الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في القدس
على قارعة الطريق
نشرت سنة 1929 (1)
-1 -
- إليّ، إليّ يا بُنَيّ. ما لك؟
- أين أبي؟ أين أمي؟
هذا جواب ذلك الطفل الصغير الضالّ، أفصحت عنه عيناه الباكيتان ومنظره المُشْجي إذ قد عَيَّ به لسانه المتلعثم الذي ما يكاد يُبِين.
ناديته، فأقبل إليّ وحدّق إلى وجهي، فلمّا لم يَرَني أباه ولّى وله منظر تدمى له أقسى القلوب وآهات تتقطّع لها نياطها، إلا قلوب بني صهيون فإنها لا تحركها رحمة
…
أو يحرّكَ (2) النسيمُ الرقيقُ الصخرةَ الجلمود.
(1) نشرت في مجلة «الفتح» ، العدد 169 من السنة الرابعة، الصادر بتاريخ 17/ 10/1929 (14 جمادى الأولى 1348).
(2)
أي: إلا إذا حرك النسيمُ الصخرةَ! انظر الحاشية التي سبقت في صفحة 22 (مجاهد).
مضى على وجهه وقد توردت عيناه من البكاء وتورمت قدماه من السير، يصيح: بابا، ماما، ماما، بابا
…
حتى انقطع عن عيني مرآه وعن أذني مسمعه.
-2 -
- هل رأيت طفلاً صغيراً أضلّ أبويه وأضلّه أبواه؟
…
لا، لا، بل أضلّته أمُّه وأضلّت أباه. أباه
…
آه، أين أبوه، هل ذبحوه؟ ربّاه، انتقم لنا من هؤلاء الوحوش. إنهم أخرجونا من دارنا وقتلوا رجالنا و
…
امرأة شاحبة اللون، مخطوفة البصر كأن بها مسّاً، ألقت عليّ هذا السؤال ثم ذهبت لا تلوي على شيء ولا تسمع مني جواباً.
-3 -
- جنازة من هذه؟ فوالله ما رأيت باكياً ولا باكية كاليوم!
- فلان، ذبحه اليهود في داره.
-4 -
- الجامعة العربية
…
أخبار محلية
…
- هات عدداً.
"فاجعة: تسوَّرَ اليهود على فلان دارَه فأحرقوها عليه، وفرَّت زوجته وطفله لا يجدون مأوى يؤويهم ولا طعاماً يقيم صلبهم
…
"
-5 -
كأني بك وقد قرأت هذا -وليكن خيالاً، فهو والله عين الحقيقة- فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنّا لله
…
إلى آخر ما تعوّدتَ أن تقوله. ثم قمت إلى بطنك فملأته من أطايب الطعام، وهم لا يجدون ما يتبلّغون به، وإلى إخوانك فحدثتهم مُسِرّ الأحاديث، وأولئك لا أصحاب لهم، وإلى فراشك الوثير فتمددت فيه، وأولئك لا يجدون إلا المَدَر فراشاً، ثم أصبحت فقلت: الحمد لله على دين الإسلام.
وأي إسلام هذا لعمري؟!
* * *
رسائل في سبيل الإصلاح (3)
دمشق بعد تسعين عاماً (1)
ماذا يكون يومئذ إذا لم نبادر إلى الإصلاح اليوم؟
أخرج هذا «الطنطاوي» أولى رسائله فأغضبت وأرضت، ثم قفّى على إثرها بالثانية فلم تدع راضياً عنه أحداً، ولم يدع الناسُ لفظةً في دواوين اللغة تدل على الانتقاص والشتيمة إلا رموه بها غيبة وحضوراً، حتى ضاق بخصومتهم ذرعاً، فحدّث عن نفسه فقال: لفظتني النوادي وجانبني الرفاق، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، حتى لا أرى فيها إلا وجوهاً تعلوها سيما الغضب وأصواتاً تملؤها كلمات الشتم.
(1) هذه هي الرسالة الثالثة من رسائل «في سبيل الإصلاح» ، صدرت في دمشق في رجب سنة 1348 (كانون الأول (ديسمبر) 1929)، وقد سبقتها اثنتان: الأولى عنوانها «في الإصلاح الديني» والثانية «كلمة إلى طلاب دمشق» . فأما الثانية فقد مضى موضوعها مع الأيام، وأما الأولى فتجدون خلاصتها وأجزاء منها في الحلقة الثامنة والثلاثين من «الذكريات» ، فمن شاء الاطلاع عليها فليرجع إلى تلك الحلقة، وفيها تحدث عن هذه الرسائل فقال: "كانت «رسائل الإصلاح» أول كتبي صدوراً، من يقرؤها الآن لا يستطيع أن يدرك الأثر الذي كان =
ذهبت إلى منزلي فراراً من الناس، فلم يستقرّ بي المقام فيه حتى خرجت منه مَوْهناً، وكانت ليلة ظلماء لا نور فيها إلا هذه النجوم المتلألئة في سمائها الصافية، ولا صوت إلا صوت قدمي على بلاط شارع بغداد الذي أسير فيه مغرّباً، لا أعرف لي قصداً ولا غاية، وقد تاه بصري في دجى الليل وفكري فيما وراء المادة.
كدت أسير إلى الصباح ما دمت لا أفكر في شيء وأفكر في كل شيء، لولا أن استوقفني شعور برهبة اعتراني، فعادت إليّ نفسي، فبصرت ما حولي فإذا أنا بين الأموات! وإذا أنا قد قطعت هذه الأسلاك الشائكة التي تفصل شارع بغداد عن مقبرة الدَّحْداح ودخلت المقبرة، فتمثلت لي شواهدها الماثلة أشباحاً مخيفة، فمُلئتُ رعباً وفزعاً، وخانتني رجلاي فسقطت مكاني، وأحسست بشيء سقط عليه رأسي فكان له كالوسادة، وإذا هو قبر!
وأُحسّ حركة، فألتفتُ فأرى القبر ينشقّ فيخرج منه ميت قد تقطع كفنه، ويقترب مني فأجمد في مكاني ولا يبقى حياً مني إلا
= لها يوم صدورها. إنها كانت حَجَراً، أو قُل «حصاة» أُلقِيَت في بركة ساكنة. ألا ترون الحصاة -على صِغَرها- ترسم على وجه البركة دائرة بعدها دائرة أوسع منها، ثم تتعاقب الدوائر حتى تبلغ حَفافي البركة كلها؟ " (الذكريات 1/ 403). ورسائل الإصلاح هذه أربع، غلبت الشدة في اللفظ والأسلوب على أكثر مادتها، حتى لقد وصَفَها في ذكرياته فقال: "الناس يبدؤون باللين وأنا بدأت الكتابة بالعنف، وهم يكتبون للفنّ والأدب وأنا بدأت للنقد والإصلاح؛ بدأت برسائل الإصلاح فهِجْت على نفسي حرباً لا طاقة لي بها، حرباً ما لي فيها نفع ولا لي في غنائمها أمل" (الذكريات 2/ 5)(مجاهد).
سمعي، فأسمعه يقول: أيها الولد الخبيث! ما أنت ونقد الشيوخ وإصلاحهم، وهلا أصلحت إخوانك وأترابك من الشبّان؟ أيها الشرير، ألا تبصر أخلاقهم؟ ألا ترى تقليدهم الغربيين؟ أعَميتَ عن كل هذا ولم يبقَ محتاجاً إلى الإصلاح إلا الشيوخ؟ ويلك! ألست تزعم أنك من صالحي الشبان، وأنت لا تزيد على فرضك، وربما تهاونت به أحياناً؟ فهلا عمدت إلى نفسك فبدأت بإصلاحها؟ الويل لك الليلة من انتقامي وبطشي!
ويُعقَد لساني فلا أرد عليه حرفاً، ويقترب مني، حتى إذا لم يبقَ بيني وبينه إلا ذراع أحسّ بحركة، وأرى سحابة كبيرة تمر من فوقنا، فيلامسه ريحها فيسقط ميتاً وأغوص في الأرض عشرة أذرع.
* * *
مرَّت مدة الله أعلم بمداها، ثم صحوت، فرأيت البلاد تغيَّرَت ومَن عليها، فلم يعد هناك مقبرة ولا بساتين، بل شارع ضخم على جانبيه القصور الفخمة ذات العشرين طبقة، وأهله كلهم يلبسون القبعات واللباس الأوربي، فعرفت في الحال أنني في باريس!
اقتربت من أحد الناس فقلت له بالفرنسية التي أعرف منها شيئاً: بونجور. فصعّدَ فيّ نظره وصوّب، وتأملني باسماً متهكماً، ثم سار ولم يردّ علي شيئاً. فرجعت إلى نفسي فوجدتني غريباً في زيي، وكيف لا يكون غريباً من يلبس الطربوش ومن لم يقص شاربيه؟ فأسرعت إلى حلاق فحلقت، واشتريت قبعة، وخرجت
أنظر متعجباً، لا أجرؤ على السؤال عن اسم المدينة وعن تاريخ اليوم لما لاقيت من الرجل الأول.
وأرى شيخاً هِمّاً فأتخيل أني أعرفه، وأتقرب منه فأجده صديقي فلان، وقد كانت سنه حينما فارقته عشر سنوات، فأتعجب من شيخوخته وشيبه وأنا أكبر منه ولا أزال شاباً! ولا أعرف بأي لغة أخاطبه فأقول له: السلام عليكم بونجور غودمورنينغ!
فيرد عليّ قائلاً: وعليكم السلام ورحمة الله. ويعجب من سلامي، فأنتسب له فيعرفني ويهشّ لي ويقول: كيف عدت إلينا وقد حسبناك متّ منذ تسعين سنة؟
- إن لي لخبراً طويلاً، ولكن أخبرني قبلُ: في أي سنة نحن الآن؟
- في السنة 2019 ميلادية.
- وما هذه المدينة؟
- عجيب منك، ألا تعرفها؟ هذه دمشق.
- دمشق؟ ماذا تقول؟ أرجوك أن لا تهزأ بي.
- جِدّاً أقول إنها دمشق.
- ومتى كان لدمشق مثل هذا الغنى وهذه العظمة والرقي؟
- لا تغترّ، فما لدمشق منه شيء، ولكنه شارع الأجانب، والأجانب -تجاراً وصنّاعاً- هم سادة المدينة وعظماء أهلها ومالكو زمام أمورها.
- وماذا فعل أهلها؟ فلقد تركتهم على أبواب نهضة اقتصادية كبرى، ولقد أسسوا معامل للدباغة والنسيج و
…
- آه، لقد أذكرتني عهداً كنت له ناسياً، ولا يعرفه ممن ترى غيري. إن ما تقوله صحيح، ولكن
…
آه! عمَّ أحدثك؟ هلمَّ، هلمَّ إلى أحد المقاهي فإنني لا أطيق الوقوف.
* * *
وندخل المقهى فتأتينا فتاة كأنها فلقة البدر تسألنا طلبنا، ويجيبها رفيقي بلغة لا أدري ألاتينية هي أم هي لغة الصين، فتنحني قليلاً وتنصرف. فأقول له: ما هذه الفتاة؟ وبأي اللغات تكلمها؟
- إنك قد قطعت عليّ حديثي الأول، ولكني مخبرك عن سؤالك. ليس من كلمت بفتاة ولكنه شاب.
- شاب؟ شاب؟! وما هذا الشعر الطويل؟ وما هذه الثياب القصيرة؟ وما هذه الأصبغة؟ وما هذا الكحل في العينين؟
- نعم يا سيدي، إنه شاب، وهكذا كل الشبان اليوم، لا يعرفون إلا التجمل والرقة، أما الأعمال الكبرى والمشروعات العظيمة فكلها بيد المرأة!
- ماذا تقول؟ أبُدِّلَت الأرضُ غيرَ الأرض؟ أم قامت الساعة؟ أم طلعت الشمس من مغربها؟ أم ماذا؟
- إن شيئاً من ذلك لم يكن، ولكن هذه «الموضة» التي بدأت في زمانكم بحلق شاربَي الرجل وشعر المرأة، وحضورها
في الكليات وعقدها المجامع، واشتغاله بالزينة وعكوفه عليها، قد جرّنا إلى ما ترى، وما خفي عنك أعظم. وأما هذه اللغة فما هي إلا خليط من اللغة العامية واللغات الأجنبية، وأما الفصحى فلم يعد يعرفها إلا المنقطعون لدراستها، وقليل ما هم! ودعني أتمّ لك حديثي الأول: إن هذه النهضة الاقتصادية التي بدأت في زمنك، والتي سارت سيراً حسناً حينما أقبل الطلاب على مساعدتها، لم تلبث أن ركد ريحها وتقاربت خطاها لانقطاع الناس عن مساعدتها ومثابرتهم على شراء البضائع الأجنبية، فضعفت، ثم اضمحلّت فلم يبقَ لها أثر. وخلا الجو لقُبَّرة أوربا، ولكن لا صائد لها!
وهنا جاءت (أو جاء) الكارسون بقدحين من الخمر، فقلت: خمر؟ أأنا أشرب الخمر؟!
- مهلاً يا أخي، فما في المدينة شراب سواه، وإن هذه الحانات التي كانت في زقاق رامي (الذي يُرى اليوم في مخططات دمشق الأثرية) وإهمال الحكومة أمر إغلاقها وتحريم تعاطي ما فيها قد سبّبَ لنا هذا البلاء العام والشر المستطير.
- ولكني لا أشربه.
- ولماذا؟
- عجيب! أليس بحرام؟
- حرام؟ هاهاها! ما بقي من يقول حرام وحلال.
- ماذا؟ وهل ذهب الدين؟
- أليس لك بذهابه علم؟ هاك المسجد الأموي، لا يدخل إليه إلا المتفرجون، لا المصلون. ولا تعجب من هذا، فإنك تعرف أن شبان زمانك كانوا يتهاونون بأمور الدين ويتغافلون عنها، وسار أولادهم في طريقهم، فنشأ هذا النشء الذي لا يعرف من الدين إلا الاسم.
* * *
وطلب إليّ صديقي أن أقوم معه لندور في المدينة، فامتطينا سيارة، فرأيت ميداناً عظيماً فيه تمثال، فقلت له: تمثال من هذا؟
- ليس تمثالاً لبشر، ولكنه تمثال الحرية.
- وما تمثال الحرية؟
- هو
…
وهنا صدمتنا سيارة أخرى، فصحت: وارأساه!
ففُتح عليّ الباب، وأفقت فإذا أنا في الفراش. وإذا هي دمشق لا باريس، وسنة 1929 لا سنة 2019، لا بنايات ولا تماثيل، ولا تهتك ولا إلحاد، وإذا كل ما رأيت رؤيا منام وأضغاث أحلام!
* * *
رسائل في سبيل الإصلاح (4)
الحركة الفكرية في الشام
نشرت في مطلع عام 1930
(غرة شعبان 1348)
نحن والماضي
إن التاريخ -ولا سيما التاريخ المحزن- سبب أكيد من أسباب تكوين الأمة، ونحن لنا رؤية واحدة ونظرة عامة تتجلى بأجلى مظاهرها عندما تتجه نحو الماضي وتتغلغل في أعماق التاريخ، حتى إنه ليصحّ قولنا: إنّ نظرنا إلى الماضي واحدٌ مهما اختلفت بيئاتنا وثقافاتنا. كيف لا؟ ومَن منا لا يفخر بوقعة القادسية وفتح الشام؟ ومن لا يحزن لمعركة بلاط الشهداء وسقوط الأندلس؟
إن الآلام تجمع، والذكريات المحزنة وسيلة عظمى من وسائل الاتحاد.
ولكن اتجاهنا إلى الماضي قد شغَلَنا عن كل ما عداه حتى ما نكاد نلتفت إلى المستقبل، وحتى صَحَّتْ فينا كلمة صاحب كتاب «حضارات تونس» الفرنسي: العرب ينظرون دوماً إلى الوراء
فيقولون «كنا» و «كانت دولتنا» و «هذا تاريخنا» ولا يصنعون شيئاً، وأما اليهود فلا ينظرون إلا إلى الأمام فيقولون «يجب أن نكون» ويسعون ليكونوا كما يريدون. وما حالتنا إلا كما قال من قال:
ألهَى بَني تَغْلبٍ عن كل مَكْرُمَة
…
قصيدةٌ قالها عمرو بنُ كلثومِ
إن تاريخنا -مهما كان زاهراً باهراً- لا يغني عنا من الآتي شيئاً، وإن الفخر بالرِّمَم البالية والأيام الخالية لا يردّ عزاً ولا يرجع مجداً، فحسبنا نظراً إلى الماضي، ولننظر إلى المستقبل، إلى الأمام.
يا قوم: ماذا يردّ عليكم عزَّ أوّلكم
…
إنْ ضاع آخِرُه، أو ذَلَّ واتّضَعا؟
نحن والمستقبل
ما هو المثل الأعلى العام لمستقبل سوريا في نفوس أبنائها؟ إنك لا تجد جواباً على هذا السؤال إلا قولك: ليس لسوريا مثل أعلى عام تلتقي فيه آمال أبنائها. وأعني بالمثل الأعلى الأدبي والاجتماعي، لا السياسي الذي نكاد نكون متفقين فيه.
إن منا من يرى المثل الأعلى التحاقنا بأوربا واصطناعنا عاداتها وأخذنا بعوائدها، حتى نكون منها ونتبرأ من شرقيتنا وديننا ولغتنا، وهؤلاء هم المجددون المتطرفون. ومنا من يرى المثل الأعلى العودة إلى ما كنا عليه قبل عشرات السنين، ومحاربة كل غربي ولو كان علماً صحيحاً أو رُقيّاً نافعاً، وينتظر «المهدي»
ليساعده على ذلك! وهؤلاء هم المحافظون المتطرفون.
وإذن فإذا أردنا أن يكون لنا مثل أعلى عام فلنقضِ على هذين الرأيين على السواء، ولنجنح لرأي المعتدلين الذين لا يزهدون بكل غربي لأنه غربي ولا يتمسكون بكل شرقي لأنه شرقي، بل يأخذون النافع شرقياً كان أو غربياً، وهذا هو الحزب الضعيف اليوم. إنه لا غُنْية لنا عن أوربا نأخذ الحسن من عاداتها والصحيح من علومها، ولا بقاء لنا بالانصراف عن ديننا الصحيح ولغتنا الشريفة، لأن هذه حياتنا، فإن ذهبت ذهبت حياتنا.
والمثل الأعلى للمستقبل هو التوفيق بين هذين الرأيين المتطرفين وإيجاد الرأي المعتدل من بينهما، ولكن دون هذا خَرْط القَتاد (1)، بل ما هو أشد من ذلك: سخط الجمهور من المتطرفين ومعارضتهم. هذا هو الأساس في الإصلاح المنشود، ولكن هذا ما لا يؤمن به إلا نفر قليل وسائر الناس منكر له.
وإن لهذا الاضطراب أسباباً نرى أن من أهمها ما يأتي:
(1)
نقص أدوات الثقافة
الثقافة شيء غير الحضارة ومستقلة عنها تماماً، وإن كان الكثير من الناس عندنا لا يفرقون بينهما، فيحسبون كل متحضر
(1) تعبير يتداوله الناس ويفهمون معناه، لكن قَلَّ مَن يعرف: هذا القتاد ما هو؟ وهو نبات شَوْكي صُلب أشواكه مثل الإبَر، يستخرجون منه نوعاً جيداً من الصمغ فلا ينالونه إلا بجهد ومشقة، فضربوا به المثل لكل أمر شاق يصعب الوصول إليه (مجاهد).
في عاداته ولباسه وطرق معيشته مثقفاً، وكل مثقف مطّلع على نتائج العقول وآخذ من العلم بأوفر نصيب متحضراً.
الثقافة هي الحجر الأول من بناء الحركة الفكرية والخطوة الأولى في طريق تطورها، ونقص أدواتها ووسائلها في قوم إنما هو ضعفها، فإذا أردنا أن نبحث عن السبب الأول لاضطراب الحركة الفكرية في سوريا فإنا لا نجده إلا في نقص التثقيف. ووسائل التثقيف هي المدارس والصحف، فأما مدارسنا فهي ناقصة، أو هي -بعبارات أخرى- لا تُعنى إلا بالثقافة العملية، وأما الثقافة الأدبية (الفكرية) فهي خلو منها. وأما صحفنا فإنها لا تعنى إلا بالسياسة والأخبار. وإن المثقفين من رجالنا لا يعدو واحدهم أن يكون طبيباً أو محامياً أو مدرّساً أو صحفياً، على أنّ واحداً من هؤلاء لا يستطيع أن ينصرف إلى الأدب فينشئ منه أدباً سورياً يعين سوريا على نهضتها وتقدمها.
(2)
فساد التربية
التربية السورية لا تنجب رجالاً، لأنها تربية فاسدة مَبنيّة على القهر والقوة وملقاة على عواتق الجهلاء من الآباء والأمهات، وهي -فوق هذا- تربية اتّكالية، المثل الأعلى للابن فيها أن يكون آلة يصرّفها الأب حسب ميوله وأهوائه! وكثيراً ما رأينا أبناء ضاعت مواهبهم السامية لأن آباءهم صرفوهم عن إتمام التحصيل وعن متابعة الفن الذي يميلون إليه وفيهم الاستعداد الفطري له. هذا في التربية القديمة، وأما التربية الحديثة فهي على العكس، وهي ليست أقل شراً من هذه لأنها تجعل الابن حاكماً على أبيه وأرفع منه منزلة.
على أن الحقيقة التي يجب أن نقولها أن هذه التربية لا يصحّ أن تسمى تربية إلا مجازاً، لأنها على الحقيقة إهمال من الآباء واستسلام للظروف وخضوع للأقدار، دونَما غاية معينة وطريقة مختارة.
والتربية عندنا تختلف باختلاف الأسر وطبقتها في الهيئة الاجتماعية، فتكون تارة بيد الأب وأخرى بيد الأم، وهي في كل أحوالها بيد جاهلين! ولقد خبرت التعليم قليلاً فعرفت كم يقاسي المدرّسون من عَناء في إصلاح تربية التلاميذ، ثم لا يصلون إلى نتيجة لأن التربية المنزلية متمكنة منهم. وكيف يُقلع التلميذ عن السباب والملاعنة وهو يرى والديه كل ليلة يتلاعنان ويتشاتمان؟ وكيف يَصْدق وليس في داره صادق؟ وكيف يتعلم الاتحاد وهو يبصر أباه وأمه وعمّته وجدّته يشكلون في الدار أحزاباً سياسية يكيد بعضها لبعض وينصب بعضها لبعض شَرَك الخديعة؟
وإذن فلا بد من إصلاح التربية. وإصلاحها لا يكون إلا باصطناع طرق التربية الحديثة بعد تحويرها بحيث توافق محيطنا وديننا، ودينُنا وحدَه كفيل بذلك، إذ هو دين الحضارة ودين العقل ودين الاجتماع. ويا حبّذا لو استُخلصت آراء الدين في التربية فنُشرت بأسلوب عصري فعمَّتْ فائدتها الناس كلهم، وأنى لنا بهذا؟
(3)
اختلاف العادات
إن أكثر ما يدهش الغريب -إذا حضر اجتماعاً عاماً عندنا- ذلك الاختلاف في الأزياء والألبسة الذي يجعل الشام كأنها حقاً
في يوم المحشر! فمِن متعمّم بجبة طويلة ذات أكمام عريضة، ومن مُطربَش بلباس أوربي ضيق يكاد يُظهر منه ما أخفى، ومن «زكرتي» يلبس شروالاً ضخماً، ومن شيوخ «على الموضة» يلبسون البدلة الإفرنجية وربطة العنق والعمامة! ومن ومن
…
وليس هذا الاختلاف في الألبسة فقط، بل في فرش البيت وطرق المعيشة. زرت أمس جدتي، فلم تدعني حتى خلعتُ نعلي وجلست على طرّاحتها، فتقطعت هذه السراويل الضيقة التي ألبسها، وخرجت إلى الشارع بأقبح هيئة أكيل اللعنات جزافاً لمن لبس هذه البدلة لأول مرة في الشام! في حين أنني أزور ابن عمي فلا يكلفني شيئاً من هذا العناء، بل يسمح لي أن أدوس بحذائي الذي أسير فيه في الشارع على بساط غرفته، ثم يجلسني على كرسي أو أريكة.
وتُدعى إلى وليمة فتجلس إلى نَضَد ويقدَّم لك صحن خاص وشوكة وملعقة وسكين وبشكير، في حين أن وليمة أخرى توضع الأطعمة فيها على خوان ويأكل القوم كلهم من إناء واحد. أي الشكلين أحسن؟ أنا لا أدري، ولكني لا أحب الاختلاف. وليس هذا الاختلاف بين حارة وحارة وحي وحي، هذا لهؤلاء وذاك لأولئك، بل بين غرفة وغرفة من منزل واحد، هذه إفرنجية وهذه شرقية عربية!
أنا لا أقول للناس البسوا كلكم بدلات أو افرشوا دوركم بالكنبات، لا، ولكني أريد أن أقول إن هذا الاختلاف في العادات يجرّ إلى الاختلاف في طرق التفكير والاضطراب في الثقافة
العامة، لأن الزكرتي والأفندي يختلفان تماماً في طريق تفكيرهما ونتائجه، وإن كانت ثقافتاهما واحدة، وإن هذه نقطة تستحق من عناية الكتّاب والمفكرين الكثير.
خاتمة
إن للدين الأثر الأعظم في سير الحركة الفكرية، وإنني إذا أنحيت باللائمة على العلماء مرة لجمودهم، فإنني ألوم الشبّان ألفاً لإهمالهم أمر الدين واستحيائهم من تنفيذ شعائره والقيام بواجباته! وأقول لهم بصوت عال وجرأة عظيمة، وإن غضبوا وسخطوا: إن من لا يفي لربه بخمس صلوات في اليوم لا يفي لأمته بالتضحية في سبيلها.
فإلى ربط الماضي المجيد بالآتي السعيد، وإلى العمل متّحدين، وإلى التمسك بأهداب الدين أدعو رجالَ الأمة العالمين العاملين والمجاهدين المخلصين، والسلام عليهم أجمعين.
* * *