المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (3) - البواكير

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌كلمات

- ‌خواطر غريب

- ‌طلاب دمشق

- ‌في ذكرى مولد فخر الكائنات

- ‌ألا ليشهد العالم كله

- ‌قطعةٌ من حديث (1)

- ‌قطعةٌ من حديث (2)

- ‌قطعةٌ من حديث (3)

- ‌أنا ونفسي

- ‌على قارعة الطريق

- ‌خطرات وكلماتالشهرة

- ‌أم الذكريات

- ‌استفتاء لغوي

- ‌على أطلال الخضراء

- ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (1)

- ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (2)

- ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (3)

- ‌رسائل سيف الإسلامالرسالة العاشرة

- ‌لماذا أنا مسلم

- ‌جمعية «الهداية الإسلامية» في دمشق

- ‌مقدمة كتاب «البعث»

- ‌أرجال…أم نساء

- ‌محاسن الإسلامالصلاة

- ‌الفاجعة

- ‌ما وراء الأكمة

- ‌في سبيل المقاطعة

- ‌افتتاحية مجلة «البعث»

- ‌على إثر الخسوف:احتجاجاتنا كطبولنا

- ‌من رسائل العطلة

- ‌ذكرى يوم الاستقلال

- ‌لا قوة إلا قوة الحقولا مجد إلا مجد التضحية

- ‌يا أمة الحرية

- ‌أندية الطلاب في العالم

- ‌أليس فيكم رجل رشيد

- ‌دع السياسة

- ‌مقدمة مجلة

- ‌معلم القرية

- ‌صفات الزعيم الحقيقي

- ‌على أنقاض آماليأنشودة الظلام

- ‌تحرير الرجل من ظلم المرأة

- ‌نريد خصومة موضوعية لا شخصية

- ‌إلى المبشرين

- ‌من هو السنوسي

- ‌خذوا الصواب من قلب الخطأ

- ‌نَحْطِمُهم كما يَحْطِم النسرُأمةً من الذباب

- ‌الشَّرَف

- ‌الأدب القومي

- ‌الأدب القومي أيضاً

- ‌بالأسلوب التلغرافيتَرَقّي الموظف

- ‌بالأسلوب التلغرافينحن وفلسطين

- ‌التربية الوطنية والدينية

- ‌نصائح لمن كان يتعلم الوطنية

- ‌عند الحلاق

- ‌الأستاذ شفيق جبري والوظيفة

- ‌إن في هذا لعبرة

- ‌قصة رمزيةورقة الخمسين

- ‌أبناؤنا وتاريخنا

- ‌الراتب، أم الواجب

- ‌رسالة الطالب

الفصل: ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (3)

رسائل سيف الإسلام

الرسالة الثالثة

‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (3)

لله الحمد والمنّة، ومنه التوفيق والإنعام، وعلى رسوله الصلاة والسلام. نحمدك اللهم على نعمة العقل التي خصصتنا بها دون هؤلاء الملحدين، ونعوذ بك من التقليد الأعمى الذي ابتليتهم به حتى أصبحوا يتّبعون آثار أوربا شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلَت جُحر ضَبّ لدخلوه ولو سكنت وِجار كلب لسكنوه. ولا غرو، فإنها رقصت فرقصوا، وتعرّت فتعرّوا، وزنت فزنوا، وانتحرت فانتحروا! لا نعني الشبان كلهم فأكثرهم بحمد الله مؤمن، بل نعني المتنوِّرين الناهضين -كما يسمون أنفسهم- وما هم بالناهضين إلا إلى شر، وما هم بالمتنورين إلا بلهيب السعير الذي جلبته عليهم أوربا فأَصْلَتهم جحيمه، فهم أبداً أصحاب وجهين: وجه مجدِّد مخترع، وهذا ما يولونه أهلَ الدين، ووجه مقلِّد خاضع، وهذا ما يولونه أوربا، صدق والله الشاعر:«أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة» !

وما لهم يَغضبون علينا ويُغضبوننا، ونحن لم نصنع شيئاً أكثر من الانتصار للإسلام والدعوة إلى الله؟ وعلامَ يغضبون من نصرة

ص: 98

الإسلام إذا كانوا مؤمنين موحِّدين؟ من يدري جواب هذا؟ هذا ما لا يعلمه إلا الراسخون في التجديد، والغائصون في حمأته إلى أعناقهم ومناخرهم!

* * *

وما لهم يخنسون وقد قلنا لهم: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين في تجديدكم، فكان جوابهم: إن أنت إلا رجعي وأنت جامد! كأن هذه الرجعية وهذا الجمود سلاح يلقونه في وجه من يطبع بالحق على قلوبهم ويَظهر عليهم ويخزيهم، وما أهون ذلك علينا ما داموا لا يجدون ذلك الرجل الذي وهبه الله البيان ووقاه من عيّ اللسان ليدافع عنهم ويثبت للناس صحة تجديدهم وسلامة عقولهم.

إن هذه الفئة قد فُتنت بأوربا وجُنَّت بها جنوناً، ولم تعد تعرف للخير والشر مقياساً إلا أنّ الأول غربي والثاني شرقي! وأعرف واحداً من هؤلاء، بل من أساطينهم، رويت له حادثة وأنبأته أن قد ذكرها ابن جرير في تاريخه وابن هشام في سيرته، فكذّبها وسخر منها، فلما كان بعد أيام رأيته فأقبل عليّ يقول: لقد كذّبتُ منذ أيام تلك الحادثة، ولكني وجدت أنها صحيحة. قلت: وكيف كان ذلك؟ قال: علمت صحتها لأني رأيت مسيو فلان ينقلها في كتابه «تاريخ محمد» !

بل أعرف كثيرين منهم يقدّرون الرجل ويقيسون عقله بمقدار ما يدور على لسانه من ذكر أوربا وثقافتها وآدابها ومذاهبها، ورجالها وعظمائها وجيوشها وأساطيلها! وعندهم أن مَن يحمل

ص: 99

شهادة من باريس أو لندن -ورأسه فارغ- خير ممّن يفيض علماً ولا يحمل شهادة! وثلاثة أرباع النابغين المبرزين إن أنت أحصيتهم وجدتهم من غير حَمَلة الشهادات.

اسمعوا وأجيبوني: ألا أستطيع أن أكون مسلماً مؤمناً بالله، مقيماً لفروضه مجتنباً نواهيه، وأكون عالماً إن شئت أو أديباً إن أردت؟ وهل يمنعني الدين من الإخصاء في علم أو التبريز في أدب؟ وهل حسبتم أن الثقافة قد قُصرت عليكم فكانت لكم خالصة من دون الناس أجمعين؟ لا، وأنا لم أدرس في الأزهر ولا في جامع الزيتونة، بل درست كما درستم وحصلت ما حصلتم، وأستطيع أن أتم درسي وأوالي تحصيلي حتى أكون كأحسنكم، ولا ينقص ذلك من ديني شيئاً.

* * *

أما والله لو عرف هؤلاء المجدِّدون أيّ لذة يشعر بها المؤمن -إذ يلتجئ إلى الله أو يقف خاشعاً بين يديه- لباعوا دنياهم كلها بصلاة واحدة. إنهم يصبحون وقد أضحى النهار، فيغسل أحدهم وجهه ويديه ثم يتناول طعامه ويذهب إلى عمله، حتى إذا كان المساء انصرف إلى مقهى ساء هواؤه وفسد جوُّه وقبح مشهده، فقضى فيه ثلثاً من ليله ثم فارقه وهو تَعِب محطم إلى الفراش! ويصبح المؤمن قبل الفجر أو بعده بقليل، فيشهد جمال الطبيعة التي خطّت سطورَها في صفحة الكون يدُ الله، فيمتلئ قلبه تعظيماً لله فيقف فيصلي خاشعاً خاضعاً، ثم يشهد بزوغ الشمس ويرقب أشعتها الذهبية إذ تتساقط على الأشجار والبُنى والبطاح، ثم يتناول طعامه بادئاً باسم الله خاتماً بحمد الله، ويذهب إلى عمله

أيّ

ص: 100

فرق بين صباح هذا وصباح ذاك، وأيّ جزاء يصيب به الله هؤلاء أكثر من حرمانهم هذه اللذة التي تتقطع دونها الأعناق؟

ويصاب الملحد بالمصيبة فتضيق به الدنيا، فلا يجد مخلصاً له إلا الانتحار أو الفرار، ويصاب المؤمن فيقول:"إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهمّ أنت وهبت وأنت أخذت، فلا حول ولا قوة إلا بك"، ثم يدعها لله فيبدله الله خيراً منها ويرزقه الصبر على فقدها.

ألا إن السعادة والهناءة في هذه الحياة الدنيا لا تأتي إلا من طريق الإيمان، ولا يعرف الإيمانَ إلا مَن ذاق لذته وخالطت قلبَه حلاوتُه، وأما من طمس الله على قلبه وضرب على فؤاده فلا يشتمّ ريحه ولا يدرك له مغزى.

ألا فليأذن هؤلاء المجدِّدون بحرب من الله ورسوله، فقد وقفنا أنفسَنا على كشف عيوبهم وإبداء سوءاتهم، حتى يعرفهم الناس كما هم لا كما يريدون أن يعرفوهم! وفّقَنا الله إلى التنكيل بهم أو وفّقَهم إلى الرجوع إلى دينه، إنه سميع يجيب الدعاء.

* * *

ص: 101

رسائل سيف الإسلام

الرسالة الخامسة

وجوب الدعوة إلى الله

ألا تشعر معي -أيها القارئ الكريم- بأن الإسلام في حاجة إلى دعوة واسعة النطاق متنائية الأطراف، يكون فيها مبشِّرون مخلصون ينشرون في الناس فضائله ويبيّنون لهم محاسنه، ومجاهدون مُجِدّون يدرؤون عنه كيد الخصوم وافتراء الأعداء؟ ألا تضحّي في سبيل هذه الدعوة وفي سبيل إنمائها وتقويتها بالشيء القليل من وقتك ومالك؟

لقد بلغ الأمر حدّه ولم يبق إلى تجاهله من سبيل، واسمع أقصص عليك نبأ حادث وقع معي منذ أمد قريب، وأمثاله كثير غير أنّا لا نَنْبَه (1) له ولا ندري به. حادث كان في «بَسِّيمة» (2)،

(1) نَبِهَ يَنْبَه، وتَنَبَّه يتنَبَّه، وانْتَبَه ينتبه، كلها بمعنى واحد، وكثيراً ما استعمل علي الطنطاوي هذا الفعل بصورته الأولى (نَبِهَ يَنْبَه) في كتاباته المبكّرة (مجاهد).

(2)

يمر بردى في طريقه إلى دمشق بمواقع صارت من مُتنَزَّهات الشام التقليدية: عين الفيجة والهامة وبَسّيمة ودُمَّر والرَّبْوة، وبَسّيمة من أجمل البقاع التي يتدفق فيها بردى قبل دخوله إلى دمشق (مجاهد).

ص: 102

وبسّيمة مُتَنَزَّه فَتّان حوى من جمال الطبيعة وبهائها ما لا يحيط به وصف، وأهل بسّيمة قوم ما أحسب أن في الناس أطهر منهم قلوباً وأصفى نفوساً وأقوى إيماناً.

ذهبت إلى «بَسّيمة» في يوم عطلة، فلم أكد أصلها حتى يمّمت وجهي -وكان ذلك مساء- شطر العين الخضراء، وعهدي بالعين ومرجتها بقعة إسلامية، تقام فيها الصلوات وتُتلى فيها آي الله ويرفرف عليها الخشوع بجناحيه الطاهرين، فرأيت فيها ما لا عهد لي به ولا يخطر لي ببال: نساء متبرّجات يعرضن للناس زينتهن وعوراتهن، ورجال مُبَرْنَطون يترصّدون لهن فيكلمونهن ويغازلونهن، وآخرون يشربون ويطربون ثم يسكرون ويعربدون، والصلاة تقام، فلا هم يصلّون ولا هم يكفّون عن ضجيجهم وغنائهم حتى يصلي المصلون! وما لم أحدثك به أدهى وأمر:

فَظُنَّ شَرّاً ولا تسألْ عن الخَبَرِ!

هذا في مَصِيف كنا نعده إسلامياً، فما ظنك بالزَّبَداني وبلودان؟ بل ما ظنك بلبنان؟ وأعاذك الله من لبنان!

لقد كنا وكان الناس يراؤون بالصلاح، فأصبحنا والناس يراؤون بالإلحاد. وكنا وكان العاصي يتنحّى ناحية ليعصي ويفسق، فأصبحنا والصالح يتنحّى ليطيع ويعبد! صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عاد الدين غريباً، وآضَ المتمسّك بدينه كالقابض على الجمر!

الإسلام غريب، وأين؟ في دمشق! ظئر الإسلام ودار التقى والصلاح، فيكف نرضى بالسكوت، ومن يخلّصنا من الله غداً إذا سألَنا: لِمَ لمْ تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر؟ بماذا

ص: 103

نجيب؟ أنقول له: "ربنا شغلتنا أموالنا وأهلونا، فأهملنا دينك وتركنا كتابك"؟ أنبقى على هذه الحال حتى تأتينا آجالنا فنموت موت البهيمة؟ أندع هذه الشرذمة القليلة تجهر بإلحادها وكفرها، وتحسب أن الجوّ قد خلا لها وأن دين الله لم يبقَ له من نصير؟

أتخيفكم هذه الفئة الضالة بكلمة واحدة قد اتخذتها سلاحاً لها وجِنّة، وهي كلمة «التعصب» ؟ إن التعصب في عُرف هؤلاء كل أمر فيه تأييد الدين ونصرته، فأنت لا تزال عندهم متعصباً حتى تدع دينك وتنبذ إيمانك وتسير -كما ساروا- في أذناب الغربيين، ولن يرضى عنك هؤلاء المجدِّدون حتى تتبع سخافتهم وجنونهم

وخير لك لو ألقيت كيدهم في نحورهم وقلت لهم بجَنان ثبت ولسان طلق: أنا متعصب!

وها أنَذا أقولها، فليسمعني الثقلان، وليمت من الغيظ الملحدون: أنا -الطنطاوي- متعصب، متعصب، متعصب

أكرّرها ألفاً! والتعصب ضروري على رغم أنوفكم، بل إن أمة لا عصبية لها لا بقاء لها، فهل سمعتم يا مجددون؟

إن كان رفضاً حُبُّ آل محمّدٍ

فليشهدِ الثَّقَلان أنّي رافضي!

* * *

إن المسلمين اليوم في معركة حامية نتيجتُها الحياة أو الموت، وإن العدو قد أحاط بهم من كل ناحية وأخذ عليهم كل طريق، ولا سبيل لهم إلى الظفر إلا بالاتحاد والجهاد.

ألا يجب أن نتحد، ويجب أن تتغاضى عمّا بيننا من خلاف في الرأي وبُعد في المذاهب، ما دمنا جميعاً نشهد أن لا إله

ص: 104

إلا الله، وما داموا يهاجموننا جميعاً. يجب أن نحارب الإلحاد والفسق والسفور والتهتك والخمور، وكل ما حرّمَ الله، ونقاطع كل من يدعو إليها أو يحبّذها، فإذا لم نفعل لم نكن مسلمين حقاً.

وكيف يحضر المسلم مجالس الخمر دون أن يكسر كأسَها على رأس شاربها -كائناً من كان- إذا كان قديراً على ذلك، أو ينسحب إذا كان ضعيفاً عاجزاً؟ وكيف يصادق المسلم من إذا أقيمت الصلاة جلس ناحيةً ينتظر فراغها كأنه من النصارى؟ وكيف يبقى المسلم في مجلس يُهان فيه الإسلام دون أن يصدع فيه بالحق، فيقوّضه على أهله أو يدعه للشيطان؟

إننا نعيد ما قلناه ونسأل الله أن يثبّتنا عليه، وما قلناه حق صَراح لا مرية فيه: هذا هو الإسلام، وهذه حدوده وشعائره، وهذه أصوله ومصادره: كتاب الله، وسُنّة نبيه، وإجماع المسلمين، وقياس العقل السليم، وهو دين الحق، دين المنطق، دين العلم، دين الحضارة، ولا سبيل إلا إلى قبوله جملةً أو نبذه جملة.

فهل في هؤلاء الذين يحسبون أنهم مجددون واحد، واحد فقط، يستطيع أن يدلل على هذا التجديد بدليل عقلي ويثبته بإثبات منطقي؟ إنْ «نعم» فأرونا، وإنْ «لا» فاخنسوا واخجلوا من الناس إذا كنتم لا تخجلون من الله.

* * *

أيها الناس، لا تحسبوا هؤلاء المجددين شيئاً مذكوراً، فما هم إلا بضعة أشخاص متهوّسين يقذفون من أفواههم خبثَ أنفسهم، فلا تحسبوا لهم حساباً ولا تقيموا لهم وزناً، فهم أهون

ص: 105

على الله وعلى الحقّ من جناح بعوضة!

دعوهم وانصرفوا إلى العمل. ليعمل كل فرد منكم جهده وليجاهد ما استطاع. نعم، إن ما يقدر عليه الفرد لا يقوم به عمل ولا يأتي منه كبير فائدة، ولكن الأفراد كثيرون، ويستطيعون -إذا وحّدوا جهودهم وعملوا جميعاً- أن يوجِدوا من قليلٍ كَلٍّ كثيراً له أثره وعمله في هذه الدعوة المنشودة.

فلِمَ لا نتفاهم إذن، ولِمَ لا نسعى إلى العمل جميعاً؟

إننا نحتاج إلى شيئين اثنين قبل كل شيء، وهذان الشيئان قوام حياتنا وأصل نجاحنا: مدرسة إسلامية تنجب للمستقبل رجالاً هم مسلمون قبل أن يكونوا وطنيين وقبل أن يكونوا متعلمين، وتقي أبناءنا وإخواننا شر هذه المدارس التبشيرية وأشباه التبشيرية، التي تفجعنا بهم وتعيدهم إلينا مارقين من دينهم، متجردين من قوميتهم جاهلين بلغتهم وتاريخهم

وجريدة إسلامية تخلّصنا من هذه الجرائد التي طلّقت الدين ثلاثاً، وأصبحت -إلا القليل منها- ترى الدعوة إليه والبيان لمحاسنه عاراً عليها ومَثلبة، وترى الدعوة إلى أوربا والترغيب في خبائثها فخراً لها ومكرمة!

فإذا وجدنا هذه الجريدة الإسلامية استطعنا أن نبيّن حكم الله في هذه الأمور التي تمرّ بنا، وأن نحارب هؤلاء المارقين أعداء الله بمثل السلاح الذي يحاربوننا به. وإذا وجدنا تلك المدرسة الإسلامية قَدِرْنا أن ننظر إلى المستقبل ونحن مطمئنون إلى نجاحنا فيه وظفرنا عليه.

* * *

ص: 106

رسائل سيف الإسلام

الرسالة السابعة

الصلاة وأسرارها

قال الله تبارك وتعالى: {إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمنينَ كِتاباً مَوْقوتاً} ، {إنَّ الصّلاةَ تَنْهَى عَن الفَحْشَاء والمُنْكَر} ، {فَوَيْلٌ للمُصَلّينَ الذينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهون} ، {وَأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري} ، {وأقيمُوا الصَّلاةَ وَلا تكونوا منَ المُشْركين} ، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضَاعوا الصّلاةَ واتَّبَعوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً، إلاّ مَنْ تَابَ} ، {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَر؟ قالوا: لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلّين}.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى): «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» ، «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» ، «لا دين لمن لا صلاة له، إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد» ، «من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله» ، «من ترك الصلاة فإنما وُتر أهلَه ومالَه» ، «من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبَيّ بن

ص: 107

خلف»، «أول ما يُحاسَب به العبد صلاته، فإن كان أتمّها كُتبت له تامة، وإن لم يكن أتمّها قال الله عز وجل لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملوا بها فريضته؟» ، «أسوأ الناس سَرِقة الذي يسرق من صلاته. قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يُتِمّ ركوعها ولا سجودها».

* * *

هذه بعض الآثار الواردة في الصلاة بياناً لمكانها من الدين، جمعتها وعرضتها ردّاً على من أهملها وهَوَّنَ خطرها وزعم أن له في غيرها غِنىً عنها. وكثير من الناس يرون هذا الرأي ويدينون بهذا المذهب، ولقد أتاني منذ أيام واحدٌ منهم يمتّ بنَسَبه إلى أسرة معروفة في دمشق بأنها أسرة علم وتقوى وورع وصلاح، فحدثني وحدثته، فكان من حديثه إليّ أن قال: لو أن امرأً نفع الناس وسعى في مصلحتهم، وأهمل صلاته ومنع زكاته، ما كان هذا ليضرّه شيئاً في جانب ما صنع! فحركت شفتي لأقول شيئاً، ولكنه لم ينتظرني وعاد يقول: وإني لأعلم أن هؤلاء الجامدين لا يقرُّونني على هذا الرأي ولا

وهنا لم أجد بداً من قطع حديثه بقولي: ولكن قل لي أولاً، أمسلم أنت؟

- يا الله! ألا تعرفني؟

- وتفهم ما هو الإسلام؟

- عجيب؟ ما هذه الأسئلة؟

ص: 108

- هي جواب كلامك يا صاحبي! إذ كيف تقول «هؤلاء الجامدين» وأنت تعلم أنه رأي الإسلام وأنه الذي جاء به محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم؟ إنك لا تعرف الدين، وهذه بليّتنا مع أمثالكم؛ لا هم يعرفون فينطقون بعلم، ولا هم يسكتون فيريحون الناسَ وأنفسَهم. نعم يا سيدي، إن من يترك صلاته وصومه وحجّه لا يُعَدّ مسلماً ولو خدم البشرية ألف عام، لأن هذه أركان الإسلام، وكيف يقوم الصرح على غير ما أركان؟

* * *

لقد آن لهؤلاء الذين يجهلون الدين أن يفهموا حقيقته ويعرفوا أصله، أو يعترفوا بجهلهم ويجهروا بقصورهم!

إن الإسلام دين كامل، ومعنى «دين كامل» أنه ينير لمتَّبِعه كل خطوة يخطوها في الحياة، فهو أرأف به من أبيه وأحنى عليه من أمه، وأعرف بمنفعته ومصلحته من نفسه التي بين جنبيه، يدلّه على كل ما فيه خير له وصلاح وينهاه عن ما فيه ضير عليه ووبال.

والدين ثلاث شعب: إيمان وإسلام وإحسان. فالإيمان حق الله، والإسلام حق النفس، والإحسان حق الناس. وليست هذه الشُّعَب متباينة مفترقة، بل هي متلازمة متقارنة لا تفترق أبداً، فالصلاة ركن من أركان الإسلام، ولكنها إذا تجردت عن الإيمان، عن التفكير بجلال الله وكماله وعن حضور القلب وخشوعه، أصبحت ضرباً من القيام والقعود لا مغزى له ولا فائدة. والصيام ركن من أركان الإسلام، ولكنه إذا خلا من الإيمان، من الإخلاص لله وابتغاء وجهه، من مراقبته والابتعاد عن عصيانه، آضَ نوعاً من

ص: 109

الشقاء، شقاء نفس ليس لله حاجة بتركها طعامَها وشرابَها إذا هي لم تدع قول الزور والعمل به. والزكاة ركن من أركان الإسلام، ولكنها إذا ابتعدت عن الإيمان وداخلَها الرياء والفخر تحولت معصيةً لا ثواب عليها.

ومثل هذا يقال في كل طاعة من الطاعات، ما دام الأصل فيها توحيد الله وأن تكون خالصة لله. ولا يجوز لامرئ أن يقوم بحق الناس ويدع حق الله وحق النفس، بل إن من يهمل هذا لا يقوم بذاك، ومن لا يفي لربه بخمس صلوات في اليوم لا يفي لأمته وبلاده، ومن لا ينفع نفسه لا ينفع وطنه.

وإذا كسل عن القيام للصلاة -وهو يعلم أنها خير له من كل خير- فكيف ينشط للتضحية بنفسه وماله في سبيل وطنه؟ ومَن الذي يعمل للوطن لا يريد من وراء علمه شهرة ولا ذكراً في الناس حسناً؟ إن هذا من طبائع النفس البشرية التي لا انفكاك لها عنها، وإني لأحاول -عَلِمَ الله- حين أكتب أن لا أفكر إلا في ابتغاء الأجر من الله، فتغافلني نفسي وتفكر في استقبال الناس لما أكتب وسرورهم به

هذا فيمَن يؤمن بأنه يعمل في سبيل دينٍ له ربُّه القادر على كل شيء، فكيف بأولئك الذين لا يكادون يعرفون لهم رباً؟

وما أدري كيف نعامل تارك الصلاة ونثق به؟ إنها لحماقة منا أن لا نكون منه على حذر وأن لا نسيء به الظن ونرقب منه الغدر، وقد أساء إلى نفسه وغدر بها، فمنع عنها خيراً كثيراً وسَدَّ في وجهها باب السعادة الأبدية بتركه الصلاة!

* * *

ص: 110

ولنترك هذا الآن ونسأل: هل نحن نصلي؟ قبل أن أجيب على هذا أقصّ على القارئ قصة الشاعر والأمير: وذلك أن شاعراً أراد الدخول على أمير كريم يعطي المال الجزيل من يمدحه على شرط أن يخلص في مدحه ولا يذكر في حضرته غيره، فسأل حاجبه عن الوقت الذي يؤذَن له فيه والهيئة التي يلقاه عليها، فقال له: إذا كان صباح غد فتطيّبتَ ولبست كذا وكذا من الثياب ثم جئت إليّ أوصلتك إليه، وعليك بعد ذلك مدحه والثناء عليه. فراح فصنع ما قال له، لم يخرم منه حرفاً، فلما دخل على الأمير نسي كل شيء إلا أُمْدوحة قالها في أعدائه، فطرده!

هذا هو مثلنا إذ نصلي، ولله المَثَل الأعلى: بيّنَ لنا الفقهاء ما من شأنه تطهير ظاهرنا وصلاحه وتركوا لنا الخشوع وحضور القلب، فتركناه وحسبنا ما ذكره الفقهاء كل شيء في الصلاة، فاستحالت صلاتنا قياماً وقعوداً، وأصبحنا نتلو قوله تعالى:{إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعينُ} والله يعلم أين قلوبنا وماذا نعبد: مالاً؟ أم تجارة؟ أم أهلاً؟ أم ولداً؟ ولو أقمنا الصلاة على وجهها وفهمناها على حقيقتها لنَهَتْنا عن الفحشاء والمنكر وأصلحَتْ لنا أمرنا كله. وأيّ منكَر يُقْدم عليه مَن لا يغيب عن الله طرفة عين، ومن يقف خاشعاً خمس مرات كل يوم بين يدي رب العالمين الذي يعلم السرّ والخفي؟ يفكر في عظمته وجلاله، فيتضاءل العالم في عينيه حتى يصبح -بجانب ما يفكر فيه- كالحلم من الحقيقة والفناء من البقاء، فلا يرى إلا الله الحي الباقي، فيسأله أن يا ربّ {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ} ووفِّقْنا إلى الطريق السويّ، {صِراطَ الذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهم} فوفقتهم وهديتهم، فيجيب الله دعاءه ويمنحه

ص: 111

ما طلب، لأنه قال: ادعوني، ووعدنا بالاستجابة.

أي مسلم يذوق حلاوة الصلاة ثم يتأخر لحظة واحدة عن إجابة داعي الله إذ ينادي: "حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح"، ولا يدع عمله وشغله مهما عظم وكبر؟ وماذا يضرّه تركه وهو ذاهب ليجيب داعي الله، والله قادر على أن يمنحه بدلاً عنه عشرة أمثاله؟ ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

* * *

لو كنا نصلي الصلاة التي أمر بها ربُّنا إذن ما بقي فينا -والله- ضعيف ولا فقير ولا بائس. لو كنت أنا الذي أعظ الناس قادراً على نفسي

إنني لأعظهم وهم أحسن مني، وإنّي لأتصور هذا فأَهُمّ بكسر القلم وتمزيق القرطاس حياءً من الله، ثم يبدو لي فأقول: لعلّ الله يرحمني فيهديني ويهدي بي (ولأن يهدي بي الله رجلاً واحداً أحب إليّ من حمر النَّعَم (1)).

اللهم يا ربّ لقد غلبَتنا أنفسنا، فقوِّنا عليها وأعِذْنا منها ومن الشيطان الرجيم، يا الله.

والله لو كنا نبتدر باب المسجد حين نسمع الأذان ما بقي فينا من يُخلف الوعد أو يكذب إذا قال، لأننا نكون أقوياء الإرادة حافظين للمواعيد. ولو كنا نسبغ الوضوء لكل صلاة ونأتي بسننها ونوافلها ما بقي فينا مريض ولا واهن القوى، لأنها تقوّي أجسامنا

(1) النعم (بفتح النون) مفرد الأنعام، وهي الإبل أو الشاء والغنم، وكانوا يرون خيرَها ما كان أحمر اللون فضربوا به المثل (مجاهد).

ص: 112

وتشحذ أدمغتنا، وتثبتنا وتشد من أزرنا. ولو كنا ندرك الحكمة من صلاة الجماعة ونتذاكر في شؤون المسلمين وأحوالهم وما وقع لهم وعليهم، ما نزلت بنا هذه النكبات التي نضجّ اليومَ بالشكوى منها ولا نطيق لها دفعاً.

الصلاة مِلاك الإسلام وعموده، فحافظوا عليها وأقيموها لأول أوقاتها، لا تؤخروها، واخشعوا فيها واطمئنوا، واذكروا أنكم واقفون بين يدي خالقكم الذي يعلم سركم ونجواكم، ونَبِّهوا إليها أهلكم ونساءكم، ورَبُّوا عليها أولادكم وبناتكم، وقاطعوا كل تارك لها مقصر فيها، ولكم في الله عنه غنى، هو حسبكم ونعم الوكيل.

* * *

ص: 113

رسائل سيف الإسلام

الرسالة الثامنة

البلاء الأعظم في المغرب الأقصى

يا أيها الناس من ذكر وأنثى وكبير وصغير:

من كان في قلبه ذرة واحدة من الإيمان فليحرص اليوم على دينه وليصلح أهله وداره، فوالله إن ثابرتم على غفلتكم ولم تَنْبَهوا من إغفاءتكم، أوشك أن يعمّكم الله ببلاء من عنده يصيبكم به، فلا تقوم لكم قائمة إلى يوم القيامة! إنكم في يوم عصيب أصبح فيه إيمان أحدكم كالشعلة الضعيفة تتنازعها الرياح الأربعة، إذا لم يحفظها ويدرأ عنها أُطفئت في لحظة واحدة وعمَّ ظلام لا نور بعده، فاعتبروا مما سأقصه عليكم وأحدّثكم به.

مَن منكم يستطيع أن يملك قلبه، لا ينفجر لهول ما سأقص عليه؟ من منكم يطيق أن يمسك فؤاده، لا يتقطع لعظم ما سأحدثه به؟ من منكم يقدر أن يسمع خبر الإسلام تُنتهَك حرماته، والقرآن تُعطَّل آياته، والمسلمين يكفَّرون بقوة السيف ومكر السياسية، دون أن يغضب لدينه وينهض لنصرته، حتى لا يصيبه ما أصاب المغاربة المساكين؟

ص: 114

هل بلغكم نبأهم؟ إنه نبأ جليل وخطب عظيم:

ألا ترون إلى ما في رِباط سَلا؟ (1)

ألا ترون إليها كيف تُحتَضَرُ؟

الكفرُ من خلفهمْ والموتُ دونَهُمُ

فهم سيُبْلَون إن فَرّوا أو اصْطبَروا

يا للبلادِ استباح القومُ حرمتَها

يا للديانةِ! هل للدين مُنتصرُ؟

يا أيها الناس: اذهبوا إلى بيوت ربكم فتطهروا، ثم توبوا إلى الله توبة نصوحاً واسألوا الله اللطف بإخوانكم المغاربة. إنهم إخوانكم، يعبدون الله ربكم، ويصلّون إلى الكعبة قبلتكم، ويؤمنون بمحمد نبيكم، فقولوا: اللهمّ الطُفْ بهم وبنا يا لطيف! يا أيها الناس: ماذا تكون حالكم لو أرسل الله عليكم بلاء من عنده، فأحرق عليكم مدينتكم ودمّر دوركم وذهب بأموالكم، ثم ترككم في العراء لا ظل ولا ماء؟ إن ذلك كله أهون -ورب الكعبة- من أن يضيع عليكم دينكم وينزع منكم إيمانكم!

وأين المجدِّدون اليوم؟ أين هؤلاء الذين يتهموننا بالتعصب والجمود إذا صلينا أو صمنا، وينكرون علينا كلمة نكتبها في الدفاع عن ديننا، ويسمّون الأوربيين متمدنين أحراراً ولو كَفَّروا الناس جهاراً وأخرجوهم من دينهم قوة واقتداراً؟ ما لهؤلاء المجددين لا يسمعون، وإذا سمعوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا ينطقون، وإذا

(1) الرِّباط وسَلا من مدن المغرب الأقصى.

ص: 115

نطقوا لا يَصْدقون، وإذا صدقوا لا يثبتون، وإذا ثبتوا لا يخلصون؟ صدق الله، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب.

* * *

يا أيها الناس: أتدرون ماذا حل بالمغاربة؟ أصيخوا إليّ بأسماعكم، وأمسكوا بقلوبكم، واحبسوا أنفاسكم، وأعدّوا مآقيكم، فستبكون كثيراً وستحزنون طويلاً: أمة مسلمة من البربر تبلغ السبعة الملايين (تصوروا ضخامة هذا العدد: سبعة ملايين. ضعف سكان سوريا!) أصدر سلطان المغرب (المسلم) أمراً منه تنازل فيه عن حقه في الإشراف على أمورها الدينية إلى الفرنجة المستعمرين!

أتدرون ماذا صنعوا بعد ذلك؟ قام النصارى في الرباط عاصمة المغرب بصلاة الشكر في أعظم كنائسهم، ثم أخرجوا من هذه القبائل قُرّاءَها وحَمَلةَ القرآن فيها فأجلوهم عن البلاد، وحظروا على المسلمين قراءة القرآن والصلاة وكل أعمال الإسلام، وأغلقوا المساجد، وهددوا كل من يتكلم بالعربية أمام العموم بصارم العقاب، وأجبروا الوِلْدان الصغار على الذهاب إلى كنائسهم وأداء طقوسهم، وصاروا يشيدون الكنائس في كل جهة من مال الأوقاف الإسلامية

الأوقاف الإسلامية، هل فهمتم؟! (1)

(1) هذه هي حادثة «الظهير البربري» المشهورة. و «الظَّهير» هو القرار أو المرسوم بلغة المغاربة. وقد صدر «الظهير البربري» في السادس عشر من أيار (مايو) 1930 بتوقيع السلطان محمد الخامس، ونَصَّ على وضع مناطق البربر تحت سلطة الإدارة الاستعمارية الفرنسية، وعلى =

ص: 116

هذا ما يقوم به رجال التمدّن فيعده مجدِّدونا تقدماً ومدنيّة، وندعوهم إلى ما جاء به الدين فيعدّونه رجعية وجموداً، ويقولون بعد هذا إنهم عقلاء؟

* * *

= إنشاء محاكم خاصة بالبربر تعتمد في أحكامها على أعرافهم المحلية بدلاً من الشريعة الإسلامية (على اعتبار أن عادات البربر وأعرافهم كانت سابقة على الإسلام)! وبهذا المرسوم فَقَدَ السلطانُ المغربي حقَّ الإشراف الرسمي على البربر، وفقد البربرُ الغطاءَ الإسلامي العربي الذي كانوا يعيشون في ظله طوال القرون السابقة.

لقد أرادت فرنسا بإصدار هذا القانون «فَرْنَسَة» وتنصير البربر والتفريق بينهم وبين العرب وعزلهم عن العربية وعن الإسلام، وسرعان ما مُنعت اللغة العربية في تلك المناطق وفُتحت مدارس أمازيغية دُرِّس فيها التاريخ واصفاً العرب الفاتحين بالغُزاة ومؤكداً على الهوية البربرية لأصحاب البلاد الأصليين! واعتبر الفرنسيون أن تنصير البربر هدف غير قابل للتراجع، حتى لقد قال واحد من قادتهم في كتاب أصدره سنة 1923:"يجب محو إسلام البربر وفَرْنَستهم". لكن الذي حصل غير ما كان يرجوه الفرنسيون، فقد أجَّجَ صدورُ «الظهير البربري» الروحَ الإسلامية والوطنية وأشعل في طول البلاد وعرضها ثورةَ غضبٍ عارمة، فانطلقت المظاهرات في أكثر المدن الكبرى -مثل فاس وسلا وطنجة وتطوان- وشاركت طبقاتُ الأمة كلها في النضال بلجوئها إلى مقاطعة البضائع الفرنسية مقاطعة صارمة. وامتدّت هذه الروح إلى أنحاء العالم الإسلامي كافة، فكانت حملة مدوّية قادها محب الدين الخطيب والأمير شكيب أرسلان في مجلة «الفتح» ومحمد رشيد رضا في «المنار» ، وشارك فيها «الأزهر» والجمعيات الكبرى كجمعية «الشبان المسلمين» وجمعية «الهداية =

ص: 117

هذا ما وقع في المغرب الأقصى، وهذا ما سيقع لكم إذا أنتم أسلمتم أبناءكم إلى هذه المدارس العاملة على التبشير بالنصرانية والتشكيك بالإسلام، وهذا ما سيقع لكم إذا أنتم ثابرتم على غفلتكم وتفرّقكم واشتغالكم بمصالح أنفسكم، لا تفكرون أبداً في مصالح أمتكم وطرق تقوية دينكم.

فيا أيها الناس ممّن آمن بالله واليوم الآخر: عودوا إلى دينكم، طهِّروا من الفساد بيوتَكم ومن صحبة أهل الضلال نفوسَكم، امنعوا من التبرّج نساءكم ومن مدارس التبشير والإلحاد بناتكم وأولادكم، اعكفوا على كتاب ربكم وسنّة نبيكم، فذلك أولى بكم، ورَحِمَ الله من سمع فوعى وعمل فأخلص.

* * *

= الإسلامية»، وتتابعت المقالات الغاضبة والمندِّدة بحكومة فرنسا و «سياستها الصليبية» في كل جرائد الشرق الإسلامي، في مصر والعراق والشام وفلسطين والحجاز وليبيا وتونس، بل لقد وصل الغضب إلى أندونيسيا التي شاركت جمعياتها الإسلامية الكبرى في تلك الحملة. ورغم أن هذه الردود العنيفة كلها لم تفلح في إلغاء «الظهير» -الذي بقي معمولاً به بشكل رسمي حتى ألغاه السلطان محمد الخامس في أواسط الخمسينيات- إلا أن الأثر الذي رجاه له الفرنسيون لم يتحقق ولم يترك البربرُ الإسلامَ الذي ارتضوه من قبل لهم ديناً (مجاهد).

ص: 118