الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدب القومي أيضاً
نشرت سنة 1933 (1)
[قرأنا -ولمّا نمسح القلم من مقال «الأدب القومي» - فاتحة عدد الأمس التي تكلم فيها الأستاذ يوسف (2) عن فلسطين وأنذر العرب «داهية دَهياء لا ينادى وليدها»، فأحببت أن أعلق عليها بهذه الكلمة.]
أريد أن أخاطب بهذه الكلمة أدباء العربية جميعاً، وأريد أن يتريّث إخواننا الأدباء العاطفيون في الحكم عليها، ولا يثوروا ثورتهم المعروفة على كل من يقدح في عاطفتهم المقدَّسة، فلست
(1) نُشرت في «ألف باء» بتاريخ 15/ 10/1933 (25 جمادى الآخرة 1352)، بعد المقالة السابقة بيومين. وفي الحلقة الثانية والستين من «الذكريات» إشارة إلى هذه المقالة؛ قال: "كأني كنت (وكان غيري ممّن يكتب عن هذه القضية) نحس بالخطر الذي يتربص بفلسطين وأهلها، ما اطّلعنا على الغيب ولكن المقدمات أشعرَتنا بالنتائج. فكتبت وكتب مَن هو أكبر مني في البلاغة قدراً وأعلى في البيان مكاناً وأعرف بالسياسة ظواهرها وخفاياها، نصرخ في قومنا كما كان يصرخ في القبيلة النذير العريان
…
" (الذكريات 2/ 324)(مجاهد).
(2)
يوسف العيسى، وهو صاحب جريدة «ألف باء» ، راجع الحديث عنه في الذكريات: 1/ 398 وما بعدها (مجاهد).
أنكر عليهم أن يحسّوا وأن يتألموا، وأن يصفوا هذا الألم العبقري ويُخرجوا للناس في وصفه الآيات البيّنات، ولكني أسألهم:
أيهيج نفوسَكم ويؤلمكم ويسوّد الدنيا في عيونكم حبيبٌ يُعرِض عنكم، أو ليلة وصال منه تخسرونها، أو ابتسامة يُحجَب عنكم نورها، ولا يؤلمكم أمة في فلسطين تضيع بقَضّها وقَضيضها، يهاجمها في عقر دارها أذلّ شعب وأهونه على الله والتاريخ؟
ألا يؤلمكم أن تُمحى صفحة بيضاء من سجلّ حياة أمتنا على وجه الأرض؟ ألا يحرك شعوركم وعاطفتكم هذا كله يا أدباء العربية؟ فأين هي إذن «القصائد الفلسطينيات» ؟ وأين «الروايات الفلسطينيات» ؟ أين الأقلام الحرّة المؤمنة التي يتطوّع أصحابها ليكونوا جنوداً في معركة فلسطين: تصف نكبة فلسطين وتحرّك الدنيا لنصرة فلسطين، بل تهزّ قبل ذلك أهل فلسطين وجيران فلسطين ليتداركوا فلسطين قبل أن يأتي يوم يندمون فيه، وليس ينفع في ذلك اليوم الندم؟
إننا نعلم أن الشعراء أرقّ الناس شعوراً وأدقّهم إحساساً، وأن الشعر من الشعور، فعلامَ لا نسمع هذا الشعر؟ أليس هذا كله ثمرة انصرافنا عن الأدب القومي وتقليدنا تقليداً أعور هؤلاء الشعراء الرومانسيين من الفرنسيين وغير الفرنسيين الذين يرون الدنيا كلها في نفوسهم، ويعيشون للهوى والعاطفة؟ في حين أن هذا المذهب قد مات اليوم في وطنه، وأن كثيراً من أولئك الشعراء أنفسهم كانوا في مقدمة المدافعين عن أوطانهم، وكانوا إذا جَدَّ الجِدُّ نبذوا هذه الترّهات جانباً وتقدموا للنضال، حتى إذا انجلى الغبار وأمِنَ الناس استسلموا إلى هذه الأحلام وهم نيام،
فكان هذا الأدب مجموعة هذيانهم في أحلامهم.
أنا أراهن على أن أكثر الناس لا يدرون من أمر فلسطين إلا قليلاً ولا يعلمون عن نكبتها شيئاً، فلينظم الشعراء القصائد في نكبة فلسطين، وليتغنَّ المغنّون بشعر فلسطين، ولتؤلَّف اللجان في كل بلد عربي، في كل بلد مسلم لإنقاذ فلسطين، ثم انظروا ما يكون: مَن يقرأ هذا كله أو يسمعه ثم يقيم آمناً في داره يأكل ويشرب ويلهو ويلعب، ولا يقول لأولاده وبناته: اقتصدوا في نفقاتكم ووفّروا ما تشترون به الحياة لإخوانكم، لنجتزئ بالثوب عن الثوبين، وباللون من الطعام عن اللونين، ثم ندفع هذا وذاك ثمناً لحياة فلسطين
…
وقد دفعه أجدادنا في حطين يقودهم صلاح الدين؟
لقد مرّ على دخول الإنكليز فلسطين خمس عشرة سنة، ودخول اليهود معهم، حشرات متعلقات بأذنابهم. أفما تكفينا خمس عشرة سنة (1) لنصحو من نومنا ونفتح عيوننا، فنبصر الماء يجري من تحتنا وبوادر النار من حولنا، والهوة السحيقة أمامنا نمشي إليها بأقدامنا؟ إن كل عربي وكل مسلم على وجه الأرض مسؤول عن نكبة فلسطين ومُلام إن قصر بالدفاع عنها. لم تأتِ الآن معركة الدم والحديد، فلنحارب بالمال، لنردّ عدوان اليهود بالفكر السديد، بالخُطَط المدروسة، بالاتحاد، وقبل هذا كله وبعد هذا كله بالعودة إلى الله، لأن العدوّ مهما كبر ومهما كبر مَن يعينه وينصره فالله أكبر، فمن كان مع الله لم يخَف أحداً.
(1) دخل الإنكليز فلسطين سنة 1918، عقب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (مجاهد).
لنبدأ بجمع المال لإنقاذ فلسطين، ليقدّم كلٌّ ما يستطيع لا يخجل به مهما قلّ. أنا رجل مفلس، ولكني أستطيع أن أقدّم نصف ليرة كل شهر، فليقدم كلٌّ ما يستطيع. إن السائل الذي يمدّ يده إلى الناس يستطيع أن يقدّم نِكلة في الشهر، فليقدّمها. نكلة في الشهر، وقرش في الشهر، وفرنك في الشهر، وربع ليرة في الشهر، ونصف ليرة في الشهر (1)
…
تجمع مبلغاً ضخماً من المال يكون له أثره في إنقاذ فلسطين.
* * *
الأدب، ثم المال، ثم الدم
…
هذه هي أركان الحياة؛ فإذا كان فينا مخلصون فليسيروا في هذا الطريق بخطوات سريعة وثابتة.
يا أيها الناس، إخوانكم يُطرَدون من ديارهم ويموتون، فاشتروا حياتهم بمالكم. إن شبح الموت يلوح في أدنى الأفق، ولا يجوز الصبر يوماً واحداً. إن النار إذا بلغت فلسطين فإننا نحترق لا محالة.
* * *
(1)«النكلة» نصف قرش سوري، ولم أدركها، و «الفرنك» خمسة قروش، وقد أدركته مدّةَ طفولتي وشبابي. وكانت الليرة عشرين فرنكاً (أو مئة قرش)، وقد انقرض ذلك كله اليوم وصارت الليرة هي أصغر قطعة نقدية في البيع والشراء (مجاهد).