الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أطلال الخضراء
نشرت سنة 1930 (1)
في زقاق القباقبية، في الجهة الجنوبية من «الأموي» ، باب من أبوابه قديم ومصبغة من مصابغ الشام صغيرة، نعرفها كلنا ونمرّ بها كثيراً دون أن نلقي لها بالاً ودون أن نعلم ما فيها.
هذه المصبغة التي تأنف أن تطيل الوقوف بها، وتفزعك ظلمتها وتنفّرك رائحتها، كانت قبل ثلاثة عشر قرناً قصراً شامخ الذرى، عالي الشرفات، قوي الدعائم، تحف به الأبَّهة والوقار ويفوح منه رَوْح النَّدّ والعنبر. وهذا الزقاق الضيق المظلم الذي تمسك بأنفك إذا جزته لتنجو من روائحه الممقوتة، وتحترس في نقل خطاك إذا سرت فيه كَيْلا توحل، كان في عهد عز القصر شارعاً عظيماً تملؤه صفوف الحُجّاب وفصائل الحرس ووفود الملوك.
لنعد فنقطع في جادة الزمن ثلاث عشرة مرحلة، لنرجع إلى عهد بني أمية حيث القصر زاهٍ في دمشق، وسكانه:
(1) في «فتى العرب» بتاريخ 4/ 6/1930 (8 محرم 1349)، وهي منشورة في كتاب «الهيثميات» .
عالونَ كالشمس في أطراف دولتها
…
في كل ناحيةٍ مُلْكٌ وسلطانُ
وحيث مسجد بني أمية خالص لبني أمية، ومنبره يسعى -لو كان به سعي- لخطباء بني أمية، والمسلمون يهتفون في مشارق الأرض ومغاربها للخلفاء من بني أمية. وحيث رب القصر ينطق بالكلمة، فتحملها الرياح إلى البوادي والفلوات والمدن والبلاد والجبال والتلال، فلا تبقى في الأرض بقعة لا تبلغها ولا في الدنيا جبار لا يخضع لها ويطأطئ برأسه لجلالها. وحيث راية بني أمية يحملها قُتَيبة والمغاوير من جنده إلى الهند فيرفعها على جبالها، وطارق والأشاوس من رجاله إلى الأندلس فينشرها في أرجائها، وحيث الناس ما بين الهند والأندلس رعية بني أمية، يدعون لبني أمية ويعيشون بالأمن والسعادة في ظلال بني أمية.
لبني أمية الله! لقد هُدمت قصورهم الشمّاء وعَفَتْ آثارها، وحالت مصبغة! (1)
* * *
(1) في آخر الحلقة الثامنة عشرة من «ذكريات» علي الطنطاوي قال: "سوق القباقبية كان في موضعه «الدار الخضراء» ، دار معاوية وأكثر الخلفاء من بني أمية
…
كل ما في الدنيا يولد ويموت ويعزّ ويذل، فالدار الخضراء التي كانت يوماً عاصمة الدنيا وسرّة الأرض، ومنزل الخلفاء من بني أمية الذين كانوا يحكمون ما بين قلب فرنسا وقلب تركستان وأطراف باكستان، وكانت محط الآمال ومطمح أنظار الرجال، صارت سوقاً للقباقيب! ولم يبقَ من اسم «الخضراء» إلا مصبغة صغيرة تحت الأرض هي المصبغة الخضراء! " (مجاهد).
لبني أمية الله! بعد العظمة والجلال يصبحون غرباء في أوطانهم، لا يُرى لهم أثر ولا يُعرَف لهم تاريخ.
أتنسين يا دمشق أيامك الزاهرة التي كنت فيها درة العالم ومدينة الجلال؟ أتنسين أهليك من بني أمية فلا تقيمين لهم أثراً ولا تبنين لهم ذكراً؟ أتنسين يا دمشق معاوية وعمر والوليد، وقد ساقوا إليك أعظم الملوك خاضعاً خانعاً، وأورثوك أغنى الخزائن حلالاً سائغاً، وجعلوك مدينة العلم والقوة والعمران؟ ألم تثبّت أميةُ أركان الإسلام؟ ألم توثّق عراه؟ ألم يفتح قوّادها العالمَ كله ينشرون الإسلام في أهله ويهدونهم سبيله؟
لقد طوى الدهرُ أميةَ فيما طواه، وأغرقت لُجّة بحره الطامي القصورَ والديار والأطلال والآثار، فكأنّما عِزُّ أمية رواية مُثِّلَت على صفحة الزمان ثم انتهت، فعادت الصفحة بيضاء لا شيء فيها! ولكن لا بأس، ولا يضيركم يا بني أمية أن تُهدم قبوركم وتندثر آثاركم، فقبوركم في التاريخ وفي الأفئدة:
إن تسل أين قبورُ العظماء
…
فعلى الأفواهِ أو في الأنفسِ
* * *