الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نريد خصومة موضوعية لا شخصية
نشرت سنة 1932 (1)
أعني بالخصومة الموضوعية: الخصومة في الرأي والمذهب، وأن تكره مِن خصمك رأيه أو تحارب هذا الرأي. وأعني بالخصومة الشخصية: أن يمتد هذا الكره من رأي خصمك الذي تراه أنت مخطئاً أو باطلاً إلى شخص هذا الخصم، فتعاديه وتبغضه. فنحن نريد أن تكون خصوماتنا الدينية أو السياسية أو العلمية خصومات موضوعية، الخلاف فيها على موضوع من الموضوعات: سواء أكان ذلك الموضوع مذهباً في السياسة أم اجتهاداً في الدين أم رأياً في العلم، نتجادل فيه ونتخاصم، فإذا التقينا مع صاحب هذا المذهب الذي نحاربه أو الاجتهاد الذي نخالفه أو الرأي الذي ندفعه لم يكن بيننا عداوة ولا بغض، لأننا لا نحارب شخصاً وإنما نحارب رأياً.
هذه مسألة مفروغ منها، قد يكون من الخطأ أن ندوّنها في مقالة وننشرها في الناس لولا أن الناس عندنا لا يريدون أن يفهموها ولا أن يعملوا بها، على الرغم من صحتها ووضوحها. فنحن لا نفرق بين الرأي وصاحب الرأي، ونحن لم نتعلم بعدُ
(1) في «ألف باء» بتاريخ 18/ 8/1932 (15 ربيع الثاني 1351).
حرّيةَ النشر ولم نتعلم فن النقد الأدبي، بل إن لدينا كثيراً من الناس إذا هم عجزوا عن الجدال بالمنطق والحجة لا يعجزون عن الجدال بالسباب والعداوة، وإذا هم أرادوا الرد بالقلم لا باللسان والكف -وقلّما يريدون ذلك- فلا يردّون على الرأي الذي ساءهم، وإنما يتخذون ردهم وسيلة إلى نشر ترجمة مَن نقدهم ترجمة مشوَّهة مكذوبة، وإلى تحليله تحليلاً نفسياً أحمق يخلقونه فيه كما يريدون لا كما خلقه الله! وكل هذا بعيد عن هذه الخصومة الموضوعية التي ندعو إليها
…
ونخجل أن ندعو إليها لأن المفروض في الطبقة المثقفة من الناس أن تفهمها من نفسها وتنكر غيرها من ضروب الخصومة.
وإذا كنت أنقد أنا مثلاً رجال «الحزب الفلاني» فليس معنى هذا أن بيني وبينهم عداوات أو تِرات، وليس معنى هذا أنني أقصّر في احترام العالم منهم لعلمه والمخلص لإخلاصه
…
ولكن معناه أنني أعتقد أنهم أساؤوا بمجموعهم إساءة قد يكون مصدرَها تعمّدُ الإساءة، أو قد يكون مصدرَها الغفلةُ وحسن الظن، وقد يكون مصدرَها اجتهادٌ أخطؤوا فيه، فأنا أنقد هذا الاجتهاد وأحاربه وأكشف عن سيئاته، بل أنا أزدريه لأنني أراه باطلاً، وأزدري كل باطل، وهذا لا ينافي احترامي لأشخاصهم وإجلالي بعضاً منها.
* * *
هذا مثال من الخصومة الموضوعية، وأساسها أن تفرق بين الرأي وصاحبه، وأن تقتصر في دفاعك عن رأيك ومحاربتك لرأي خصمك على الحجّة التي تزيّف هذا الرأي من غير أن تتصل بصاحبه، وأن تحترم الرأي المصيب وإن كان صاحبه أسخف
الناس، وأن تزدري الرأي الفائل ولو كان صاحبه أعقل الناس.
فإذا نحن اتفقنا على هذا، وإذا نحن امتنعنا عن الخصومة الشخصية وترفَّعْنا عن السباب والشتائم، تقدمت الحركة الفكرية في البلاد، وولَّدَت هذه المجادلاتُ المنطقية كثيراً من الحقائق. ويجب أن نتعود احترام الحقيقة ولو ظهرت بجانب خصمنا، أما إذا لم يكن شيء من هذا، ولم يمتنع من نخاصمه من التعرض للشخصيات واللجوء إلى غير الردود المنطقية، فإنّا لا نرى بداً من الدفاع عن أنفسنا بمثل هذا الأسلوب.
ولا يجب أن يقتصر هذا التعديل في سير مجادلاتنا على السياسة وحدها، بل يتعداها إلى الأدب أيضاً، فالبَلِيّة فيه تكاد تكون أشمل، وذلك أن الحركة الأدبية -على الرغم من ضعفها في الشام- خالية من النقد الذي لا يقوم أدب أمة إلا عليه، وإذا ظهر ناقد وكتب عن أديب فإنه يكتسب عداوة هذا الأديب وعداوة أصدقائه. وقلَّ عندنا الأديبُ الذي يفهم النقد على وجهه أو الناقدُ الذي يسوقه على وجهه، في حين أن النقاد في بلاد الغرب هم الذين يرفعون قيمة الكتب بنقدهم، وهم الذين يبنون الأدب الحديث.
وما يقال في الأدب يقال في الدين والعلم
…
والخلاصة أننا حيال قضية قد يكون بقاؤها على حالها سبباً في ركود الحركة الأدبية والفكرية في البلاد، فيجب على الكتّاب والمعلمين إصلاحها وتهذيبها، وهي قضية «الخصومة» وما ينشأ عنها من منازعات وسيئات، وقد كان ينشأ عنها تقدم الفكر وظهور الحقيقة وزيادة التآلف لو كانت خصومة موضوعية شريفة.
* * *
مشاهدات وأحاديث (1)
«صحفي» !
نشرت سنة 1932 (1)
[والآن يا أصدقائي القرّاء، هذه فصول «لاسياسية» أقدّمها إليكم بعدما فارقتكم شهرين من أجل الامتحان، فإذا انتهيتم من قراءة «الفصول السياسية» والأخبار المهمة -التي ليس لموظف مثلي أن يقترب منها- وبقي عندكم وقت فارغ، أو أحببتم أن تروا لوناً آخر من ألوان الكتابة الصحفية غير السياسة والأخبار (قد لا يكون سخيفاً دائماً) فاقرؤوا هذه الفصول القصيرة بين الآونة والأخرى!]
كان على درجة من الاطلاع والعلم لا بأس بها. لولا أنه كثير الفخر بهذا العلم، فلا يدع مجلساً يُذكر فيه العلماء والمثقفون إلا وتحدث فيه عن نفسه: بأنه درس كثيراً من العلوم في الصف السادس الابتدائي، منذ عشر سنوات، وعلى الرغم من أن هذه العلوم الجليلة قد تبخرت من رأسه فقد بقي مجيداً للقراءة
(1) في «ألف باء» بتاريخ 6/ 11/1932 (7 رجب 1351).
والكتابة، يقرأ المقالة ذات العمودين ولا يخطئ إلا عشرين خطيئة، لا في النحو والصرف، فهذا مُغتفَر له، بل في التهجية، ولا مؤاخذة! أما أخلاقه فلم يكن فيها من عيب إلا أنها على غاية من
…
وأنها نموذج كامل للـ
…
* * *
مرّت سنوات لم أره فيها، ولم أفكر فيه لأن صلتي به لم تكن تتعدى حد السلام، ولأنه خالٍ من كل ميزة علمية أو أخلاقية أذكره بها. ثم رأيته منذ أيام بعد غيبة هذه السنين، فسلمت عليه كعادتي فلم يردّ عليّ كعادته، ولحظت أنه يسير منتفخاً كالكرة شامخاً بأنفه إلى أعلى! فعجبت من شأنه وعزمت على التحدث إليه لأرى أي عَظَمة أُفيضت عليه: أأصاب إرثاً من قريب له في أميركا (بلد المال)، أم صار زعيماً في الشام (بلد الزعامات)؟ وإذا كان زعيماً فلماذا لا تصدّره الشام إلى بلاد الله الأخرى -كما تصدّر كلُّ بلد ما تنتجه- فتعوّض بإصدار هذا النوع ما خسرته من «القمر الدين» ، ولا تنتبه البلاد الأخرى إلى أنه «مغشوش» لأن الغش فيه فنيٌّ يصعب اكتشافه؟!
ولحقت به ففتحت معه باب الحديث: ها، سلامات سيد؟
…
سيد؟
- «فلان» ! سلامات.
- كيف الحال، إن شاء الله بخير؟ لم أرك منذ مدة، هل كنت مسافراً؟ ماذا تعمل في هذه الأيام؟
- والله
…
صحافي.
- صحافي؟ ها، لعلك درست في هذه السنين وأحطت بما لا بد منه للصحافي من ثقافة واطلاع و
…
- درست؟ أنسيت أني متخرج من
…
- من الصف السادس الابتدائي. أعرف ذلك، ولكن الصحافة تحتاج إلى أكثر من هذه المعلومات. وكما أنه لا يجوز لامرئ أن يكون معلماً أو محامياً أو طبيباً إلا بعلم وشهادة، فكذلك لا يجوز لأي إنسان، جاهلاً كان أو
…
وكنت أريد أن أمضي في حديثي لأكشف النقطة التي خفيت عليّ كثيراً، لولا أنه فاجأني بقهقهة مريعة أرعبتني، وضربة على كتفي جعلتني أقف مبهوتاً، ثم قال: شو هالحكي؟ بلا علم بلا ثقافة
…
نحن في الشام!
فأدركت حقيقة الواقع المؤلمة، وانصرفت عنه وأنا أقول: ولهذا صارت الشام دون بلاد الله. اللهمّ زد في صحافيينا المحترمين وبارك! (1)
* * *
(1) لا نحتاج إلى إيضاح بأننا لا نعني بهذا كل صحافيّي البلد، بل مَن قفز منهم من رَعْي الخَروف أو من صندوق الحروف إلى رئاسة التحرير. وتبارك الخالق المبدع!
مشاهدات وأحاديث (3)
عندنا نهضة، ولكنها ضعيفة
نشرت سنة 1932 (1)
موضوع مقالتنا: «النهضة الجديدة في سوريا» . ولسنا نريد الإلمام به من جوانبه كلها، فهذا شيء يطول بنا ويَعرُض ولا تتسع له عشر مقالات، ولكنا نريد أن نبين علاقة هذه النهضة بالأدب الذي يغذّيها ويقوّيها ويسدد خطاها. ولا نزعم أن لرأينا الذي سندلي به قيمة الحقيقة الثابتة، ولكنه رأي، وعند احتكاك الآراء تظهر حقائق الأشياء. ونبرأ إلى الله والناس من أن يكون لنا غرض في نصرة حزب أو عداء آخر، ومن أي غرض شخصي يمكن أن تُساق له مثل هذه المقالات.
تقوم النهضات على أسس ثلاثة: سياسية وأدبية واجتماعية، أو هي -على الأصح- أدوار ثلاثة لا بد من أن تمر عليها كل نهضة؛ ففي «الدَّور السياسي» تأخذ النهضة شكل الثورة الفكرية ويعمّ الغليان الأفكار الشعبية كلها فتتجه نحو غاية واحدة، وأكثر ما تتجلى هذه الغاية (في مثل هذه الأدوار) في النقمة على
(1) في «ألف باء» بتاريخ 16/ 11/1932 (17 رجب 1351).
الأوضاع الحاضرة، وتتخذ لها مظهرين: مظهر الاشمئزاز الشعبي الذي يخفت طويلاً ثم ينفجر بصورة مريعة، ومظهر النضال الشعبي المنظَّم الذي يسير بهدي الزعماء الوطنيين.
على أن هذا الدور وإن بدا مستقلاً عن الدور الأدبي فإنه لا يستقل عنه في الحقيقة أبداً، وللأدب عملٌ في إنشائه وتهيئة الأفكار له (كما عمل أدب روسو وفولتير ومونتسيكو في إنشاء الثورة الفرنسية)، وعملٌ في تنظيمه (كما ينظم خطب الزعماء ومقالاتهم، وما هذه الخطب وهذه المقالات إلا أعمال أدبية). فأنتم ترون أن الدور الأول للنهضات -وإن كان سياسياً في مظهره- فإن العامل الذي يغذيه وينشئه هو الأدب.
أما الدور الثاني فأدبي بحت يبدأ بعد هدوء هذه الثورة، ويتولى فيه الشعراء والكتّاب تجسيمَ آمال الأمة والإشادة بظفرها، ونبش تاريخها وإحياء ما فيه من مواقف مشرّفة وصفحات ناصعة، وتقويم اعوِجاج النهضة والأخذ بيدها، لتسلك على ضوء التاريخ والتجارب الحكيمة أقومَ المسالك إلى بلوغ الغاية.
أما الدور الثالث فهو ثمرة النهضة ونتيجة هاتين المرحلتين، وفيه تتغلغل النهضة في النظم والعادات الاجتماعية فتهذّبها وتصلح أخطاءها، وتنشئ المجتمع نشأة جديدة وتعيد إليه الشباب والحياة.
* * *
وإذا نحن نظرنا إلى النهضة السورية (التي بدأت تجتاز الدور السياسي منذ أيام جمال باشا) وقسناها بهذا المقياس وجدناها
مضطربة خلواً من العامل الأدبي، ينطبق عليها قول المؤرخ الفرنسي هوفلاك عن الصين في عهدها الماضي، إذ يقول: "كنتَ لا تسمع أنّى سرت وحيث توجهت إلا أصوات التذمر والشكوى، ترتفع ثم تنخفض وتصير همساً، ثم تعلو حتى تكون ضجة وحشية هائلة. كان الشعب يُصيخ للمثقفين من أبنائه، ولكن هؤلاء المثقفين كانوا عاجزين عن تعيين أغراضهم وتوجيهها وجهة معروفة. المصلحون يَشْكون الاستبداد، والأدباء يشكون ركود الأدب، والأفراد يشكون الاضطراب والحيرة
…
وكل أولئك هَاوٍ إلى قرارة المنحدر".
ولم يقتصر الأمر عندنا على ضلال الأدب وِجْهَةَ الصواب، بل تعداه إلى الوقوف، إلى السكون المطلق، حتى إنك لتشكّ (وأنت في شكك على حق) بوجود أدباء في سوريا! وهكذا ضعفت نهضتنا واضطربت لأنها فقدت ما هو منها بمثابة العمود الفقري من الإنسان، وهو الأدب.
ولا أريد بالأدب القصائد والمقالات فقط، بل أريد «الحركة الفكرية» بمعناها الواسع. أريد أن تُبنى نهضتنا على أساس فكري واضح وعلى ركن من الثقافة رَكين، وأن يُبدَأ بوضع هذا الأساس في المدارس وفي أدمغة الأطفال لينشأ جيل جديد يفهم النهضة على وجهها الصحيح.
هذا ما نريد من زعمائنا أن ينتبهوا له، ومن أجل هذا كتبنا في دعوة الطلاب إلى الاشتغال بدروسهم، وقلنا لهم إن وطنية الطالب في درسه وعلومه وإن المستقبل يجب أن يُبنى على العلم، فاتُّهِمْنا بالرجعية! ومن أجل هذا دافعنا عن الجامعة وسفَّهْنا رأيَ من يدعو إلى إغلاقها -على ما قد يكون لهذا الداعي من حجج-
لأن الروح الجامعية، روح البحث الحر المفروض وجودها في كل جامعة، ضروريةٌ لبناء نهضتنا الآتية، فاتُّهِمْنا بموالاة أشخاص والدفاع عنهم! وأنا الذي لم ينتسب عمرَه إلى حزب ولم يأخذ على مقالة أجراً لا بالواسطة ولا مباشرة، ولم يؤجّر قلمه هذا الضعيفَ لمخلوق!
* * *
والخلاصة أن في سوريا نهضة لا يمكن إنكار وجودها، ولكنها ضعيفة مضطربة، فيجب أن تُقوّى بالأدب وتُغذّى بالحركة الفكرية، ليتسنى لها البقاء والنجاح ولا يعتريها الفشل والخذلان الذي سيحيق بها حتماً إذا بقيت سائرة في طريقها الحاضرة: لا أدباء يرسمون لها الخطط ويحفزون لها الهمم، ولا زعماء يقودونها ويوحّدون صفوفها ويعبّرون عن مقاصدها، ولا مصلحين يعالجون أدواءها الاجتماعية ويفتّشون على أدويتها
…
هذا هو اللب، وما عداه فقشور يابسة وزَبَد يذهب جفاء!
* * *