الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة بمناسبة كثرة الزعماء
صفات الزعيم الحقيقي
نشرت سنة 1932 (1)
قال لي مرة صديق فَكِه خفيف الروح: إذا نحن احتجنا إلى أوربا في شيء واضطررنا إلى استيراده منها فإن لدينا بحمد الله شيئاً واحداً يزيد على حاجتنا ونستطيع أن نصدّره إلى بلاد الله جمعاء.
قلت: وما ذاك يا صديقي؟
قال: الزعماء!
فضحكت، ولكني رأيت وراء مقالته هذه الفَكِهة حقيقةً تُضحك، وشرُّ البلاء ما يُضحك! وذلك أن الزعامة عندنا انحطت عن معناها الأصلي وأصبحت مباحة للناس أجمعين، فليس بين المرء وبين أن يكون زعيماً إلا شهر في منفى (وهذا خير طريق للزعامة)، أو أسبوع في سجن، أو صياح في محفل، أو هتاف في مظاهرة
…
حتى بلغ الأمر من الفساد حداً نسي معه الناس أن الزعامة تكون بغير هذا أو يلزم لها غير هذا! في حين أن للزعيم
(1) في «ألف باء» بتاريخ 29/ 6/1932 (25 صفر 1351).
الحقيقي صفات أصلية نستعرضها فيما يأتي من كلام، ليعلم الناس الزعيم «الأصلي» من الزعيم «الزائف»:
أولها أن الزعيم يكون ذا مواهب أسمى من مواهب الجمهور يستطيع أن يعبّر بها عن رغباتهم ويمتلكهم بها. ومن هذه المواهب، بل من أشدها ضرورة للزعيم ومما لا يمكن أن يكون بدونه زعيماً، موهبة الخطابة وما يتصل بها: من ذكاء متوقد، وبديهة حاضرة، وثقافة واسعة، واطلاع على أساليب البلغاء. وليس كل من صاح ووجد له حنجرة متينة وصوتاً عالياً وكان يعرف القراءة في الورق خطيباً، بل الخطيب هو الذي لو قال لمستمعيه إن ليلكم هذا نهار لقالوا: نعم! وليذكروا أن خطبة من طارق فتحت الأندلس، وخطبة من نابليون طأطأت لها جبال الألب رأسَها حتى وطئها جيشه.
هذه هي الصفة الأولى اللازمة للزعيم، والثانية: أن يجعل مبدأه الذي يدعو إليه ديناً يدين به الناس وشريعة يعتقدونها، فلا يكفي أن يموج الشعب ويثور، بل يجب أن يعلم لماذا يثور وأن يُقْدم على التضحية بإيمان ثابت وعزم أكيد.
والصفة الثالثة للزعيم: أن يكون في نفسه مثالاً للتضحية، فلا يستأثر دون قومه بشيء، ولا يعمل من أجل منفعة شخصية أو أجر يناله، بل يسعى ليُفهم الناس كلهم أنه أول الناس إيماناً بما يدعو إليه وأكثرهم تضحية في سبيله.
فَلْنَزِنْ زعماءنا بهذا الميزان ولْنَقِسْهم بهذا المقياس، ثم لننظر كم يبقى منهم!
* * *