الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا أمة الحرية
نشرت سنة 1931 (1)
يا بني السين (2)! وسواء لديّ أبَلَغَ صوتي -أنا الطالب الضعيف- مسامعكم، أم تكسّرت أمواجه على صخرة القوة فتبددت، لأن المستقبل سيجمعها فيكون لها في نضال سوريا وجهادها دويّ وصدى.
إننا بشر أمثالكم، لنا قلوب تحسّ وعواطف تتألم ولسنا من صخر ولا حديد، فلا تَحْملونا على هذه الشِّرْعة التي يُحمَل عليها
(1) في جريدة «اليوم» بتاريخ 27/ 12/1931 (16 شعبان 1350). وقد أشار إلى هذه المقالة في «الذكريات» فقال: "كانت دمشق هذه السنة، بل كانت سوريا كلها، كأنها تعيش بجوار بركان يفور أحياناً فتفتح أبواب جهنّم ويهدأ أحياناً، تسكن دمشق قليلاً فتتحرك حلب أو تهيج حمص أو حماة. وكنت ممّن يُضرِم هذه النار وينفخ فيها بلساني وبقلمي كما يصنع كثير من أقراني وأمثالي. ما كنت في ذلك وحدي، وإن كنت من أحدّهم لساناً وأمضاهم قلماً، وأنا أشير (على سبيل المثال) إلى مقالة عنوانها:«يا أمة الحرية»
…
" (الذكريات 2/ 363).
(2)
هو نهر فرنسا الذي يخترق باريس كما يخترق النيل القاهرة، أراد بالكناية شعب فرنسا (مجاهد).
العبيد، فلا والله لن يُعْجِزنا أن نموت أشرافاً إذا نحن عجزنا أن نعيش أشرافاً.
يا أمة الحرية، يا فرنسا، اسمعي! فإني لا أُجَمجم الكلام ولا أديره على وجوهه التي ترضين عنها خوفاً أو طمعاً، فقد والله يئست حتى ما في نفسي مكان لأمل ولا متّسَع لخوف، وما بعد الذي كان يوم الأحد أمل ولا يأس ولا خوف.
لقد قُضي علينا أن نهبط من عليائنا وأن نُسلَب حرّيتنا ونفقد استقلالنا، ولكنه لم يأتِ بعد، ولن يأتي أبداً، ذلك اليوم المشؤوم الذي نخسر فيه إيماننا وشرفنا. فما بالك تسخّرين عبيدك السنغال لإذلالنا وازدرائنا؟ (1) لقد كنا نسير في رابعة النهار -ونحن فريق من طلاب الحقوق- أمام بردى، لا نحمل عصيّاً ولا مسدسات، لا نتأبط إلا كتباً خُدِعنا بها وحسبنا أنها صادقة وأن في الدنيا شيئاً اسمه «الحق» ! ففَجَأَنا عبدٌ أسود، فانتهرَنا وسبّنا وكاد يُعمل حربته في بطوننا! أمّا ذنبنا الذي أتيناه فهو أن أيدينا كانت من البرد في جيوبنا، وإذن فنحن نخفي فيها قنبلة تنسف الانتداب من بلادنا!
قد كان هذا ونحن في القرن العشرين، قرن النور والحضارة، وويل له من قرن! لقد كان نوراً ولكن على غيرنا، لقد كانت فيه
(1) أتى الفرنسيون إلى الشام بفرقة من الجنود السنغاليين، وكانوا أشدَّ على أهل الشام من الفرنسيين أنفسهم، ذكرهم علي الطنطاوي في ذكرياته فقال:"ما أضعف الثورةَ إلاّ الذين خُدعوا من أبناء الشركس الذين تطوعوا للقتال وجنود السنغال الذين أُجبِروا عليه، ويوم القيامة يُبعثون على نيّاتهم ويؤاخَذون هم وغيرهم بأعمالهم، وفي رحمة الله متّسَع لكل من مات على الإيمان"(الذكريات 1/ 278)(مجاهد).
حضارة، ولكننا لم نرَ منها إلا المدافع والرشاشات والدبابات، وهاكم انظروا:
في كل رابية جُسومٌ مُزِّقَت
…
وبكلِّ نادٍ رنّةٌ وعَويلُ
* * *
يا بني السين: إننا اليوم كما قال ملككم فرنسوا الأول من قبل: «قد خسرنا كل شيء إلا الشرف» ، وإذن فلم نخسر شيئاً! ولن تقوى قوة في العالم على سلبنا الشرف والإيمان، فاصنعوا ما شئتم. املؤوا المرجة دبّابات، واقتلوا منّا المئات، واكذبوا فانشروا ما شئتم بلاغات، فكل ما هو آتٍ آت.
قد رأينا الموت وقاسينا الفقر وشاهدنا الخراب، وأصبحت مدينتا بَلْقعاً وأهلها مفجوعين ونساؤها ثاكلات، فماذا نخاف بعد هذا؟ هل بعد الموت منزلة نحابيكم عليها؟ هل عندكم أشدّ من الرصاص؟ فقد فتحنا له صدورنا! هل عندكم أغلى من الأرواح؟ لقد أعددناها ثمناً للاستقلال!
ثمنُ المجدِ دمٌ جُدنا به
…
فانظروا كيف بذلنا الثمنا
انظروا كيف سقينا بدمنا صحراء ميسلون وجِنان الغوطة! إن حصاد الدم هو الاستقلال، وإن الشهادة خير بألف مرة من حياة يذلنا فيها العبيد.
حتى العبيد تُذِلّنا في دارنا
…
هذا -لَعَمرك- منتهى حدّ الشَّقا
* * *
وبعد يا أيها الأقوياء: إن الهرّة إذا حُبست وضويقت انقلبَت لبؤة، والبركان إن سُدّت فوهته كان الانفجار، والشعب إذا استُذِلّ ثار، والنار ولا العار، وللشهداء عقبى الدار، وستردّون إلى الله الملك الجبار. (1)
* * *
(1) في أصل المقالة تعليق بخط جدي في آخرها قال فيه: "نشرتُ هذه الكلمة بتوقيعي الصريح إثر حوادث 20 كانون الانتخابية، وكان لها أثر في البلد واضح ودويّ شديد، ودُعيت من أجلها إلى الدوائر الفرنسية في وقت حرج، ولكن الله سلّم"(مجاهد).
مشاهدات وأحاديث (1)
ما هذا برلمانَ أمة،
هذا برلمان المستعمرين!
نشرت سنة 1932 (2)
أريد أن أكون عند وعدي للقراء، فأبتعد في هذه الفصول عن السياسة وأقصرها على الأدب والاجتماع، ولكن لا أستطيع إلى ذلك سبيلاً.
وما أنا إلا من غَزيَّةَ، إن غَوَتْ
…
غويتُ وإنْ تَرْشُدْ غَزيّةُ أَرْشُدِ
(1) نشر علي الطنطاوي سلسلة من المقالات بهذا العنوان (مشاهدات وأحاديث) سنة 1930 في «فتى العرب» ، وقد مرت بنا مجموعة منها في هذا الكتاب، ثم توقف عن نشرها هناك في تاريخ لا أعرفه واستأنف نشرها في «الأيام» في هذه السنة، 1932، وهو ما ترونه في هذه المقالة، ثم تابع نشرها في «ألف باء» كما سترون في مقالتَي «صحفي» و «عندنا نهضة ولكنها ضعيفة» اللتين ستأتيان في الكتاب بعد قليل (مجاهد).
(2)
في جريدة «اليوم» بتاريخ 8/ 1/1932 (28 شعبان 1350).
وهل للبلاد وأهلها حديثٌ اليومَ إلا حديث الانتخابات؟ وأي انتخابات هذه؟ إنما نسميها على المجاز، وما فيها إلا موظفون يعيَّنون ليجلسوا على هذه المقاعد في هذا القصر الشامخ الذي يسمونه «البرلمان» ، ولينطقوا بما يريده هؤلاء الذين عيّنوهم.
أما الأمة، الأمة التي بَرِئَت منهم وأشهدت على براءتها الملأ كله، فإنها تعود اليوم فتُشهد الله والتاريخ أنْ ما هؤلاء بنوّابها ولا اختارتهم وكلاءَ عنها، وليس في العالم قوة تضطرها إلى الاعتراف بهم اضطراراً. ومَن يستطيع أن يحملني أنا على أن أعترف بعدوي وكيلاً عني وأسلمه أمري ليقودني حيث يشاء إذا لم أرضَ به وكيلاً ولا نائباً؟ وهل يستمد النائب قوّته إلا من الشعب؟ وهل فوق إرادة الشعب إرادة (حاشا إرادة الله)؟
يستطيع القوي أن يُلزم الضعيف ما لا يريده ويحمله على الشِّرعة التي يعزف عنها، ويضطر الضعيف إلى الإذعان والامتثال، كل ذلك تستطيعه القوة، ولكنها لا تستطيع أن تجعل الباطل حقاً ولو دافعت عنه بقِراب الأرض مدافع ورشاشات.
فلا يَغُرَّنّ هؤلاء أن أصبحوا نُوّاباً، فكم سجّلَ التاريخ في صحائفه من مجالسَ نُوّابُها من أمثالهم، وكم فرحوا بها وتاهوا، ولكن القدر كان يسخر منهم، ثم أهوى عليها بيده فإذا هو قد حَطَمَ المجلس والنوّاب! إن قوة النائب من قوة الشعب، فإذا خسر هذه القوة لم يكن إلا شخصاً ضعيفاً لا حول له ولا طول.
* * *
كانت دمشق أمس كأنها موسكو حين دخلها نابليون،
وكانت أسواقها خالية ليس فيها إلا هؤلاء الجنود، يجولون ببنادقهم وأسنَّتِهم ليدافعوا عن هذا الانتخاب الحر!
انتخاب يحميه الجنود، ونُوّاب يبلغون المجالس على عواتق الجنود، وأمة تُرغَم على الاعتراف بهم بقوة الجنود! ويل للخائنين!
أبَعْدَ هذا الإضراب الشامل، أبعدَ هذا التضامن العجيب يعودون فيقولون إنهم وكلاء الأمّة! وعلامَ أضربت الأمة وحزنت؟ وعلامَ بذلت نفوسَ أبنائها ودماءهم إذا كانت ترضى بهم نواباً عنها؟ ومن يستطيع أن يرى في دمشق (وغير دمشق) في هذه الأيام وطنياً لا ينطق وجهه بالألم، ويجهر صمته بهذه الشكوى المريرة وهذا الغضب الشديد؟
* * *
كلا، ما هذا برلمانَ أمة، هذا برلمان المستعمرين.
إن الشام أمة لها إرادة، وإرادة الأمة فوق كل إرادة، ليست فوقها إرادة إلا إرادة الله. فاقبضوا رواتبكم مباركةً يا نُوّاب، فما لكم إلا هذا من عمل! أما الأمة فلها نوابها الذين تثق بهم، وما أنتم منهم.
* * *