الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من رسائل العطلة
نشرت سنة 1931 (1)
إلى صديقي «م» :
سأحدثك في هذه الرسالة جَمّ الأحاديث، ولكني لا أرتبها وأنمقها وأهيئ الأفكار التي سأفضي بها إليك، بل أسوق لك كل ما يخطر على بالي بأسلوب واضح بيّن، لا أبدل فيه كلمة بكلمة ما دامت الأولى وافية بالغرض دالّة على المعنى، وما أريد أن أبعث إليك بمباحث أدبية وعبارات شعرية، ولكن برسائل.
لا أدري من أين أبدأ أحاديثي الكثيرة التي تجيش بها نفسي، ويحق لي أن لا أدري، لأنني أصبحت أشعر في هذه الأيام بضيق في صدري عظيم، وتعب في جسمي مُضْنٍ، ولعل سبب ذلك اضطراب أفكاري وقلة العمل إبّان العطلة الصيفية. وأنت تعلم ما يداخل الشاب من وساوس وآلام إذا كان خالياً من عمل يملأ وقته ويستنفد جهده، وتعلم ما هي أضرار البطالة وأثرها في نفس صاحبها. وما أدري كيف يحسبها أناسٌ غايةَ السعادة، وما هي إلا غاية الشقاء
…
لو كان للشقاء غاية!
(1) في العدد الرابع من مجلة «البعث» التي أصدرها علي الطنطاوي، وقد صدر في منتصف جمادى الثانية 1350 (28/ 10/1931).
لماذا نشقى في الحياة؟ وما هي سبيل السعادة؟ فكرت في هذا طويلاً، ثم علمت أن سبيل السعادة أن لا نذكر ولا نتأمل، فالذكرى والأمل باب الشقاء، وما كان دانتي مخطئاً حين قال:«إن ذكرى اللذات الماضية تؤلمنا» . ولكن هل نقدر على ذلك؟ هل أستطيع أن أقف بنفسي عند الحاضر وحده؟ هل أقدر أن أتجرد من الماضي وهو كامن فِيّ؟ هل أطيق أن أغمض عيني عن التفكير في المستقبل وبذورُه مخبوءة في طيّات الحاضر؟ هل نتمكن من اتّباع الشاعر الذي يقول:
ما مضى فات والمؤمَّل غَيْب
…
ولك الساعةُ التي أنت فيها
لا، وما النفس البشرية إلا سيّال دائم الحركة، ومَن حاول أن يقف بفكره عند حد واحد فقد حاول أن يصبح بلا فكر. الحياة أخت الشقاء، تلك سنّة الله.
ولكن إذا كانت الذكرى سبب الألم فإن الأمل يُزيل هذا الألم، ولو رأيتَني -يا صديقي- وأنا أفكر ساعةَ أضطجع في فراشي في المستقبل، وأبني لنفسي -كما يقول المثل الفرنسي- قصوراً في إسبانيا! ولكني أبنيها على أساس متهافت، على الشهادة
…
ومتى كانت الشهادة سبب السعادة؟ إني لأذكر آمالنا التي بنيناها على تحصيل البكالوريا يوم كنا نُحيي الليالي الطِّوال من أجلها، وكيف انهارت هذه الآمال كلها ساعةَ أخذناها فما وجدنا إلا ورقة لا تضر ولا تنفع، ولا تدل إلا على أن حاملها جاهل مركَّب أو عالم مغرور!
* * *
لقد أُنسيتُ يا صديقي أن أسألك: كيف أنت؟ وهل أنت مطمئن إلى حياتك ساكن إليها، أم أنت متبرِّم بالعيش ضَيِّق الصدر؟ وهل أنت في مَصِيفك -بين الجبال والأنهار والسهول والمروج- أسعد حالاً مني وأنا غارق في لُجّة المدينة؟ وهل الطبيعة -كما يقولون- سر السعادة وبابها؟ أما أنا فأحسب ذلك خيالاً، وأعتقد أن الإنسان لا ينظر إلى الطبيعة إلا بعين بصيرته. فالرجل المتألم الضَّجِر يرى الطبيعة باكية كابية، والسعيد الطَّرِب يراها باسمة بهيّة، وما تغيرت الطبيعة ولكن نحن تغيرنا! (1)
وإني لأجد مناسبة لأقول لك: ما أشدَّ بلاهَةَ الكتّاب والمعلمين الذين يحسبون الوصف تصويراً، ويريدون ممّن يصف رَوْضة أن يضع لها مخططاً ويكتب لها وصفاً ثابتاً، في حين أن المخطط يدل على الروضة كما هي في ذاتها، والوصف يدل على الروضة كما هي في نفس الواصف
…
وشتّان بين من يرى الشيء على الأرض وبين من يراه في مرآة نفسه! ولو كان
(1) في كتاب «صور وخواطر» مقالة عنوانها «السعادة» ، بدأها بقصة الفيلسوف الألماني الشهير «كانْت» مع ديك كان يزعجه بكثرة صياحه، فأمر خادمه بشرائه وذبحه
…
إلى آخر القصة، وبعدها قال:"فكّرت في هذا الفيلسوف العظيم، فرأيته قد شقي بهذا الديك لأنه كان يصيح وسَعِدَ به وهو لا يزال يصيح، ما تبدّل الواقع، ما تبدّل إلا نفسه؛ فنفسه هي التي أشقته لا الديك، ونفسه هي التي أسعدته. وقلت: ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا؟ وما دامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنا، إذ نمشي إليها من غير طريقها ونَلِجُها من غير بابها؟ ". وهي مقالة لطيفة نافعة فاقرؤوها (مجاهد).
القمر كما وصفه ابن المعتز والمنفلوطي في مناجاته لما كان للقمر هذه الصورة الحسناء في نفوسنا. وماذا يعنيني من القمر إذا كان كالعروس وهذه الأَنْجُمُ أَترابُها، أو كالملك وهي خُدّامه؟ وماذا يعنيني إذا كان زورقاً من فضة قد أثقلته حمولة من عنبر أو كان غير ذلك؟ إن كل ما يعنيني من القمر -حين أصفه- هو ماضيَّ الذي يثيره في نفسي، ذكرياتي التي أحسّ بها عند رؤيته، آمالي التي يُهيجها في صدري منظره
…
وما سوى ذلك فسخف في سخف! فكيف نمدح الكاتب بعد هذا فنقول: هو مصوِّر؟!
* * *
لقد صار موعد مطالعتي، فاسمح لي أن أقطع هذه الرسالة التي ما أدري: أتحمل إليك شيئاً جديداً أم لا تحمل إلا تصديع رأسك بتلاوتها؟ وإلى الغد.
* * *