الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عند الحلاق
نشرت في دمشق سنة 1933 (1)
ذهبت أمس إلى الحلاق، وتخيَّرت آخر ساعة من النهار كي يخلو لي المكان، فوجدت عنده شاباً، وكرهت أن أدخل فأنظره، وأنا أكرهُ الناسِ للانتظار، فهممت بالرجوع، ولكن الحلاّق أومأ إليّ أن: ادخل، لن يلبث حتى يقوم فقد أوشك أن ينتهي. فدخلت.
وكان الشاب قد انتهى حقاً، وكان قَذاله وعِذاره وسالفته مقصوصة، وكانت جُمّته مُرَجَّلة مُصفَّفة (2)، وكان وجهه كالمرآة الصقيلة ما فيه -والحمد لله- أثر من لحية أو شاربين! فما باله لا يزال قاعداً على الكرسي؟ وماذا ترى الحلاق صانعاً به بعدُ؟ ثم اطمأننت وقلت: قد انتهى وإنه لقائم، وقعدت أرقبه، فلم يَرُعْني إلا الحلاق يُقبل على شعره فينفشه نفشاً، وهو ساكت لا ينكر
(1) استخرجت هذه المقالة من كتاب «في بلاد العرب» وعليها السنة التي نشرت فيها، ولم أعلم في أي مجلة أو جريدة وفي أي يوم أو شهر نُشرت (مجاهد).
(2)
العِذار ما نبت على الخد من اللحية، والقَذال شعر أعلى الرأس، والجمة هي الشعر المجتمع في مقدمة الرأس (مجاهد).
عليه، فقلت: لعله قد بدا له فأحب أن يقصر من هذا الشعر، ولن يطول أمد هذا التقصير، وإني منتظر.
وانتظرت والحلاق ماضٍ في عمله، حتى إذا تم النفش غدا على رأس صاحبنا شجرةٌ ذات فروع، فعجبت كيف كان هذا الشعر كله مصفَّفاً مستقراً، ورثيت له إذ يحمل على رأسه أبدَ الدهر هذا الحمل الثقيل، وأعجبني منه أن يزمع الخلاص منه.
ولكنه لم يقصّه كما قدَّرت أن يفعل، بل أشار إلى الحلاق فعمد إلى هنات سوداء -لا والله ما عرفتها من قبل وسنّي سنّي! - فأدخلها النار حتى احمرّت، ثم أدناها منه، فأشفقت أن يصيبه منها أذى، ثم فكرت فقلت: لعله مريض يكتوي، وقديماً قالت العرب:«آخر الدواء الكَيّ» . ونظرت فإذا هو يقبض على شعره بإحدى هناته تلك ويديره عليها، ثم يستلّها منه استلالاً، ثم يفعل مثل ذلك، وأنا أعجب منه. حتى انتهى، فإذا صاحبنا قد عاد جَعْدَ الشعر وقد كان سَبْطاً، فقلت: إنّا لله! رجل أصله من البربر فهو يجب أن يتشبه بأصله، والتمست له المعاذير.
وحسبته قد انتهى وظننت أنه قائم، ولكنه لم يقم بل أشار إلى الحلاق، فضمخ رأسه بماء «كلونية» وأقبل فسرّحَه تسريحاً، وعاد فمسَّه بدهن استخرجه من حُقّ صغير، فصار لرأسه وميض ولمعان، فقلت: الحمد لله، قد انتهى. ونزعت عني طربوشي، ثم أعدته إلى رأسي حين لم يقم، ولبثت أنتظر، وجاء الحلاق بكُمَّة (1) فوضع فيها رأسه وشدّها من حوله شداً، فقلت: مُصَدَّع
(1) الكمة غطاء يحتوي الرأس، كالقلنسوة أو الطاقية (مجاهد).
متألم فهو يخفف من صداعه.
ثم أخذ الحلاق الملقط، وعمد إلى حاجبيه فجعل ينتِش منهما نتشاً، وأنا أرثي له وأُلحّ عليه بالنظر، علّ عينه تقع على عيني فأبذل له عوني ونصرتي، فإن هذا الحلاق لا يكاد يرحمه! فلا يبصرني. ثم أدركَت الحلاقَ رحمةٌ فعفا عنه وأبقى عليه، فنظرت فإذا حاجباه خطّان كأنهما خُطّا بقلم، فقلت: سبحان الله! أي فتاة تُعطى مثل هذين الحاجبين ثم لا تنزل راضيةً عن سنين من عمرها؟!
وفتح الحلاق خريطة فاستخرج منها كُبَّة، أخذ منها خيطاً لَفَّه بين أصابعه وجعل في وسطه فرجة تضيق وتتسع كلما شدّها أو أرخاها، وأمَرَّ هذا الخيطَ على وجهه ووجهُه يتمعّر ويُخيَّل إليّ أنه يقاسي ألماً شديداً، ثم كَفَّ عنه، فلا والله ما ترك في جبينه زَغَبة (1) إلا اجتثّها هذا الخيط.
فقلت: قد انتهى، ولم يبقَ في وجهه ما يذهب به إلا أن يكون أنفه، فيكون كباغي الجمال بجدع الأنف! ولكن سرعان ما خاب ظني في أنه انتهى، ورأيت الحلاق يدلك وجهه دلكاً ويقرصه قرصاً، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، قد جُنَّ الرجل، وإلا فماذا يكون هذا القرص من الحِلاقة؟ ثم كفّ، فنظرت في وجه الشاب فإذا عليه حمرة الخجل، وأنعمت النظر والتفكير فعلمت أنها حمرة الصحة والحياة أو حمرة الدلك والقَرْص،
(1) الزغبة من الشعر كل صغير دقيق منه (وهي من الريش كذلك)(مجاهد).
فهممت أن أقوم إليه فألتزمه وأهنّئه على هذا الاختراع: يصيب الناسُ الصحةَ بالغذاء وبالرياضة ويصيبها هو بالدلك وبالقرص!
ثم تخاذلت ورحت أنظر مشدوهاً إلى الحلاق وهو يصبغ وجهه بالأبيض والأحمر، ورأيتني لا أطيق احتمال هذا منه -وأنا أكره من النساء أن يفعلنه- وعجبت كيف لا ينكره هو وكيف لا يُغضبه أن يُعامَل كامرأة! ولكنه لم ينكر شيئاً، بل أشار إلى الحلاق، فجاء بإصبع حمراء فمسّ به شفتيه كما تفعل فتيات السينما سواءً بسواء!
فلم أستطع المكث بعد هذا، وقمت فجلت في السوق جولة، ثم عدت لمّا فارق الكرسي.
* * *
وبعد، فما أدري كيف أصفه؟ ولو أنت عرضته على الناس بزينته تلك ما عرفوا أرجل هو أو امرأة! ثم كانت الطامة الكبرى، فقد اقترب مني الشاب يسلم عليّ ويزعم أنني أعرفه.
قلت: أنا أعرفك؟ لا، أراك مخطئاً.
قال: كيف؟ أنا تلميذك منذ كذا سنين في مدرسة كذا، وأنا اليوم معلّم.
قلت: أنت معلم؟!
ونَدَّتْ مني صرخة تعجب ولم أُجب.
* * *