الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خواطر غريب
كُتبت في مصر سنة 1929
[بعثت بهذا الفصل من القاهرة إلى «القبس» الغراء، فنشرته بعد أن أرسلتُ لها فصلاً قبله مزقه أحد محرريها لأنه رآه -حفظه الله- لا يشبه إنشاء الصحفيين، وإذن لا يصلح! فبقي هذا، وليس فيه من الخيال أو المبالغة ذرة واحدة، ولم أغير فيه حرفاً واحداً. (1)]
كانت لي آمال وكنت أسعد بها، فأصبحت وليس لي إلا أمل واحد: وقفة على قاسيون أو رشفة من بردى!
آه، لقد ضاقت بي مصر على رحبها وسعتها، وصغرت في عينيّ حتى لقد رأيت غرفتي الصغيرة في دمشق أوسع منها وأكبر، واسودَّت في بصري حتى ما أرى فيها إلا الظلام، ولو كان في نور الشمس الذي يملؤها نوراً، بل لقد انصرفت نفسي عن العلم
(1) لم أعرف تاريخ «القبس» الذي نُشرت فيه هذه المقالة، ولم أعثر على أصل المقالة، إنما أخذتها من كتاب «الهيثميات» الذي ضم مجموعة من المقالات التي نشرها علي الطنطاوي في صحف الشام في تلك السنة والتي بعدها (مجاهد).
ورغبت عن ورود مناهله، ولم أعد أؤمل إلا أن أرى مرة ثانية هذه الصخورَ الخالدة من رَبْوَة دمشق.
ما لي ولآثار أيدي البشر؟ ما لي وللحضارة والعمران؟ إنني أبيع هذا كله بشَعَفة من تلك الشُّعوف (1)، أجلس عليها فأرى الجمال الذي خطته يد الله على صحائف الكون، وإنها لسعادة لا تُشترى بملء الأرض ذهباً ولا بملء الصحف علماً.
أما الآن فقد تغير عليّ كل شيء. لقد انتقلت إلى عالم آخر أقيم فيه وحيداً، بعيداً عن ذلك البلد الذي نشأت به فعشقت أرضه وسماءه، وهِمْتُ بجباله ورُباه، بعيداً عن تلك الغرفة الصغيرة الخالية من كل شيء إلا من رفوف الكتب ومقاعد الدرس، والتي كنت أغلق بابها عليّ وعلى إخوان لي يفهمون الحياة كما أفهمها، نقطع فيها هذه المراحل من عمرنا على مطيّة الكتب تارة والحديث أخرى، نحيا في عالم أسمى من عالم الناس، ذلك هو عالم الخيال
…
في تلك البقاع خلّفت نفسي وسعادتي، وحييت هنا شقياً مسلوبَ الفؤاد.
* * *
هبطت مصر لأدرس وأعمل، والأفق واسع والمكان رحب،
(1) تتكرر هذه المفردة كثيراً في كتابات علي الطنطاوي المبكرة، وهي اليوم قليلة الدوران على الألسنة والأقلام. والشَّعَفَة أعلى الجبل أو رأسه (وهي أيضاً الخصلة في أعلى الرأس وأعلى القلب، فكأنها من كل شيء أعلاه)، وجمع الشعفة شِعاف وشَعَفات وشُعوف، وسوف نمر بهذه الجموع كلها في مقالات الكتاب (مجاهد).
ولكني أضعت قلبي فأضعت كل شيء. كنت أجد في دمشق صدراً أودِعه كل آلامي (1)، فأصبحت وآلامي تنوء بفؤادي الملتاع لا يجد من يبثّه إياه.
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
…
يواسيك أو يُسليك أو يتوجّعُ
منظر واحد لا يفارقني في جيئتي وذُهوبي وقَومتي وقَعدتي، ذلك هو منظر وطني، يتمثل لي في كل طريق ويتراءى لي في كل مذهب، أقضي نهاري مُطْرقاً مفكراً، حتى إذا جَنَّ الليل وأويت إلى فراشي انصبَّتْ عليّ الذكريات المؤلمة صبّاً، فما أزال بها أدفعها فتزداد إقداماً وأطردها فتزداد ثباتاً، حتى أُغلب على أمري، فألقي الوسادة وأثور من الفراش أفزع إلى النور، وأنتصب
(1) كانت أمه يومئذ في قيد الحياة، وتلك المرة الثانية التي فارقها فيها، الأولى كانت في سفرته الأولى إلى مصر، وانظر الوصف المؤثر لذلك الفراق الأول في مقالة «ذكريات» في كتاب «من حديث النفس» ، قال: "وصفر القطار الذي يحملنا إلى مصر، فازداد القلب خفقاناً واضطراباً
…
هناك تلفّتُّ فرأيتني وحيداً، ورأيت القطار يَجِدّ لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار، أردت أن ألقي بنفسي لأني لم أكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً واحداً بعيداً عن أمي". ثم توفاها الله بعد عودته من مصر بسنة وشهور، في الثامن من تموز 1931 (22 صفر 1350). وقصة وفاتها المفجعة تمتد في «الذكريات» بطول ثلاث حلقات، من أواخر الحلقة السادسة والأربعين إلى أواسط التاسعة الأربعين، فمن شاء قرأها هناك، أما أنا فلقد قرأتها عشرين مرة أو ثلاثين أو أكثر، وما قرأتها مرة إلا واستعبرت، ولو قرأتها اليوم لفاضت عيناي من جديد! (مجاهد).
قائماً مدة لا أدري مداها، ولكني أرى النوم لا يغلب عليّ حتى يغلب الموت على الليل ويقوم الفجر لِيَنْعيَه، هنالك أنام بضع ساعات نوماً مضطرباً ممزوجاً بأفظع الأحلام.
أنا لا أشكو إلا هذه الذكرى، فلقد أقضَّت مضجعي ونغَّصَت عليّ حياتي، وإنني وإياها كصاحب الحمّى تعاوده حُمّاه، فإذا جاءتني خفق لها قلبي ووَنَتْ أعصابي، ودارت بي الأرض حتى أجهل مكاني منها، وأستغرق في سبات عميق من التأمل المُمِضّ والتفكير المؤلم.
رباه، أخلقتني رزمة من عواطف لسعادتي أم لشقائي؟ وهل بنيتني من شعور وإحساس لأعيش متألماً أو لأعيش جاهلاً؟ ماذا أصنع؟ إن عاطفتي استأثرت بنفسي حتى ما يملك عقلي من أمرها شيئاً، وكأني أسمعها تتفلسف قائلة: أيها الرجل، لماذا تعيش؟ إن كنت تعيش لنفسك فاطلب لها السعادة، وإن كنت تعيش للناس فهيهات أن تفيدهم ولك من شواغل نفسك وآلامها ما يصرفك عنهم، ومهما يكن فدعك من هذه الغربة وعد إلى بلدك!
أما أنا فلا أفهم مما تقول شيئاً، وكأن هذه الآلام التي تنتابني تستقطر ماء حياتي قطرة قطرة، وستأتي ساعةٌ يجف فيها فأغمض عيني إلى الأبد شاخصاً إلى السماء، أرى صورة وطني في مرآتها الخالدة فأودعه الوداع الأخير، ثم أرقد!
ليس لي هنا من عمل إلا الدأب على المطالعة، أطالع كتباً وروايات أروي صفحاتها بدمعي وأغذيها بسواد قلبي وثمرة فؤادي، حتى تجنح الشمس للمغيب، فأخرج فأقف على «كوبري الزمالك» ،
أنظر إلى النيل تارة وإلى ذلك الأفق البعيد أخرى، فأبصر فيه خيال وطني يلقي النور والحياة على تلك الخمائل الخضراء التي لا حدَّ لها، فأقف أمامه كأنني أمام محرابي، ولا أنتبه حتى تتوارى هذه الصورة في طيّات الظلمات فأعود إلى الدار أسيّاً حزيناً. ولا إخال الأمد يطول بي على هذه الحال، وما هي إلا واحدة من اثنتين: إما الشام وإما الحِمام!
اذكرونا مثلَ ذِكْرانا لكم
…
رُبَّ ذِكْرى قَرَّبَتْ مَن نَزَحا
واذكروا صَبَّاً (1) إذا غنّى بكم
…
شَرِبَ الدّمعَ وعافَ القَدَحا
* * *
(1) الصَبّ هو المشتاق، من قولنا: صَبّ إليه صَبَابَة. وقد كتب علي الطنطاوي مقالته هذه وهو في مصر في زيارته الثانية لها سنة 1929، حين ذهب إليها عازماً على الإقامة والدراسة فيها، فقدم أوراقه إلى الجامعة المصرية أولاً، ثم عدل عنها وانتسب إلى «دار العلوم» ، ثم لم يلبث أن ترك ذلك كله وعاد إلى دمشق. انظر تفصيل ذلك كله في الحلقة الرابعة والثلاثين من «الذكريات» ، وفيها يقول:"أصبحت يوماً فإذا خاطر قويّ لم أملك له دفعاً يدفعني لترك دار العلوم والعودة إلى دمشق، وكان هذا الخاطر هو الموجة التي حوّلَت زورقي إلى ما هو خير لي، فاللهُمّ لك الحمد"(الذكريات 1/ 359). والمقالات الثماني الآتية جميعاً كتبها ونشرها في «الفتح» وهو مقيم في مصر في تلك السنة أيضاً (مجاهد).