المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أم الذكريات نشرت سنة 1930 (1)   في مثل هذا اليوم، منذ ثلاثة - البواكير

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌كلمات

- ‌خواطر غريب

- ‌طلاب دمشق

- ‌في ذكرى مولد فخر الكائنات

- ‌ألا ليشهد العالم كله

- ‌قطعةٌ من حديث (1)

- ‌قطعةٌ من حديث (2)

- ‌قطعةٌ من حديث (3)

- ‌أنا ونفسي

- ‌على قارعة الطريق

- ‌خطرات وكلماتالشهرة

- ‌أم الذكريات

- ‌استفتاء لغوي

- ‌على أطلال الخضراء

- ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (1)

- ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (2)

- ‌سيف الإسلام في أعناق أعدائه (3)

- ‌رسائل سيف الإسلامالرسالة العاشرة

- ‌لماذا أنا مسلم

- ‌جمعية «الهداية الإسلامية» في دمشق

- ‌مقدمة كتاب «البعث»

- ‌أرجال…أم نساء

- ‌محاسن الإسلامالصلاة

- ‌الفاجعة

- ‌ما وراء الأكمة

- ‌في سبيل المقاطعة

- ‌افتتاحية مجلة «البعث»

- ‌على إثر الخسوف:احتجاجاتنا كطبولنا

- ‌من رسائل العطلة

- ‌ذكرى يوم الاستقلال

- ‌لا قوة إلا قوة الحقولا مجد إلا مجد التضحية

- ‌يا أمة الحرية

- ‌أندية الطلاب في العالم

- ‌أليس فيكم رجل رشيد

- ‌دع السياسة

- ‌مقدمة مجلة

- ‌معلم القرية

- ‌صفات الزعيم الحقيقي

- ‌على أنقاض آماليأنشودة الظلام

- ‌تحرير الرجل من ظلم المرأة

- ‌نريد خصومة موضوعية لا شخصية

- ‌إلى المبشرين

- ‌من هو السنوسي

- ‌خذوا الصواب من قلب الخطأ

- ‌نَحْطِمُهم كما يَحْطِم النسرُأمةً من الذباب

- ‌الشَّرَف

- ‌الأدب القومي

- ‌الأدب القومي أيضاً

- ‌بالأسلوب التلغرافيتَرَقّي الموظف

- ‌بالأسلوب التلغرافينحن وفلسطين

- ‌التربية الوطنية والدينية

- ‌نصائح لمن كان يتعلم الوطنية

- ‌عند الحلاق

- ‌الأستاذ شفيق جبري والوظيفة

- ‌إن في هذا لعبرة

- ‌قصة رمزيةورقة الخمسين

- ‌أبناؤنا وتاريخنا

- ‌الراتب، أم الواجب

- ‌رسالة الطالب

الفصل: ‌ ‌أم الذكريات نشرت سنة 1930 (1)   في مثل هذا اليوم، منذ ثلاثة

‌أم الذكريات

نشرت سنة 1930 (1)

في مثل هذا اليوم، منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن دارت مع الفلك وغاصت في أعماق الأبدية، وفي هذا المكان المقفر الذي يقف فيه اليوم مئات الألوف من الناس عراةً مكشوفي الرؤوس: في عَرَفة، في حجّة الوداع، وقف «سيد قريش» محمد صلى الله عليه وسلم للمرة الأخيرة، ليودّع تلك البقاع التي أودعها سر طفولته ومطلع نجمه، وهذه الأمة الذي ضحى لأجلها بنفسه ووقف لسعادتها حياتَه، وقف ليقرر قاعدة الإخاء الكامل والمساواة التامة والسلام العام، فقرر وأوضح وكان له ما أراد.

إن الصوت الذي يصيح: «لبَّيكَ اللهمّ لبيك» ، فتهتز من صياحه بطحاء مكة ويرنّ صداه في جوانب العالم، لَدليلٌ قاطع على تلك المساواة وذلك الإخاء. وإن هذا الجمع الهائل الذي يرتدي غنيُّه وفقيرُه، رفيعُه ووَضيعُه، ثوباً واحداً، وينادي بصوت واحد ويقف في مكان واحد، لَحجّةٌ بالغة على تلك الإنسانية وذلك العدل. وإن هذه التحية التي يتبادلها الناس مُنصرَفَهم من

(1) في «فتى العرب» بتاريخ 7/ 5/1930 (8 ذي الحجة 1348)، وهي منشورة في كتاب «الهيثميات» .

ص: 55

الموقف ويتبادلها المسلمون في كل مكان وفي كل آن، لَبرهانٌ ساطع على تلك الطمأنينة وذلك السلام.

لقد ضحَّتْ أوربا من أبنائها ما ضحَّت في سبيل هذه الأسس الثلاثة: الديمقراطية والمساواة والسلام، ثم لم تصل إليها، وقررها سيد قريش ونَعِمَ بها المسلمون منذ حجة الوداع، منذ ألف وثلاثمئة سنة. فلنقدّس ذلك الصوت وتلك الدعوة، ولنعظّم هذا النبي الجليل، سيد العالم صلى الله عليه وسلم.

* * *

إن الأمم تحتفظ بذكريات يتوارثها الناس، ذكريات تتكاثف في بقعة من البقاع وحادثة من الحوادث، فالقادسية عبقرية سعد، واليرموك خلود خالد، وأوسترلتز عظمة نابليون، وواترلو مجد ولنغْتُن

ولكن «عَرَفة» هي عظمة البشرية وانتصار الأخوّة والعدل المساواة، ولكن عرفة هي «أمّ الذكريات» وموطن العروبة والإسلام.

لبثت عَرَفة ردحاً من الزمن تشهد حجيج عرب الجزيرة في جاهليتها، على اختلاف مذاهبها ونِحَلها وتباين أديانها ومعبوداتها، يجتمعون في صعيد واحد فيلقى الرجل قاتلَ أبيه ومن يبذل حياته ليلقاه فيُعرض عنه ولا يمسّه بسوء، لأنه الحج ولأنها بقعة مقدَّسة، ولأنه عربي ولأن الوفاء يجري منه موضع الدم.

ثم سطع في بطحائها ذلك النور، ورَنَّ في جوانبها ذلك الصوت الذي بدأ ضعيفاً خافتاً ثم ما زال يقوى ويشتد حتى صار كأنه الرعد، وحتى ارتجَّتْ منه أقطار الأرض وهوت لهوله أعلى

ص: 56

العروش وخرَّتْ لعظمته أعظم التيجان، ثم ظهر سيد قريش، فلم يلبث أن انتشر دينه وعمَّت دعوته، وأصبح سيد العالم، وأصبحت «عرفة» تشهد مئات الألوف يأتونها مكشوفي الرؤوس لا يحملون معهم دنياهم ولا يلوون على شيء وراءهم، ولا يميّز بينهم فقرٌ أو غِنىً ولا يفرّق أفرادَهم جاهٌ أو منصب، يأتونها وقد تجردوا من كل شيء، يأتون إلى الله فيقفون بين يديه في حِجْر الطبيعة الواسع فينادون: لبّيك اللهم لبيك! فلا يبقى في العالم صخرة ولا شَعْفَة، ولا حجر ولا مَدَر، ولا نبت ولا شجر، إلا ويردد: لبيك اللهم لبيك!

* * *

هنالك تخشع القلوب وتموت المطامع وتخنس الشياطين، ولا يبقى إلا الفضيلة ترفرف على رؤوس الناس فيتصلون بالعالم الآخر، عالم العواطف والأفكار، عالم السماء.

أي رجل يرى هذا المنظر ويشهد هذا المشهد ثم لا تهزّه روح الاجتماع، روح الاتحاد والتديّن، فيضحي في سبيل المجموع بكل شيء؟ أي رجل قاسي القلب ميت العاطفة، يستطيع أن يقف بقلبه ساكناً لا يحركه هذا التيار الذي يجري في القلوب، فيوحد غاياتها ويجمع آمالها ويسوقها في طريق واحدة إلى هدف واحد؟

أي مؤتمر؟ أي جمعية أمم؟ أي محكمة دولية تملك من قلوب الناس وأفئدتهم، وتعمل على تعميم السلام بينهم ونزع الأحقاد من أكبادهم، كما تملك وتعمل عرفة بموقفها المتواضع الساذج؟ اللهمّ إنها حكمة سامية، وسبب عظيم من أسباب قوتنا

ص: 57

وعزّنا لو عرفنا كيف ننتفع منه ونفهم غايته.

مَن من المسلمين يرى الكعبة ويشهد الصفا والمروة وينظر إلى أبي قُبَيْس، فلا يذكر محمداً وأصحابه ولا يذكر سُراة قريش ووجهاءها، وتتجسم هذه الذكرى في نفسه حتى لكأنه يراهم جالسين حِلَقاً حول الكعبة يتحدثون، أو قائمين في مقام إبراهيم يصلّون، أو خارجين من الحرم يتناشدون الأشعار ويتفاخرون؟

* * *

إذا كان لنا في مَطاوي الغد يومُ سعادة أو عهدُ رخاء فإنما مبعثه «عرفة» .

عرفة التي بدأ منها تاريخنا ووُلد فيها عزنا، وانتصرت فيها الإنسانية وانفجرت منها ينابيع الحضارة التي نشرها في العالم أهلها المسلمون، ستعود فيكون لها في الغد ما كان لها في الأمس، وستعود فنبني عليها صرح مستقبلنا العظيم الزاهر بإذن الله. في عرفة وموقفها الجليل سر نجاحنا وخَبيئة مستقبلنا، فلنكشف عنها بحكمة، ولنستفد من هذا الموقف بإخلاص واجتهاد.

إن الله يدعوكم إلى العمل في الحياة، ويدعوكم إلى الاتحاد والإخاء، فأجيبوا بأفعالكم كما تجيبون بألسنتكم: لبَّيكَ اللهم لبَّيكَ.

* * *

ص: 58