الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة الطالب
نشرت سنة 1935 (1)
لما كنت في مكة في العام الماضي زرت المعهد السعودي (وهو في الحجاز بمثابة المدرسة التجهيزية في الشام)، وكان معي مدير المعارف الحجازية، فدار بي على الصفوف وأراني الدروس، فسمعت المحاضرات وسألت الطلاب، فما وجدت إلا علماً صحيحاً وأذهاناً جديدة، ورجولة كاملة وعروبة صادقة. ولقد سألت -فيمن سألت من الطلاب- فتى أدهشني بسرعة جوابه واستقامة منطقه وكثرة أدبه، فسألت مَن هو لأعرف عن أيّ دَوْحة تفرّع هذا الغصن، فإذا هو ابن الأمير فيصل، نائب الملك عبد العزيز في الحجاز. وإذا في المدرسة كثير من أبناء الملك وأحفاده، لا يفرّقهم عن أصغر ولد من أبناء العامة فارق ولا تميّزهم منهم ميّزة، فسررت مما رأيت، وخطبت المدرّسين والطلاب خطبة شكرت فيها وأثنيت، وذكّرت وأنذرت، وقايَسْت وبيّنت، ثم صافحت أقرب معلم إليّ عن إخواني المعلمين في الشام وأدنى تلميذ مني عن إخوتي الطلاب في دمشق، وانصرفت.
فلما كان بعد أيام أقبل علينا ونحن في فندق مكة الرسمي
(1) في مجلة «رسالة الطالب» .
-حيث أنزلنا الملك ضيوفاً عليه- أقبل علينا وفدٌ من الطلاب النابهين، جاؤوا يحملون إليّ تحيّات إخوانهم وسلامهم. فاستقبلتهم في بهو الفندق الفخم وحدثتهم وحدثوني، فإذا أنا بين فِتية يعرفون أدباء سوريا وعلماءها، ويَتْلون عليّ من شعر خير الدين ومَرْدَم والبِزِم وجبري (1)، ويحدثونني عن كُرْد علي ومصنفاته (2)، ومعروف ورواياته (3)، ويقرؤون عليّ من شعر العطار والزركلي والمحاسني (4). وإذا هم أَعرَف بما كتبت وألّفت مني أنا! فامتلأت نفسي سروراً بهم وإكباراً لهم، لحرصهم على الأدب واهتمامهم بأهله، وعطفهم على أدبنا وعنايتهم بأدبائنا. ثم أهدوا إليّ طائفة صالحة من الكتب التي أخرجها أدباء الحجاز الشباب، ثم تكرّموا فدعوني إلى حفلة تكريمية تقام مساء الغد، فحاولت أن أشكر لهم فضلهم عليّ واجتهدت في أن أتخلص من
(1) خير الدين الزِّرِكْلي، وخليل مَرْدَم بك، ومحمد البزم، وشفيق جبري؛ شعراء الشام الأربعة الكبار يومئذ. انظر الذكريات 1/ 165 - 166 (مجاهد).
(2)
محمد كرد علي، له في «الذكريات» أخبار كثيرة، سمّاه مرة «أستاذ أساتذتنا» ووصفه في مرة أخرى بأنه «أستاذنا وأستاذ كل من خطّ في الشام بقلم في مطلع هذا القرن الميلادي» ، انظر جملة من أخباره في أول الحلقة 37 من الذكريات (مجاهد).
(3)
معروف الأرناؤوط، أشهر رواياته «سيد قريش» ، وانظر أخباره في الحلقة 35 من «الذكريات» (مجاهد).
(4)
أنور العطار وسليم الزركلي وزكي المحاسني، شعراء من رفاق علي الطنطاوي في «مكتب عنبر» ، ولهم أخبار متفرقة في «الذكريات» (مجاهد).
الحفلة، فلم أوفَّق إلى الشكر ولم أفلح في الاعتذار، وودعتهم وأنا بين حيرة وخجل وسرور وإشفاق!
فلما كان الغد وجدنا حديقة الفندق الواسعة تزخر بالناس وتتوقد بالأنوار الكهربائية، وإذا فيها «مائدة شاهي» طولها عشرون ذراعاً
…
فلما استقر بنا المجلس قام الخطباء واحداً بعد واحد، فما تركوا شيئاً يُقال عن الوفد السوري وعن سوريا والعروبة إلا قالوه، ثم طلبوا إليّ أن أتكلم، فقمت مرغماً وهم يصفقون بأيديهم، وأنا أصفق بقلبي من الهيبة والسرور. حتى إذا علوتُ المنبر الذي أعدّوه للخطابة ذكرت أن خطيباً من خطبائهم سمّانا «أبناء الأعمام» ، وآخر سألني عن مجد أمية، وثالثاً اعتزّ بالصحراء، ورابعاً أسِفَ على أنّا لا تظللنا رايةٌ حرة، فقلت:
يا أشبال الحرم ويا فتية الكعبة، ويا أبطال زمزم والحَطيم (1)، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لقد أكرمتمونا وتفضلتم علينا، وأنتم أكرم الناس وأنتم جيران الله وسَدَنة بيته وسكان حرمه، فلا عجب أن خرج الذهب من معدنه وظهر الدرّ في موطنه، فعليكم سلام الله، وسلام العروبة، وسلام الإسلام.
إنما قمتُ -أيها الطلاب الحجازيون- لأحمل إليكم «رسالة
(1) الحطيم هو حِجْر إسماعيل، أو هو ما بين الركن الأسود والباب، وهذا الذي اختاره حَمَد الجاسر في كتابه «معالم الجزيرة» ، قال:"سُمّي كذلك لأن الناس يحطم بعضهم بعضاً فيه وهم يزدحمون للدعاء". وقال ياقوت: "هو ما بين الركن الأسود والباب إلى مقام إبراهيم، ويقال للحِجْر الحطيم أيضاً"(مجاهد).
الطلاب» الشاميين وحبهم وإخلاصهم، ولتعلموا أن على ضفاف بردى وسفوح قاسيون وفي جنّات الغوطة إخواناً لكم لا تعرفونهم ولا يعرفونكم، ولكنّما تجمعكم بهم وحدة الدين ووحدة اللغة، ووحدة الذكريات ووحدة الأماني، يجمعكم القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهذه القبلة، فاقبلوا تحياتهم وحبهم.
إن إخوانكم في الشام ثابتون على المبدأ، مقيمون على العهد، يحملون رسالة الماضي الفخم إلى المستقبل المأمول، لا يثنيهم عن إيفائها ظلام الحاضر وشدة الدهر وكثرة المصائب ورقّة الحال، ولا يثنيهم عن إيفائها جبّار من الإنس ولا عفريت من الجانّ. إنهم إخوانكم شئتم أم أبيتم، ليسوا أبناء أعمامكم
…
إنما أبناء العم أولئكم اليهود، الذين خانوا القرابة وبتروا الصلة وجاهروا بالعداوة والبغضاء، فجزيناهم بالعداء عداء وبالاعتداء اعتداء، حتى يأتي الله بأمره ويحكم بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين.
أما رسالة الطلاب الشاميين التي أحملها إليكم: فإنهم لا يفرّقون بين بلد وبلد وقطر وقطر، إنما قوميتهم العروبة وجامعتهم الإيمان: المسلم أخو المسلم، والعربي شقيق العربي. إنهم مثلكم أبناء الصحراء، أبناء الرمال، أبناء الشمس
…
هذه الصحراء التي أنبتت حضارة ما رأى مثلَها التاريخُ ولا سمع بمثلها، وهذه الرمال التي خرج من كل حبة فيها جندي، وسيخرج منها جندي ما بقيت في الجزيرة رمال. وهذه الشمس التي طهّرت العربَ من كل رذيلة، وصهرتهم فأخرجت عقولاً من النور، وأجساماً من الحديد، وسيوفاً من الصواعق، وحِراباً من جهنم!
أفتسألون -بعد- عن مجد أمية: أين مجد أمية؟ إن مجد أمية على سواعدنا، إنه في رؤوسنا، إنه أمانة في أعناقنا حتى نؤدّيه كاملاً غيرَ منقوص. إن رسالة الطالب السوري: قوة في الجسم، وسُمُوٌّ في النفس، وإخلاص للعلم، ووفاء للعروبة، وثبات على الإسلام.
* * *
هذه هي القصة التي ذكرتُها حينما سألني الإخوان الكرام أن أكتب كلمة لمجلة «رسالة الطالب» ، فهل استطعت أن أنقل رسالتكم -أيها الطلاب- لإخوانكم الذين لم تعرفوهم؟
* * *
من آثار المؤلف
1 ـ أبو بكر الصديق 1935
2 ـ قصص من التاريخ 1957
3 ـ رجال من التاريخ 1958
4 ـ صور وخواطر 1958
5 ـ قصص من الحياة 1959
6 ـ في سبيل الإصلاح 1959
7 ـ دمشق 1959
8 ـ أخبار عمر 1959
9 ـ مقالات في كلمات 1959
10ـ من نفحات الحرم 1960
11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7) 1960
12ـ هتاف المجد 1960
13ـ من حديث النفس 1960
14ـ الجامع الأموي 1960
15ـ في أندونيسيا 1960
16ـ فصول إسلامية 1960
17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق) 1960
18ـ فِكَر ومباحث 1960
19ـ مع الناس 1960
20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات 1960
21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1ـ 5) 1960
22ـ تعريف عام بدين الإسلام 1970
23ـ فتاوى علي الطنطاوي 1985
24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1ـ 8) 1985ـ 1989
25ـ مقالات في كلمات (الجزء الثاني) 2000
26ـ فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني) 2001
27ـ فصول اجتماعية 2002
28ـ سيّد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم 2002
29ـ نور وهداية 2006
30ـ فصول في الثقافة والأدب 2007
31ـ فصول في الدعوة والإصلاح 2008
32ـ البواكير 2009
* * *