتعاطي القمار قد مَرَّ دون أن تعلّق الجرائد عليه شيئاً، ومعنى هذا أنهم أحلّوا القمار وقد حرّمَه الله، ومن استحلَّ حرمات الله فقد كفر!

* * *

ص: 120

يجب أن تخرج قضية المجلة من دَوْر التفكير إلى دَوْر العمل، ويجب أن يجتمع بعض من يهمه هذا الأمر للمداولة والبحث، ثم يقرروا منهاج العمل ويسيروا فيه. ولا يَفهَمَنَّ أحدٌ -إذا دعوت إلى إنشاء المجلة أو سعيت لها- أنني أدعو لأكون صاحبها أو محررها. لا، وإنما أعمل كأقلّ عامل فيها. أقول هذا لأن الناس اعتادوا أن يفسروا كل عمل للمصلحة العامة بأنه للمصلحة الخاصة، فيخاف العامل من هذا فلا يعمل شيئاً، وما ذلك إلا نوع من الحسد الممقوت والخلق السيئ. ولقد قالوا إننا نقوم بهذه الرسائل من أجل التجارة وإننا جمعنا مبلغاً عظيماً من المال من طريق التبرعات، فأفهمناهم أن التبرعات لا تكفي أبداً وأن الرسائل كانت تنقطع منذ رسالتين لو لم يتبرع أحد المحامين المسلمين بنفقة رسالة برمّتها ولو لم يتبرع شاب أديب بنفقات أخرى، وأنذرَنا أن لا نذكر اسمه كما أنذرَنا الأولُ. وأنه ليس معنا الآن شيء لإصدار ما يلي هذه، فأين هو هذا المال؟

هذه واحدة، وأما الأخرى فهي قضية المدارس. وإذا أطلقت كلمة «المدارس» فإنما أقصد منها المدارس التجهيزية التي تقدم طلابها لفحص البكالوريا، وهذه في دمشق على أقسام: أجنبية وأهلية وحكومية. أما الأجنبية فلا أحاول أن أقول كلمة عن منهجها والغرض من تأسيسها وعن صنيعها بأبناء المسلمين، لأن هذا شيء يعرفه القارئ فلا يحتاج إلى تعريف به، أو لا يعرفه إلى الآن فلا يمكن أن يعرفه الآن! بقي علينا المدارس الأهلية والحكومية، وليس للحكومة في دمشق إلا مدرسة واحدة هي المدرسة التجهيزية (مكتب عنبر)، وهذه -على ما فيها من نقائص- أحسن

ص: 121

مدرسة تجهيزية، لا في سوريا فقط بل وفي العراق ومصر أيضاً، لأنها جمعت في سلك معلّميها من العلماء المبرزين ما يندر أن يجتمع في غيرها، ولأن فيها إلى جنب هذا روحاً وطنية عالية ونبوغاً عجيباً في الطلاب. ولكن هذا الذي أقوله خبر تاريخي لم يبقَ منه الآن شيء، لأنهم ضربوها ضربة أليمة فرّقت أجزاءها وبعثرت أوصالها؛ أسقطوا من طلابها ظلماً وعدواناً ثمانين (أو أكثر من ذلك) في المئة، وصمُّوا آذانهم عن سماع شَكاة هؤلاء الطلاب المظلومين. (1)

وإلى هنا انتهى الدور الأول من هذه المأساة. وأما الدور الثاني فقد بدأ بإبدال مستشار المعارف الذي أساء إلى الإسلام والعروبة في دمشق إساءة لا تمحى أبداً، فسُرَّ الناس وحمدوا الله على أن خلّصهم منه ومن صنيعته عدو الله ترجمانه (2)، ولكن

(1) انظر رسالة «قضية التجهيز: أسبابها ونتائجها» ، وهي تأتي في هذا الكتاب. وفي وقت قريب من نشرها نشر علي الطنطاوي مقالة في «فتى العرب» ، بتاريخ 1/ 7/1930 (4 صفر 1349)، عنوانها «أنقذوا رجال الغد: السقوط المريع في فحوص التجهيز»، وقد أعرضت عن نشرها لذهاب مناسبتها ولتكرار معانيها (مجاهد).

(2)

المستشار هو الفرنسي راجه، وترجمانه ميشيل السبع. لهما أخبار متفرقة في «الذكريات» ، قال:"كان المستشار الفرنسي هو الوزير الحقيقي وهو الآمر الناهي، وترجمانه ميشيل السبع، وكان معاونوه كلهم من النصارى (وما كان ذلك اتفاقاً بل كان شيئاً مقصوداً، وكان مستمراً مع كل حاكم أجنبي أو ماشٍ على مذهب الأجنبي) "(الذكريات 1/ 214). وانظر الرسالة الآتية، وانظر أيضاً مقالتَي «إلى مجلس المعارف الكبير» و «قطعةٌ من حديث (3)» في هذا الكتاب (مجاهد).

ص: 122

سرورهم لم يطل، ولم يلبثوا أن رأوا بليّة جديدة: بلاغ رسمي يخوّل المدارس الأجنبية حق إعطاء شهادة مقبولة كالبكالوريا ويَحْرم المدارس الوطنية من هذا الحق، فكانت النتيجة أن تسجل ثلث طلاب التجهيز في تلك المدارس، وربما لحقهم الثلث الآخر عما قريب.

حقاً إنكم لم تعلموا هذا، لأنكم نائمون لا تعرفون شيئاً! إذن فقد خسرنا «التجهيز». وأما المدارس الأهلية فهي على قسمين: ناجحة ومقصِّرة؛ فالناجحة لا تفترق إلا قليلاً عن المدارس التبشيرية، ولا يغرّنَّ الناسَ أن فيها الشيخ عَمْراً أو العلاّمة زيداً، فهؤلاء فيها إنما يُقدَّمون ليُصرَعوا وليكونوا جُنَّةً تَرُدّ عن المدرسة سِهامَ النقد! ومن كان في شك مما أقول فلينظر من يعلّم، بل من يربي أطفالَ المسلمين فيها، الأطفال الذين هم أنقى من الصفحة البيضاء يرتسم في نفوسهم كل ما يلقى عليهم، إنما تربّيهم امرأة، نصرانية أو يهودية

لا أدري! وما لنا ولهذا؟ أخبروني: أليس لسان المدرسة الرسمي هو اللسان الإفرنجي، أليست دروس الفقه والقرآن فيها سُخرية ولعباً؟

أنا لا أحمل على هذه المدارس لغرض في نفسي، وإنما أتهمها بأشياء هذا بعضها، فلتبرّئ نفسها إذا استطاعت، وأنا أُسَرّ أن أكون كاذباً وأن تكون صادقة إذا كان في كذبي وصدقها صلاح مدرسة يعود صلاحها على الأمة بالنفع العميم. على أنها معذورة فيما تفعل، لأنها تقبض من أجله من السلطة ألوف الفرنكات في العام، فهل يعطيها ربعَها المسلمون إذا هي أرضتهم وأحسنت إلى دينهم؟!

ص: 123

هذه مدارسنا كما رأيتم، وهؤلاء أبناؤكم ذهبوا إلى مدارس الكفر والتبشير، وسيرجعون إليكم غرباء عنكم، على دينٍ غير دينكم، وملّةٍ غير ملتكم، ولغةٍ غير لغتكم. وأنتم؟ غافلون!

* * *

ولنترك المدارس قليلاً، لننظر إلى الطبقة الوسطى والدنيا من الناس: كيف حالها وما هو مبلغ تمسّكها بالدين؟

صليت الجمعة الماضية في جامع السادات (مسجد الأقصاب)، وهو -كما يعلم الناس- من المساجد الكبيرة في دمشق، فلما انقضت الصلاة وخرجنا وجدنا في صحن الجامع خمسة رجال مسلمين أقوياء أشدّاء لو أراد أحدهم حمل بغل لفعل، وهم جالسون يأكلون في بيت الله وصلاةُ الجمعة تقام، وهم يسمعون قراءة الإمام وأصوات الركوع والسجود ولا يصلّون، والناس يمرّون بهم كأنْ لم يكن في الأمر شيء! لا تَهيج فيهم حَميّة الإسلام، ولا يغارون على حرمات الله التي تُنتهَك في بيت الله أمام عباد الله!

أنا لا أعجب من صنع هؤلاء الأجلاف، وإنما أعجب من الناس: كيف لا يغضبون لله، ولا يزيلون المنكر من بيته وهم على إزالته قديرون! فأين هو الإسلام أيها الناس؟

أهو في المساجد؟ انظروا إلى «الأموي» بعد صلاة الجمعة وشاهدوا الناس كيف يتحدثون فيه عن أمور الدنيا، ويغتابون فيه الخلق، ويكذبون ويقسمون ويحنثون! في الأسواق؟ انظروا الباعة في سوق الحرير كيف يصفّفون شعورهم ويصقلون خدودهم

ص: 124

ويتزيّنون كأنهم الفتيات ليلة زفافهن، وانظروا ما يكون بعد ذلك من منكرات ومفاسد! في المدارس؟ وماذا في المدارس؟ إن فيها الداهية الدَّهْياء مما يجري في طي الخفاء من الأمور المخلّة بالشرف والعفاف، فضلاً عما فيها (أو في أكثرها) من فشوّ المنكر وزوال المعروف. في البيوت؟ وبيوت أكثر الرجال تتغلب فيها النساء فيصنعن ما يشأن، وانظر بعد ذلك ما في البيوت من تبرّج وعورات باديات وصلوات معطَّلات، وما وراء ذلك أدهى وأمَرّ. في القرى والمتَنَزّهات؟ هذه شر ما في الأمر!

كل هذا في دمشق، ودمشق جنة إذا قيست بمصر!

ألا لا بد من أن يجتمع الغُيُر على الإسلام، فيتحدثوا فيما لحق به ويختاروا أقرب الطرق لإصلاح أهله، ولا بد من أن نتناصح وينكر كلٌّ على أخيه ما يراه مخالفاً للدين، ولا بد من أن ننصر الدين في كل موطن نقدر على نصرته فيه، فإذا فعلنا صلح أمرنا، وما صلاحه إلا بيد الله، اللهمّ أصلح الحال.

* * *

انتهت الحلقة الأولى من «سيف الإسلام» ووقعت في عشر رسائل، وإنّا نسأل الله التوفيق لجعل الثانية أكثر فائدة وأكبر حجماً وأجود طباعة. (1)

* * *

(1) عثرت على الرسائل العشر جميعاً إلا واحدة، وهي التاسعة. وقد رأيتم فيما مضى من هذا الكتاب سبعاً منها، فالذي نقص رسالتان،=

ص: 125

= الرابعة وعنوانها «في ذكرى المولد» ، والسادسة وهي قصة اجتماعية إصلاحية اسمها «صدقي بك» ، وكلاهما ستجدان طريقهما بإذن الله إلى مواضع مناسبة في الكتب الجديدة التي أرجو أن يوفقني الله إلى إصدارها عمّا قريب. والظاهر أن جدي رحمه الله كان يعتزم المضيّ في إصدار رسائل «سيف الإسلام» في مجموعات متتابعات سمّاها «حلقات» ، فلما أتم هذه العشر الأولى وَعَدَ القرّاء بحلقة ثانية من عشر أُخَر. وليس عندي علمُ يقين بما آل الأمر إليه من بعد، لكن الرسالة الأولى والوحيدة التي وجدتها من الحلقة الثانية جعلتني أخمّن أنها رسالة مُفرَدة من تلك الحلقة لا ثاني لها، وإذن فيكون كل الذي أصدره من رسائل «سيف الإسلام» إحدى عشرة رسالة فحسب. وها هي ذي الرسالة تأتي في الصفحة الآتية، عنوانها «المدارس الأميرية» ، وقد نُشرت في تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه الذي نُشرت فيه سائر الرسائل، 1930 (مجاهد).

ص: 126

رسائل سيف الإسلام

الحلقة الثانية-الرسالة الأولى

المدارس الأميرية

كان شارع «المِسْكيّة» (1) مساء السبت الماضي أشبه بالمحشر، حُشر إليه طلاب المدارس من كل حدب وصوب ليتداركوا حوائجهم المدرسية في مطلع عامهم الجديد؛ فمن غلام يصيح ورجل يساوم وشاب ينادي، إلى فتاة تلحّ وامرأة تهتف وعجوز تهذي! وكلهم يريد أن يسبق رفيقه إلى نيل حاجته وبلوغ طِلْبَته. وإنهم في تزاحمهم لأشبه شيء بتزاحم الناس على الأفران أيام الحرب العامة ليفوزوا برغيف يدفعون به عن أنفسهم غائلة الجوع في تلك الأيام السوداء! (2)

(1) المسكية سوق (أو سُوَيق) بين سوق الحميدية والباب الغربي للجامع الأموي كان مخصصاً لبيع الكتب، وقد أُزيل منذ سنين على ما سمعت (مجاهد).

(2)

يريد الحرب العالمية الأولى، وكان اسمها «الحرب العامة» ، سُمِّيت كذلك يوم لم تكن الدنيا عرفت حرباً عالمية ثانية، وكذلك بقي يدعوها جدي رحمه الله إلى آخر أيامه. وانظر الحديث عن الحرب وما سبَّبَته في الشام من جوع وخوف في الحلقة الرابعة من =

ص: 127

كان معي رفيق لي يرى ما أرى فقال: أما ترى كثرة طلاب العلم وروّاد مناهله؟ أما تسرّ بذلك وتؤمل لسوريا منه النجاح والهناء؟ حقاً إنه مشهد يفرح النفس.

وسكت ينتظر جوابي، فلم أردّ عليه، فعاد إلى إتمام خطبته فقال: ولمَ لا؟ أليس بالعلم تنهض الأمم؟ أليس كل معهد من هذه المعاهد حجراً جديداً في صرح عزنا وبناء مجدنا؟ أليس هؤلاء رجال المستقبل وقادة الغد؟ أليس علمهم مناراً يهديهم سواء السبيل ويدلّهم على طريق الرشاد؟

وراح يهذي بهذا وشبهه. وما أكثر ما يعاني المرء من هؤلاء الذين لا يعرفون الأشياء على حقيقتها فينطقون بعلم، ولا يسكتون فيسترون ما هم عليه من جهل، بل ينطقون، ويُكثرون إذ ينطقون، ويُضجرونك إذ يُكثرون؛ فأنت منهم بين جهل وإضجار! وليس أثقل عليّ من رجل يناقش في الفلسفة ويبحث في أعضل مسائلها وهو لم يسمع بها ولم يعرف من الدنيا إلا تجارة وسوقاً، وآخر يبحث في الدين ويتعرض لتفسير الآيات وتخريج النصوص وهو لا يفقه من الدين إلا أن في الدنيا شيئاً اسمه الدين! ولو عقل هؤلاء لأخذوا فيما خُلقوا له وتركوا ما ليس من شأنهم فاستراحوا وأراحوا. وما لهم ولما لم يعرفوه؟ ما للطبيب وللبلاغة، والتاجر والفلسفة، والمهندس والأصول؟ ولكن الخوض في كل شيء

= «الذكريات» ، قال:"كنت أمشي إلى المدرسة من داري في العُقَيبة فأرى الفرن مسدودةً واجهتُه بالخشب ما فيها إلا طاقة صغيرة، والناس يسدّون نصف عرض الطريق، يطلبون أرغفة من الخبز الأسود فلا يكادون يصلون إليها"(مجاهد).

ص: 128

صفة تمكنت من كثير من الأنفس فكانت لها طبعاً وسجيّة، وإن منها لنفس صاحبي الذي حَسِبَ سكوتي عنه رضا بما يقول، فأطال القول واشتد فيه، وأثبت ودلّل وأفصح وأجزل، حتى إذا حسب أنه وفّى كل شيء حقه ولم يدع في البحث مجالاً لقائل سكت وتنفس الصعداء، والتفت إليّ يرقب مني كلمة التشجيع والثناء على حسن بيانه وبلاغة لسانه وحدّة جنانه، فقلت له: أتحسب هؤلاء يُخلصون للعروبة والإسلام ويدافعون عنهما إذا هم صاروا رجال المستقبل وأُلقيت إليهم مقاليد الأمور؟ أتظن هذه المدارس تعمل على خدمة الوطن وتهيئة رجاله العالمين؟ أترى هذا العلم الذي يتلقفه هؤلاء خيراً من الجهل المطبق؟

قلت هذا ولحظته، فوجدته يكاد ينفجر بصيحة إنكار مرعبة تجمع علينا الناس وتقوّض الشارع على من فيه، يقول فيها: أتهين العلم؟ أتحتقر المدارس؟ يا جاهل، يا متعصب، يا رجعي!

فسرت في حديثي ولم أدع له وقتاً يقذف فيه هذه الصيحة المنكرة التي اتخذها أشباهه من الشبان «الناهضين» و «المتنورين» سلاحاً يغمدونه في صدور أمثالنا من الشبان «الجامدين» ! تابعت حديثي، ولكني التفتُّ فلم أجد صاحبي لأنه فرّ وانهزم، أو هو - على التعبير الجديد- أعلن استياءه مني بالانسحاب! وقد أراح الله قرّاء هذه الرسائل من حديثه وأخباره، فليسمعوا ما هو أهم منها، وليصغوا إلى ما أحدثهم به، فإني بادئ بصلب الموضوع.

* * *

أشرت في الرسالة الماضية (الرسالة العاشرة من الحلقة

ص: 129

الأولى من هذه الرسائل) إلى المدارس الثانوية وأثبَتُّ أنه ليس في دمشق مدرسة ثانوية واحدة تخلص للعروبة والإسلام وتنجب رجالاً يحترمونهما ويضحون في سبيلهما، وأريد الآن أن أتكلم عن المدارس الابتدائية.

المدارس الابتدائية في دمشق أميرية (حكومية) وأهلية وأجنبية، أما الأجنبية فهي -بالاختصار- قلاع نصبها العدو في بلادنا وسلّط مدافعها على قلوب أبنائنا، فهي تستعمرها إلى الأبد وتمتلكها إلى يوم القيامة، ومن يبعث بابنه إلى واحدة منها خائنٌ للوطن عدوٌّ له، يجب أن يُنبَذ ويُطرَح ولا يُحفَل به، كائناً مَن كان.

وأما الأهلية فصالحة نوعاً، وإذا كانت بها علّة فهي علّة الفقر والعجز المالي، وعلّة الفوضى والاضطراب الإداري، ولكنها -مع هذا كله- الوفية للدين والوطن المخلصة للّغة والماضي.

وأما الأميرية (ونستطيع أن نقول إنها كل شيء عندنا) فسنتكلم عنها بنوع من الإسهاب والتفصيل.

يعلم القارئ من كان يقوم بأمر وزارة المعارف ويتولى شؤونها، دقيقها وجليلها، حتى ما يفوته منها صغير ولا كبير

أو هو لا يعلم، فأُخبرُه أنه «المستشار» . وأشهد أن هذا المستشار، المسيو راجه، على جانب من الذكاء والفطنة عظيم جداً، وبهذا الذكاء وهذه الفطنة استطاع أن يخدم قومَه خدمة لم يقوَ عليها كلُّ ما عندهم من قوة وجُنْد وعتاد، فقد عرف كيف يأكل الكتفَ، بل ويُتبعها بالرقبة! وقَدِر أن يضمن لقومه أمة تُنشَّأ في سوريا تكون

ص: 130

وفية مخلصة، لا للعروبة والإسلام، هيهات، بل لفرنسا!

ما للقارئ يعجب ويستغرب ما أقول؟ إنه في منتهى الجلاء والوضوح. أبناؤكم الآن هم رجال المستقبل، فإذا ربّاهم كما يريد وأنشأهم كما يشاء أصبحت أمة المستقبل كما يشاء. ولا تعجبوا، فقد بلغ من حرصه على طمس معالم الإسلام أنه أغلق مدرسة لأنها تسمى مدرسة «التهذيب الإسلامي» ! وأخرج مدرّساً من خيرة المدرسين وأقدرهم، هو الشاعر سليم الزركلي، لأنه ألقى قصيدة له في محفل فيها ذكر حضارة العرب والمسلمين ومجدهم!

ولندع هذه القصص الفردية، ولنأخذ في الكلام على القضايا الجوهرية التي نأخذها على المدارس الأميرية.

* * *

إنما تقوم حياة الأمم على ثلاث دعائم: الدين واللغة والتاريخ. فلننظر مبلغ عناية الوزارة بهذه الدعائم الثلاث.

(1)

الدين: ماذا فعلت «المعارف» بالدين؟ هل تريدون الجواب الواضح الموجز؟ إنها نبذته وأهملته! لقد كتبنا في «الفتح» منذ عامين، يوم ظهر برنامج المعارف الجديد، فصلاً كشفنا فيه الستار عن إهمال الدين في المدارس، ولقد كان له أثره المحمود، وأذكر أن الناس قاموا له وقعدوا وذهب وفد منهم إلى الوزارة يراجع ويتثبت، فوعدوه خيراً وطبعوا برنامج الدروس الدينية على حدة ليرضوا به كل من ينازع ويشكو. ولكن ماذا كانت النتيجة؟

ص: 131

كانت النتيجة أنه بقي حبراً على ورق (كما يقولون)، ولبثت العلوم الدينية مهمَلة على حالها. نعم، إنها تُدَرَّس، ولكن ما الفائدة من تدريسها إذا لم تكن درساً رسمياً يُفحَص به الطالب ويسقط إذا قصّر فيه؟ وهذا فحص الشهادة الابتدائية: هل في دروسه الرسمية شيء من علوم الدين؟ ومن يقول إن الطالب يجتهد على الدرس ويُعنى به إذا علم أنه لا شأن له في ترفيعه من صفّه أو بقائه فيه؟ هل يدرس الطلاب إلا لأجل الفحص؟ نحن الطلاب في المدارس العالية لا نطالع إلا لأجل الفحص والشهادة، فما قولك بالأطفال؟ وما تكون دروس الدين إذا عرف الطلاب أنها دروس ثانوية لا قيمة لها؟ طبعاً إنها تكون لعباً وسخرية. هذا هو الواقع!

(2)

التاريخ: إن المدة المخصصة لدراسة التاريخ العربي كله لا تكفي لدولة واحدة من دوله، فيضطر المدرّس إلى الكلام على الدولة الطولونية أو الحمدانية مثلاً في ساعة واحدة أو ساعتين على الأكثر، بل يضطر إلى إهمال كثير من الدول الكبرى، فلا يذكر للتلاميذ أكثرَ من اسمها. والطالب الصغير يدرس في الصف الثاني تاريخ الفنيقيين قبل أن يدرس الخلفاء الراشدين، بل قبل أن يعرف شيئاً عن سيرة محمد عليه الصلاة والسلام! ويخرج الطالب من المدرسة الابتدائية وقد عرف عن نابليون أكثر مما عرف عن عمر بن الخطاب أو قُتَيبة بن مسلم، وقد علم من تاريخ فرنسا أكثر مما علم من تاريخ الأمويين! وهاكم التلاميذ: سلوا أشدَّهم نَباهةً عن نابليون وسَلُوه عمّن شئتم من رجال المسلمين، فإذا عرف عنه كما عرف عن ذاك فأنا الكاذب وأنتم الصادقون!

ص: 132

(3)

اللغة: كلمة واحدة لا أقول أكثر منها: أطلب تسوية اللغة العربية باللغة الفرنسية، وأن يعنوا بها عنايتهم بتلك! فإذا كان هذا (وهيهات أن يكون ونحن نائمون!) فقد صلح الأمر. إذن فهو فاسد الآن، وإذن فعنايتهم بها أقل من عنايتهم بالفرنسية؟ نعم، ومن شاء تفصيلاً فليطلبه في أعداد «فتى العرب» ففيها كل ما يطلب، ولقد أوسعنا هذا الأمر كتابة يومئذ، ولكن لم تُجْدِ عملاً (1).

ولو أن قومي أنطقتني رماحهم

نطقتُ، ولكنّ ........... (2)

* * *

هذه هي حالة المدارس الأميرية أيها القارئ، وهذا كله ولم أخبرك بشيء من السقوط الأخلاقي المريع الذي وقع فيها، ولم أنبئك بشيء من أخلاق المعلمين وصفاتهم!

أيها الناس: لا تحسبوا أن في القضايا كلها ما هو أهم من قضية المدارس. إنها قضية حياة أو موت للأمة كلها، وإن لكل منكم الحق في أن يطالب بإصلاحها ما دام ابنه أو بنته فيها؛ فلا

(1) انظر من سلسلة «مشاهدات وأحاديث» : «إلى مجلس المعارف الكبير» و «عقوق» و «ضاع الأمل» و «مَن للعربية؟» ، وقد مضت كلها في هذا الكتاب (مجاهد).

(2)

«ولكنّ الرِّماحَ أَجَرَّتِ» ، والبيت لعمرو بن معديكرب. قال في «اللسان»:"أي لو قاتلوا وأبلَوا لفخرت بهم، ولكن رماحهم أجَرَّتْني، أي قطعت لساني عن الكلام بفرارهم وعدم قتالهم. وهو من قولهم: أجررت الفَصيلَ إذا شققت لسانه لئلا يرضع". والفَصيل ولد الناقة إذا فُطم (مجاهد).

ص: 133

تقرؤوا هذه الرسالة لتقبعوا في بيوتكم وتثابروا على أعمالكم كأن شيئاً لم يكن، بل اهتموا بهذا الأمر واسعوا جهدكم لإصلاحه.

أيها الناس: إن الجهل خير من هذه المدارس! ويجب أن تنشئوا مدرسة إسلامية وطنية، ولو بثمن الخبز الذي تأكلونه والرداء الذي تلبسونه، ولو بقيتم اليومين والأيام بلا طعام ولا لباس!

أيها التجار المسلمون، أيها الأغنياء، أيها الموسرون: أناشدكم الله أن تبذلوا من أموالكم ما تقدرون عليه لإنشاء هذه المدرسة. والله إنني لا أملك في الدنيا إلا بعضاً من خزانة كتب هي أعز عليّ من نفسي، ولكنني أبذلها راضياً في هذا السبيل. أنفقوا ولو قليلاً من مالكم، فإن القليل إلى القليل كثير. إن الله سيسألكم عن أبنائكم أين قذفتم بهم، فاتقوا الله فيهم.

أناشد الله كلَّ من تقع في يده هذه الرسالة من المسلمين أن يبذل أكبر مقدار من المال يقدر عليه لإنشاء هذه المدرسة، وأن يسعى لتكوين جمعية تتولى أمرَ تأسيسها. أناشد الله كل من يقرأ هذه الرسالة أن يحدّث بها أصدقاءه وذويه ويحثهم على نصرة هذه المدرسة وإخراجها إلى الوجود.

اللهُمَّ هل بلّغتُ؟ اللهُمَّ اشهد.

* * *

ص: 134