الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جمعية «الهداية الإسلامية» في دمشق
نشرت سنة 1930 (1)
أحمَدُ الله أن قدرت على مقالة واحدة أكتبها راضياً قريرَ النفس لا ساخطاً ولا متذمراً، وقد كان ما أكتب بنفثات المصدور وأنّات الحزين أَشْبَه.
وكيف يرضى كاتبٌ يلقي بصره على كل مكان وبداخل كل إنسان، فلا يرى -حيثما سار وأنّى تلفّتَ- إلا الشقاء والآلام والمصائب والرزايا؟ هَلُمَّ أذهب بك حيث تريد أن أذهب بك، وأسايرك من مطلع الشمس إلى مغيبها، ومن جنوب المدينة إلى شمالها، فإن وجدتَ في كل ما ترى غير ما أقول فلك حكمك!
وما أرى لنا مثلاً إلا صِبْيَة صغاراً مقيمين في دار
…
لا، أخطأت، بل هم نائمون والدار تأكل جوانبَها النيرانُ وتندلع في أركانها ألسنةُ اللهيب، فلا يحسّون ولا يفيقون حتى تلعب في سرابيلهم وأجسامهم، وإذن لا يفيدهم حسُّهم فتيلاً ولا ينفعهم شيئاً.
لقد أحاطت بنا الأرزاء واتفقت علينا الحوادث، فدخلت
(1) في جريدة «القبس» بتاريخ 29/ 11/1930 (8 رجب 1349).
كل دار وامتدت إلى كل نفس ونسجت على كل وجه خيوطاً من الكآبة والغم لا سبيل إلى سترها: لم تَنجُ منها السياسة ولا الاقتصاد ولا الأخلاق؛ فالشركات الأجنبية تستعمر أسواقنا، والأقمشة الأجنبية تستعمر أجسامنا، والأفكار الأجنبية تستعمر نفوسنا، وقد سُلبنا كلَّ ما ندفع به عن أنفسنا البلاء، حتى الألسنةَ التي تنطق بالتحذير من الشر المستطير!
هذا قرن النور والحياة يفيض بهما على الشعوب جميعاً إلا نحن، فكأن شؤم طالعنا وسوء حظنا حوّل النورَ علينا ظلاماً والحياةَ موتاً، فنحن أسوأ الناس في أفضل العصور وأشقى البشر في أسعد الأيام. وماذا ينفعنا أن يرتفع البنيان في نيويورك إلى السماء مئة طبقة ونَبيت في كوخ لا يمنع عنّا قَطْرَ السماء؟ وماذا يفيدنا أن تبلغ ثروة روكفلر الملايين ولا يملك غنيُّنا إلا دَيْناً يعجز عن قضائه وشقاء يهيم في فضائه؟ وماذا يعنينا أن يطير الناس في الهواء ويغوصوا في أعماق الماء إذا كنا لا نقدر على السير في الأرض ولا على قطع الجداول؟
لقد كان هذا القرن نوراً وحياة، ولكن على غيرنا، أما نحن فما نبصر فيه إلا الظلمة ولا نرى فيه إلا قبوراً مفتَّحة تنتظرنا. إننا نلبس كما يلبسون ونتكلم كما يتكلمون، ولكنك إن كشفت عن بواطننا وأعلنت سرائرَنا وجدتنا كالمُحتضَر، يقوم ويقعد ويصيح ويهتف ويأمر وينهى كأشد ما يكون في حياته، ولكن الدهر ما مَدَّ له في قوته إلا ليقصر من أجله.
إن هذه حال إن دامت واستمرت أوشكت عاقبتُها أن تكون هلاكنا ودمارنا، أو أن نندمج في شعب آخر فلا يُعرَف لنا أصل
ولا يُرى لنا كيان، أو أن نعيش فقراء عاجزين (والفقر أخو الموت وحليف الدمار)، أو أن نخرج من بلادنا وندع أوطاننا ثم نذهب بين سمع الأرض وبصرها فنصبح أحاديث!
كأني بالقارئ يصيح بي وقد بلغت به إلى هنا مَغيظاً محنقاً: إذا كان هذا مقالك وأنت راض قرير العين، فماذا تقول لو سخطت وغضبت؟ وما خبر هذه الجمعية التي عقدت عليها مقالك؟ أَعْلِمْنا علمَها فقد أطلتَ علينا مقدمتك حتى لتظننا قد مللنا.
* * *
مهلاً يا سيدي القارئ، فهذا خبر الجمعية يأتي. ولكن قل لي قبلُ: ألستَ تشعر بأن هذا زمان الجماعات، وأنه لا بد لنا إذا أردنا أن نضرب في الحياة بالسهم الوافر من إنشاء الجمعيات تعمل على تحسين الأخلاق وإصلاح المجتمع، وتأليف الشركات تَجِدّ في رفع مستوى صناعتنا وتوسيع نطاق تجارتنا؟
إنك تشعر بهذا كله لا أشك في ذلك أبداً، ويسرك كما يسرني أن أقدم إليك جمعية جديدة، لا بل الجمعية الأولى التي أُنشئت في دمشق لتعمل على نشر الفضيلة ودرء الرذيلة وبث الأخلاق الفاضلة، والتي تتوسل إلى هذه الأغراض -كما جاء في قانونها- بالطرق الأدبية، فتنشئ نادياً لإلقاء المحاضرات الأدبية والعلمية والدينية وتنشر وتكتب، وتلقي المحاضرات في المساجد والأسواق والمجتمعات، على أن لا تتدخل في السياسة.
وما هي هذه السياسة؟ ما هو حدّها؟ أيُّ الأعمال يُعَدّ سياسياً؟ هذا ما لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم! ولا بأس
يا سيدي القارئ، فماذا يضير الأمة أن تنصرف إحدى جمعياتها للأمور الأخلاقية والاقتصادية، وماذا يفيد الاشتغالُ بالسياسة الضعيفَ المغلوبَ على أمره؟
ولا أحب أن أطيل عليك القول، فسترى التفصيل في مقالات ستأتي إن شاء ربك وفيها بيان موجز عن هذه الجمعية، جمعية الشبّان المسلمين الذين جمعوا بين علوم الدنيا والآخرة، أو على الأصح بين العلم والدين، «جمعية الهداية الإسلامية» التي أُسِّسَت في دمشق في غرة ربيع الأنور من عام 1349هـ (1).
* * *
(1) في «الذكريات» خبر هذه الجمعية وقصة تأليفها، تجدونها في الحلقة 33 في الجزء الأول، وفيها:"وأُلِّفت الجمعية وأعلنّا عنها في ردهة المجمع العلمي العربي (في المدرسة العادلية الأثرية)، سمح لنا بذلك رئيس المجمع أستاذنا محمد كرد علي. وكنت أنا الذي تَشرّف بالإعلان عنها في محاضرة دُعيَ الناس إليها، وأعلنت -أيضاً- عنها وذكرت قصة إنشائها وخلاصة قانونها في مقالة (عندي نسخة منها) نُشرت في «القبس» عند صديقنا الأستاذ نجيب الريّس في عدد 29/ 11/ 1930"(مجاهد).