المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌كلمات

- ‌خواطر غريب

- ‌طلاب دمشق

- ‌في ذكرى مولد فخر الكائنات

- ‌ألا ليشهد العالم كله

- ‌قطعةٌ من حديث (1)

- ‌قطعةٌ من حديث (2)

- ‌قطعةٌ من حديث (3)

- ‌أنا ونفسي

- ‌على قارعة الطريق

- ‌خطرات وكلماتالشهرة

- ‌أم الذكريات

- ‌استفتاء لغوي

- ‌على أطلال الخضراء

- ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (1)

- ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (2)

- ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (3)

- ‌رسائل سيف الإسلامالرسالة العاشرة

- ‌لماذا أنا مسلم

- ‌جمعية «الهداية الإسلامية» في دمشق

- ‌مقدمة كتاب «البعث»

- ‌أرجال…أم نساء

- ‌محاسن الإسلامالصلاة

- ‌الفاجعة

- ‌ما وراء الأكمة

- ‌في سبيل المقاطعة

- ‌افتتاحية مجلة «البعث»

- ‌على إثر الخسوف:احتجاجاتنا كطبولنا

- ‌من رسائل العطلة

- ‌ذكرى يوم الاستقلال

- ‌لا قوة إلا قوة الحقولا مجد إلا مجد التضحية

- ‌يا أمة الحرية

- ‌أندية الطلاب في العالم

- ‌أليس فيكم رجل رشيد

- ‌دع السياسة

- ‌مقدمة مجلة

- ‌معلم القرية

- ‌صفات الزعيم الحقيقي

- ‌على أنقاض آماليأنشودة الظلام

- ‌تحرير الرجل من ظلم المرأة

- ‌نريد خصومة موضوعية لا شخصية

- ‌إلى المبشرين

- ‌من هو السنوسي

- ‌خذوا الصواب من قلب الخطأ

- ‌نَحْطِمُهم كما يَحْطِم النسرُأمةً من الذباب

- ‌الشَّرَف

- ‌الأدب القومي

- ‌الأدب القومي أيضاً

- ‌بالأسلوب التلغرافيتَرَقّي الموظف

- ‌بالأسلوب التلغرافينحن وفلسطين

- ‌التربية الوطنية والدينية

- ‌نصائح لمن كان يتعلم الوطنية

- ‌عند الحلاق

- ‌الأستاذ شفيق جبري والوظيفة

- ‌إن في هذا لعبرة

- ‌قصة رمزيةورقة الخمسين

- ‌أبناؤنا وتاريخنا

- ‌الراتب، أم الواجب

- ‌رسالة الطالب

الفصل: ‌قصة رمزيةورقة الخمسين

‌قصة رمزية

ورقة الخمسين

نشرت سنة 1935 (1)

فتحت ساكناتُ الصندوق العام في «المصرف السوري» عيونَهنّ ينظرنَ مَنْ هذا القادم عليهن، فإذا «ورقة» من ذوات الخمسين ليرة سورية، مريضة قد حطمتها الأدواء و «مزقتها» الآلام، فلم تكد تستقر في الصندوق حتى أخذتها غَشْية، فدنا منها قرش مثقوب (2) فنظر إليها وانفجر ضاحكاً

وكان يعاشر الصِّبْيَة أبداً ويشاركهم في ألعابهم فجعله ذلك شاطراً خبيثاً.

وساء ضحكه الحاضرين، وكان فيهم «مجيدي» شيخ وقور (3)، اعتزل الناس منذ عامين اثنين وترك المجتمع ولبث يذكر

(1) في «الجزيرة» بتاريخ 15/ 1/1935 (9 شوال 1353).

(2)

القرش الذي سكّته سلطة الانتداب الفرنسية سنة 1933 كان مثقوباً في وسطه (مجاهد).

(3)

«المجيدي» عملة عثمانية بقيت شائعة في أيدي الناس إلى وقت قريب من وقت نشر هذه المقالة، والظاهر من سياقها أنه ألغي قبل نشرها بسنتين. وكان يعادل عشرين قرشاً، وربما صُرف بخمسة =

ص: 303

أيامه الخاليات، أيام كان له الحول والطول، ويُعجب كيف ذهب ابنه «نصف المجيدي» إلى باريس فعاد منها ببزّة غير بزته وطابع غير طابعه، فلم يلبث أن غلبه على مكانه وادّعى أنه وارثه في أرضه.

وانبرى هذا الشيخ، لذلك الصبي يلومه ويقرّعه، فسكن القرش وهدأ، فقال له: ويل لك أيها الولد الخبيث! أتهزأ بهذه العجوز المسكينة وأنت تعلم أنها تعدل خمسة آلاف من مثلك؟ أم غَرَّك منها حِلْمُها وكرمها؟ أم أنت أحمق مغرور كشاب قرأ كتاباً في الأدب وكتب مقالتين في جريدة، فلم يعد يقنعه إلا أن يكون أول أديب في البلد، فإذا رأى الناس يعظّمون شيوخ الأدب ويُجِلّونهم، ولا يحفلون به هو ولا يأبهون له، جُنّ جنونه وطار صوابه، فأقبل على هؤلاء الشيوخ يسبّهم وينتقصهم ويُسَمِّع بهم، ولو هو عقل لقرأ مثل ما قرؤوا وعمل مثل ما عملوا، ثم طمع أن يُعظَّم كما عُظِّموا.

وكان في الحاضرين «فرنك» قدم من أوربة حديثاً، وهو شاب متأنّق لا يفتأ كلما تكلم ينظر في ثيابه ويهزّ عطفيه ويمرّ المشطَ في شعره، فتنحنح على الطريقة الحديثة وقال: لا تسمعوا ما يقول، إنه رجعي، أؤكد لكم أنه رجعي.

= وعشرين، أي أن قيمته كانت بين ربع ليرة ذهبية وخُمس ليرة. واسمه الأصلي «الريال المجيدي» ، سُمِّي كذلك نسبة إلى السلطان عبد المجيد الذي ضربه سنة 1844 (1260هـ)، ثم اختصره الناس إلى «المجيدي» فحسب، ورغم أن السلاطين اللاحقين داوموا على ضربه بأسمائهم إلا أن الاسم الأول بقي في أذهان الناس وعلى ألسنتهم بلا تغيير (مجاهد).

ص: 304

- أنا رجعي؟

- نعم، أنت. إنك تعود بنا إلى القرون الوسطى!

- يا للتقليد الأعور! إن صاحبكم لا يدري ماذا يقول.

- بلى، أدري. إن القرون الوسطى هي الجهل وهي التعصب وهي الظلام.

- ذاك في أوربا، أما في الشرق الإسلامي فهي العلم وهي الحضارة وهي النور.

* * *

وسكتوا جميعاً لأن الورقة العجوز قد حشرجت وتلاحقت أنفاسها، فحفّوا بها واجمين لروعة الاحتضار وجلال الموت، ثم أدركتها قوة فرفعت رأسها وشكرت لهنّ ما صنعن بها، فقال لها «المجيدي»: من أين أنت يا أختاه؟ وما هو شأنك؟

فهمهمت (1)، ثم أنشأت تقصّ حديثها بصوت خافت. قالت: لست بحمد الله متكبّرة ولا مزهوّة، وإنكم لأكرم مني عنصراً وأسمى محتداً، وما أنا إلا واحدة من غمار المخلوقات. لقد كانت أمي قشرة شجرة تحنو على شجرتها وتدفع عنها عادية الحَرّ والقَرّ (2) ولفح الريح ووهج الشمس، وكانت تُظهر للناس حقيقتها، فلا تخدعهم عن نفسها بثوب برّاق ولا زينة مستعارة.

(1) الهمهمة هي الكلام الخفي.

(2)

القر -بفتح القاف وبالضم- البرد، ولكنهم أوجبوا الفتح مع «الحَر» للمشاكلة (مجاهد).

ص: 305

ونشأتُ إلى جانبها على أحسن ما تكون عليه بنت بارّة، تطيع والدتها وتحافظ على هناءتها وتسرع في تلبية أمرها، ولبثنا على ذلك حقبة من الدهر حتى قيل لن يتفرَّقا، ثم كان اليوم الذي لست أنساه، فما راعنا إلا جنس من الوحش من أشدّها وأضراها، ما رأيته من قبل ولا سمعت به ولا هو بالذئب ولا هو بالضبع، فإن الذئب لا يعدو على الفريسة إلا إذا عضه الجوع بنابه ثم لا يقرب منا معشر الجمادات ولا يمسنا بسوء، أما هذا الوحش الضاري (الذي علمت بعدُ أنه يسمّى الإنسان) فيفترس جائعاً وشبعانَ، ويفترس كل شيء بأنياب من حديد وفولاذ وبارود ورصاص، يقضم بها الصخر ويشرب بها البحر، ويأكل بها أخاه الإنسان.

أقول: جاءنا رجال بأيديهم المعاول، فنزلوا بها علينا قطعاً قطعاً وكسراً كسراً، فقُتلت أمي المسكينة مع من قتل وحُملتُ أنا أسيرة، فما زالوا يجرّبون بي الوسائل ويسلكون معي سبيل اللين وسبيل الشدة، يسقونني الماء ويعرضونني على النار، حتى لنت لهم وخرجت من شدتي وعصبّيتي، فأذابوني وأخرجوني شيئاً آخر أنكرت معه نفسي وأصلي، وقالوا لي: أنت اليوم ورقة من أمّة الورق ولست قِشْرة من أمة القِشْر! وهذا دأبهم أبداً إذا غلبوا أمة ضعيفة، لا ينفكّون يزينون لها جديدهم ويزهّدونها في قديمها ويغرسون ذلك في قلوب ناشئتها وصغارها، حتى إذا آمنوا به واستيقنته أنفسهم سلخوهم من أصلهم وأخرجوهم من جلودهم وعادوا بهم أمة من الشياطين، لا هم منها ولا هي منهم، ولكنهم يفكرون برؤوسها ويمشون بأقدامها.

لست أدري كم أحييت من الليالي باكية حزينة على ما

ص: 306

خسرت من أصلي ولغتي وديني، ولكن حين لم يعد ينفع البكاء، فاستسلمت للقدر وخضعت لمشيئة الله. ولما رأوا أني ثابتة على ورقيّتي لا أحاول الخروج عنها والانسلاخ منها أنعموا عليّ بهذا الثوب المبرقَش وهذه التزاويق، وقالوا لي: قد جعلناك بخمسين من الجنيهات الذهبية، فسيري في الأرض وانشري في الناس هذه الوكالة وتكلمي باسم هذه الخمسين جنيهاً. قلت: ولكنهم لم يوكلوني ولم يفوضوني، فكيف أدّعي أنني وكيلة بخمسين ذهباً، وأنا وخمسون من مثلي بقرش! قالوا: عَدّي عن هذا، فما هو من شأنك وما عليك إلا أن تسمعي فتطيعي، ولئن فاتك أن يكون وراءك ذهب فإن وراءك جيشاً، فقرّي نفساً وسيري على بركات الله! (1)

(1) في الماضي تعامل الناس في الولايات العثمانية بالليرات الذهبية، وقد أصدر العثمانيون بعض الإصدارات النقدية الورقية التي لم تلقَ رواجاً بين الناس، رغم أنها كانت مغطاة بالذهب بنسبة مئتين بالمئة وقابلة للاستبدال الفوري بالليرات الذهبية عند الطلب. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى ومع الانهيار العسكري والاقتصادي للدولة أبطل الاتحاديون التعامل بالذهب وفرضوا النقد الورقي غير المغطى، لكن الناس تهرّبوا منه وأصروا على التعامل بالعملة الذهبية التي زادت قيمتها مع ازدياد الطلب. وبعد احتلال سوريا أصدر الفرنسيون عملات ورقية غطاؤها من الفرنكات الفرنسية وليس من الذهب، وحدّدوا أجلاً قصيراً لمبادلة الليرة الذهبية القديمة (التي أُلغيت وصار التعامل بها غيرَ قانوني)، فسحبوا النقد الذهبي كله وأحلّوا محله ليرات ورقية أصدرها «المصرف السوري» بأمر المندوب السامي الفرنسي، وقد أُخضع هذا النقد الورقي الجديد للتداول الإلزامي وكان غير قابل للتعويض بالذهب! (مجاهد).

ص: 307

فضممت عليّ ثيابي وأصلحت من هندامي ونزلت إلى السوق، وكان ذلك في باريس، بلد الرقة والجمال والعلم والحرية

وأشياء أخرى يضيفونها إليها لم أحفظها، لأن لذع النار علّمني ألا أقف وراء الستار وأن أنفذ الى الصميم، فلما فعلت علمت أن وراء هذه الرقة طوفاناً من الفساد الأخلاقي، ووراء هذه الحرية إباحية لا حد لها واختلاطاً في الأنساب واستهتاراً بالأعراض ونشراً للأمراض، وأن وراء هذا العلم كثيراً من الكفر وكثيراً من الظن وكثيراً من الدسائس، وأن وراء هذا الجمال الجسمي أقبح القبح النفسي.

وكان أول من عرفته في باريس طالباً سورياً يدرس فيها وله على الحكومة راتب، فدفعوني إليه من راتبه، وأوصوه أن يحتفظ بي ويحسن صحبتي وأن يبتعد بي عن مواطن الريبة وأماكن الفجور، وأفهموه أنني من أصل وضيع ولكني شريفة، لا أعرف إلا جوّ الغاب الراقي الصادق وجو المعمل الجاد العامل، وأن الظروف اضطرتني إلى التدني من ذلك الجو إلى جو باريس

فوعدهم خيراً.

وقلت: الحمد لله، فقد كُتبت لي السعادة إذ صرت صديقة طالب هجر بلاده وترك أهله ليطلب العلم الصحيح ثم يرجع به إلى بلده فيحمي به أمته ويوقظ به قومه وينير لهم طريق المجد والعلاء، وقد كُتب لي أن أدخل هذه الجامعة التي يمدحونها ويعتزون بها وأسمع هذه المحاضرات القيّمة، وأمد رأسي من جيب صاحبي فأرى هؤلاء العلماء الأجلاء الذين سمعت الحديث عنهم في المعمل.

وأغمضت عيني لأنام تلك الليلة، ولكني لم أكد أغفو حتى

ص: 308

نبهني صاحبي بقسوة وغلظة، فلما صحوت أنبأني أني سأفارقه، وأنه كان ينتظرني من أمد طويل ليدفع بي إلى اليد الممدودة إليه. فقلت في نفسي وأنا أخرج: لا بأس، إنه سيدفع بي إلى يد طالب من إخوانه أو إلى أستاذ من أساتيذه، أو يدفع بي إلى يد تاجر شريف ثمنَ شيء لا بد له منه. ونظرت إلى تلك اليد، فعَرَتْني رجفةٌ شديدة وغطى الحياء على عيني حتى ما عدت أبصر، وودت أن لو متُّ وكنت نَسْياً منسيّاً ولا أرى صاحبي الطالب الشرقي الشريف يدفع بي إلى يد

وأدخلتني «صاحبة» تلك اليد إلى الصندوق مُغمىً عليّ، ولبثت على تلك الحال مدة لست أدري كم هي، ثم فتحت عيني على أخوات لي كثيرات ملوَّثات بالأقذار يحففنَ بي ويسألنَني ما شأني، فلما قصصت عليهن القصص وجدت شأنهن جميعاً مثل شأني، ووجدت الغربيّات منهن يسخرنَ من غفلتي ويرين مثل هذا تمدناً وحضارة، فلعنت التمدن والحضارة. وفي اليوم الثاني نُقلتُ إلى صندوق شاب آخر أوربي صميم يبيع الدخان، فلم يطل به الأمر حتى هيأ عدة السفر لأنهم بعثوا به أستاذاً إلى

إلى سوريا!

ثم شَرِقت بريقها وحشرجت وجادت بروحها.

* * *

وفتح مدير المصرف صندوقه، فلما رآها ميتة «ممزَّقة» أعضاؤها أمر بها فأُلقيت في دُرْج اتخذوه مقبرة لأمثالها، وكتب في دفتر الصندوق:«خمسون ليرة سورية ربح صاف للمصرف» !

* * *

ص: 309