الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التربية الوطنية والدينية
نشرت سنة 1933 (1)
[سادتي الأساتذة الأجلاء التنوخي وصليبا وعيّاد (2):
أما وقد سُجِّل عليكم أنكم القائمون على تحرير مجلة المعلمين والمعلمات، وغدوتم مسؤولين عند الله والناس عن هذه المجلة وعن الحركة الإصلاحية في التربية، فليس لكم بد من أن تولوها من العناية أكثر من منحكم إياها أسماءكم الكبيرة لتتكئ عليها في نهوضها وظهورها للناس، وأكثر من منحكم إياها مقالة كل شهر تكتبونها على عجل كتابةَ مَنْ يودّ الخلاص من تكليف لا كتابةَ مَنْ يكتب لنفسه.
وإذا كان الناس يجدون للسيد محمود مهدي (3) العذر
(1) في «ألف باء» بتاريخ 27/ 12/1933 (10 رمضان 1352).
(2)
هم عز الدين التَّنوخي وجميل صليبا وكامل عَيّاد، ولهم جميعاً أخبار متفرقة في «الذكريات» فمن شاء اطّلع عليها هناك (مجاهد).
(3)
هو محمود مهدي الإسطنبولي، رفيق علي الطنطاوي في شبابه وكهولته. وكانت في علاقتهما طرافة، فلا يلتقيان لقاء إلا وينتهي =
في ظهور المجلة بهذا الشكل (لأنه كان منفرداً بالنهوض بها) فلا والله لا يجدون لكم عذراً، وإن لم تقم مجلة المعلمين على عاتقكم -وأنتم خير من ينهض بها في دمشق- لا تَقُمْ لها قائمة. وأنتم يا سادتي تهتمون بنهوضها وتقدمها ويسركم أن تسمعوا الآراء في ذلك، ثم يكون إليكم تمحيصها وقبولها أو رفضها. وهذا رأي أراه صواباً إلى حين أسمع البرهان على غير ذلك، فإذا تفضلتم بقراءته أكون لكم شاكراً ويكون لكم الفضل.]
إننا نسوق هذه الكلمة إلى كُتّاب مجلة المعلمين والمعلمات وقُرّائها صريحة واضحة، لا نسلك فيها سبل التعريض ولا نُجَمجم فيها القول، آملين ممن يرى فيها رأينا أن يعمل بهذا الرأي ويأخذ في إذاعته، وممّن يخالفنا فيه أن يقرع بحجّته حجّتَنا ويأكل بدليله دليلنا.
وذلك أننا نعتقد أن في مباحث التربية ما هو لازم لنا لا مناص لنا من نشره والعمل به، فهو بمثابة الغذاء الذي ما منه بُدّ. وفيها ما هو بمثابة الحلوى، فيها لذة وفيها متعة، ولكن المرء يعيش وإن لم يأكلها. وفيها ما هو بمثابة الدواء، نأخذ منه ولكن
= بخلاف؛ فقد كان محمود مهدي يترك كل المسائل التي يتفق الاثنان عليها ويتحرى القليل الذي يختلفان فيه فيثيره، وكان محباً للجدال طويل النّفَس فيه، فلا يزال يجادل حتى ينتهي اللقاء بخصام. ثم يلتقيان من بعد فيعودان إلى المودة والصفاء، فيتكرر الأمر في المرة الثانية كما كان في الأولى، وهكذا في كل لقاء على مر السنين. رحم الله الاثنين (مجاهد).
بقَدْر مقدور لعلّة معروفة. ومنها ما هو بمثابة السم، كيفما تأخذه لا يأتي بخير (1).
أما النوع الثاني والأخير فخيرٌ لنا أن ندع البحث فيه في المجلة، وأن لا نملأ به صفحاتها ونهمل من أجله النوع الأول والثالث، وهما كل ما نحتاج إليه اليوم. على أنّ جُلّ ما يُنشَر في المجلة هو من النوع الثاني والأخير! فطريقة تدريس الرسم شيء لذيذ ممتع ولكنه كلذة الحلوى، لا تصلح للجائع الذي لا يجد الخبز. وترجمة بحوث التربية من الفرنسية شيء حسن، ولكنه ثوب خُلق لغيرنا، فلنصلح أكمامه وجيوبه حتى تصلح لنا قبل أن نلبسه واسعاً نضيع وسطه أو ضيّقاً يتمزق من دوننا! وليُعلَم أن هذه البحوث تختلف عن البحوث العلمية في الكيمياء وأمثالها، ولا يجوز أن نطلق عليها اسم «العلم» وننقلها على أنها حقيقة لا تتبدل، فهي تتبدل بتبدل العادات والسجايا الوطنية والدينية التي تنشأ عنها قواعد التربية. ولا شك أن كثيراً من هذه البحوث مما لا نستسيغه ولا يتواءم وعاداتنا وسجايانا الوطنية والدينية، كما لا يستسيغ الألماني بحوثَ التربية الأميركيةَ والفرنسيُّ اليونانيةَ والإسبانيُّ الإيطاليةَ.
وأما النوع الثالث فهو ضروري لنا ضرورة الدواء للجسم
(1) الأشهر والأصح أن «كيفما» لا تجزم الفعلين بعدها؛ هذا هو مذهب سيبويه وعامة البصريين، وخالف فريق من الكوفيين فاختاروا الجزم، وله عندهم شروط ليس هنا محل تفصيلها. وإنما أدرجت هذه الملاحظة خشية أن يظن بالشيخ اللحنَ بعضُ من يتلقّون في المدارس خلاف ذلك (مجاهد).
العليل، ولكن لا نكاد نجد منه في المجلة شيئاً يُذكَر. وأنتم ترون هذه الآفات تفتك بأخلاق أبنائنا وتجعل من بعضهم -وهم رجال الزمن الآتي وعماد صرحه- عنصراً ثالثاً، فيه لين وضعف ويختلف عن عنصرَي البشر المعروفَين! وترون هذه العادات السيئة تهدم علينا المدرسة الأولى، مدرسة الأم، وتجعلها عاملاً على الفساد وغرس بذور الشر في نفوس النشء! وترون هذا التدهور العلمي المريع في إخواننا المعلمين، حيث ينصرف أكثرهم عن المطالعة والدرس ويودّعهما وداعاً لا لقاء بعده من يوم يودّع المدرسة، فلا تمر عليه سنة بعد ذلك إلا ازداد فيها جهلاً
…
هذا كله نراه عياناً ونحس خطره، ثم لا نحرك قلماً في نقده وبيان علاجه؟
وأما النوع الأول فهو ركن التربية، بل ركن الحياة؛ وهو التربية الوطنية والدينية. وإن من آكد الواجبات على المشرفين على الحركة التعليمية في هذا البلد، من رجال العلم ورجال الأمر، أن يعتنوا بها ويرفعوا من شأنها، ويجعلوها المبدأ الذي عنه يَصدرون والغاية التي إليها يسعون.
التربية الدينية والوطنية هي التي تحفظ لنا كياننا قائماً، وتجعل منا أمة حية متماسكة البنيان ثابتة الدعائم. وأعني بها تلك التي تحل فيها الحقائق الوطنية والدينية المحل الأول، وتكون الغاية منها إخراج رجال صِلاب يصلب بهم صرح الوطن، لا رجال مائعين يذوبون في فكرة الإنسانية.
ولست أنكر أن فكرة الإنسانية من أجمل السخافات وأحلاها، ولكنها لا تخرج عن أنها سخافة. «الإنسان أخو الإنسان» ؟ كلام
حلو، ولكن هل له من حقيقة؟ النحّاس (رئيس وزراء مصر) أخو السير بيرسي لورين؟ غاندي أخو الملك جورج؟ الشيخ أمين الحسيني أخو اللورد بلفور؟ أنا أو أنت يا صديقي القارئ المسكين أخو الكونت دومارتيل؟! (1)
ليس في الدنيا فكرة إنسانية ما دام القائلون بها كذلك الذي كان يذبح العصافير في يوم بارد، فقال عصفور (رأيه كرأي بعض إخواننا): أما ترى شفقة هذا الإنسان وبكاءه علينا؟ فقال الآخر: ويحك، لا تنظر إلى الدموع في عينيه، بل انظر ما تصنع يداه! وليس في الدنيا فكرة علمية في التربية والتاريخ، وكبارُ العلماء يدوسون أقدس شيء في هذه الفكرة ليصلوا إلى تحقيق مأرب وطني.
ومهما يكن من أمر الإنسانية والعلم ودخلهما في التربية فإنهما لا تغنيان عنّا من الحياة شيئاً، فيجب أن نحيا أمةً مستقلة قوية قبل كل شيء. ولا حياة لنا إلا إذا ارتكزت برامجنا في التربية والتعليم على مبدأين عظيمين: الله والشعب، أي الدين والتاريخ، حتى لا يكون في هذه البرامج بحث أو كلمة تخالف الدين أو تُضعف أثره في نفس صاحبه، ولا يكون في المعلمين معلم واحد يعمل على هذه المخالفة أو هذا الإضعاف، ولا يكون فيها صفحة واحدة من تاريخ أجنبي -مهما كان هذا التاريخ- إلا بعد أن نحيط
(1) الكونت دومارتيل هو المفوَّض السامي الفرنسي في سوريا، وقد عُيِّن خَلَفاً لسَلَفه، المسيو بونسو، قبل نشر هذه المقالة بأربعة وسبعين يوماً (مجاهد).
بتاريخ أمتنا كله ونفقهه حق الفقه، وأن تكون رواية هذا التاريخ بأسلوب يبعث الفخر بمواقفه الظاهرة والتأثر بمآسيه، وأن تُشرَح فيه عظمة العلماء شرحاً يجعل منهم في نظر التاريخ مصابيح للإنسانية خالدة وينقش أسماءهم على صفحات قلبه.
* * *
هذا ما أرجو أن تعنى به مجلة المعلمين والمعلمات، أنشره موجزاً، وأرقب من الأساتذة الأجلاء القائمين عليها رأيهم فيه.
* * *