الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استفتاء لغوي
نشرت سنة 1930 (1)
لم أشعر منذ أيام إلا والباب يُقرَع قَرْعَ الشرطة، وصديقي الشاعر العبقري أنور العطار يطلب بلهفة واستعجال أن: هات لسان العرب، هات تاج العروس، هات الأساس
…
قلت: تفضل ادخل المكتبة وقل لي قبلُ: ماذا تريد؟
ولكنه لم يجبني، وأكبَّ على الكتب يطالع فيها ويقلب صفحاتها حتى وجد ضالّته، فألقاها مبتسماً ابتسامةَ الظفر متنفساً الصعداء وقال: ها هي كما قلت! لقد قلت للأستاذ معروف إن لفظة «الحادر» تُستعمَل في الغلام الجميل لا في الروضة الجميلة.
- ولكن الحق يا صديقي مع الأستاذ، ولا يغني عنك شيئاً أن يخصّصها القاموس بالغلام دون الروضة. وعَمَّن روى القاموس؟ إنهم أولئك البدو الرُّحَّل الذين لم يروا روضة ولا شاهدوا جنة! وعلامَ لا تُنقَل اللفظة من معنى خاص إلى عام ما دامت الحاجة تضطرنا إلى ذلك؟ وهل
…
(1) في «فتى العرب» بتاريخ 18/ 5/1930 (20 ذي الحجة 1348).
فقطع عليّ كلامي غاضباً بقوله: أنت إذن متحرر في اللغة تريد أن تتصرف فيها كما تريد وتضرب بدواوينها وعلمائها عرض الحائط؟
قلت: لا يا صديقي، أنا لا أريد أن نقطع صلتنا بها ولا أن نستبدل بها لهجاتنا العامية، بل أريد أن توضَع لتوسيعها وتنميتها قواعد تسير في ذلك عليها. وليس من المعقول أن تخرج هذه اللغة على قانون التجدّد والتغيّر الذي تخضع له الكائنات بأسرها وتبقى واقفةً عند حد واحد لا تغيره. وماذا يكون إذا استُعمل «الحادر» في الرَّوض بدل الغلام؟ نعم، لا أنكر أن عملاً كهذا العمل لا يقوم به إلا مَجْمَع لغوي، ولكن ما حيلتنا في هذا المجمع الذي يُحسَب علينا وليس لنا منه جدوى ولا فائدة؟ وما هو إلا كالطبل العظيم يملأ صوتُه الفضاءَ وهو فارغ!
ولكن صديقي أبى عليّ الموافقة، فاتفقنا على استفتاء اللغويين. وهذه هي صيغة الاستفتاء:
ما قولكم -دام فضلكم- في الخروج على السماع، واتّباع قواعد معينة في استعمال كلمة وُضعت لمعنى خاص في معنى عام، إذا خالف ذلك دواوين اللغة وكان فيه تنميتها وتوسيعها؟ مع العلم بأن الجمود على شيء واحد ممقوتٌ مخالف للطبيعة، وأنه لا بد من التجدد والتطور. أفتونا مأجورين.
* * *
مشاهدات وأحاديث (3)
إلى مجلس المعارف الكبير
نشرت سنة 1930 (1)
قال الراوية الفرنسي ألفونس دوده في قصة عنوانها «الدرس الأخير» : حدَّث صبي من الألزاس فقال: غدوت إلى المدرسة صبيحة يوم من الأيام الأخيرة من العام ولمّا أحفظْ درسي، فخشيت أن يقرّعني أستاذي ويعاقبني، فأخذت طريق الحقول
(1) نشرت المقالة في جريدة «فتى العرب» بتاريخ 20/ 5/1930 (22 ذي الحجة 1348)، وقد أشار إليها في «الذكريات» فقال: "في الأشهر الخمسة التي لازمت فيها «فتى العرب» كنت أكتب كل يوم مقالة، منها سلسلة كان عنوانها «أحاديث ومشاهدات»
…
منها مقالة «إلى مجلس المعارف الكبير» الذي كان يُعقَد أحياناً، نقدتُ فيها وزارة المعارف نقداً صادقاً صريحاً حمَل مستشار المعارف (راجِه) وجبّارها، دنلوب الشام، على زيارة الجريدة نفسها ليقابل كاتب المقالة ويوضّح له ما غمض عليه
…
وقد لَخّصتُ في المقالة قصة ألفونس دوده «الدرس الأخير» الذي يصوّر فيها ضياع الألزاس من فرنسا بعد حرب السبعين (1870)، وجعلتها مدخلاً للكلام". لقراءة تفصيلات الحادثة بتمامها راجع الذكريات: 1/ 377 - 386 من الطبعة الجديدة (مجاهد).
علّني أقطع النهار في اللعب واللهو، ثم بدا لي فعدت عن هذه الفكرة الخبيثة، وذهبت إلى المدرسة قلقَ الفكر مشغولَ البال، فما استلفت نظري إلا إسراع الناس مُصْفَرَّةً ألوانُهم، تبدو عليهم أمارات الخوف والألم، إلى حيث لا أعلم. فتبعتهم حتى وصلوا دار الحاكم، ثم لم أدرِ ماذا كان بعد ذلك لأني أسرعت إلى المدرسة، فذهبت سعياً إلى قاعة الدرس، فوجدت الأستاذ يروح ويغدو فيها قلقاً، وقد ارتدى حلته الرسمية التي ما كان يلبسها إلا في يوم احتفاء أو عند قدوم مفتش، ورأيت بعضاً من أهل القرية قد جلسوا على المقاعد واجمين شاخصين بوجوه كئيبة مكفَهِرّة، فانسللت إلى مكاني وأنا أكثر ما أكون وجلاً وحيرة، وعلا الأستاذ المنبرَ فقال بصوت مرتجف ورنّة حزينة كأنها بكاء ونحيب: أولادي، هذه آخر ساعة أراكم فيها، ثم نفترق إلى غير تلاق، لأن بلادكم قد احتلها الألمان وأبدلوا لغتهم الجرمانية بلغتكم الفرنسية، فلا فرنسية بعد اليوم
…
وخنقته العبرات فما استطاع أن يتم كلامه، فانقطعت نياط قلبي من هذه الطعنة النجلاء، وعلمت لِمَ كان يسرع الناس إلى دار الحاكم. واأسفاه عليك يا لغتي الفرنسية، ويا لغة أمتي المحبوبة!
ثم عاد الأستاذ فقال: والآن أصغوا إليّ لأتلو الدرس الأخير. قم يا
…
فلم أسمع اسمي حتى ارتجفت وقمت، ولم أكن حفظت درسي، فوقفت ساكناً، فقال: اجلس يا بني، أنا لا أعنّفك ولا ألومك، ولكن اعلموا، اعلموا يا أولادي أنكم أضعتم بلادكم
وسلّمتموها لعدوكم بإهمالكم لغتكم. اسمعوا، اسمعوا، سألقي عليكم الدرس الأخير.
وراح يلقيه، حتى قُرع الجرس، فوقف ليودعنا ويودع عهد استقلال بلاده ولا تكاد رجلاه تحملانه، وقف فقال: أيها الأحباب الأعزاء، إنني
…
ثم غلبه البكاء فأسلم نفسه إليه، وراح إلى اللوح فكتب عليه بحروف كبيرة:«ليحيَ الوطن» ! وخرج (1).
* * *
«إذا استُعبِدت أمة ففي يدها مفتاح قَيدها ما احتفظت بلغتها»
…
الآن تستطيع أن تفهم معنى هذه الكلمة، والآن تَقْدر أن تعلم أن نشر اللغة وإذاعتها بين الناشئين، وأن إبراز صحائف التاريخ بيضاءَ ناصعةً للطالبين، أنفعُ لهذه الأمة وأَعْوَدُ بالنفع عليها من خمسين مظاهرة شعبية ومئة خطبة سياسية، لأن في ذلك حفظ حياتها وضَمانة ولاء أبنائها لها وحدبهم عليها.
هذا هو التعديل الذي نطلبه من مجلس المعارف الكبير الذي سيُعقَد في هذا الشهر، ولكنّا نعتقد أن هنالك قوة تسيطر على أعضاء هذا المجلس وتستغل اسمهم لما تريد، فهل يخيب الواقعُ اعتقادَنا هذا؟ وهل نرى في أعضاء المجلس من يكون
(1) عاد علي الطنطاوي إلى هذه القصة فنقل طرفاً منها في مقالة «لغتكم يا أيها العرب» وعلق عليها تعليقاً حسناً، فليرجع إليها من شاء من القراء، وهي منشورة في كتاب «فِكَر ومباحث» (مجاهد).
له من الجرأة على القيام بالواجب ما يدفعه إلى أن يقف موقف المؤيد له، المدافع عن لغة هذه الأمة وتاريخها، ولو أدى قيامه بذلك إلى إخراجه من «المعارف» وقطع راتبه؟ هل نرى ذلك الرجل الشريف في أعضاء المجلس؟
أما أنا فأظن أنني لا أراه، ولكن أرجو أن يخيب الله ظني وأراهم كلهم ذلك الرجل.
* * *
ليست غاية المدارس الابتدائية علمية، وليس القصد منها حشو دماغ الطالب بأكبر قسط مستطاع من المعارف؛ بل إن القصد منها إنما هو التهذيب والتربية قبل كل شيء، فيجب إذن على «المجلس الكبير» أن ينظر إلى هذه البرامج ويناقشها من ناحية التربية الوطنية التي تنشئ من الأطفال رجالاً قد عرفوا لغتهم ودرسوا تاريخهم، ولم تفتنهم حضارة الغرب وزخارفه عن شرقيتهم وعروبتهم.
إننا لم ننسَ بعدُ تلك الضجةَ الهائلة التي أحدثها صدور هذا البرنامج، ولم ننسَ أن «المعارف» وعدت بتعديله حين ينعقد هذا المجلس؛ وها هو قد انعقد أو كاد، فهاتوا تعديلكم إن كنتم صادقين
…
صادقين في خدمة الأمة عاملين على نجاحها.
إن المَواطن التي نشكو منها في هذا البرنامج هي اللغة العربية وقلة العناية بها، والتاريخ والدين الإسلامي وإهمالهما. أما اللغة فإنني أنقل للقارئ رأياً فيها لمدرّس من خيرة المدرسين وأشدهم غيرة على العربية وأكثرهم اطلاعاً عليها، أدلى به إليّ
فوجدت فيه ضالّتي، وهذا هو نصه:
"تأخر التعليم العربي في المدارس الابتدائية خلال المدة الأخيرة إلى درجة صار من الممكن فيها أن نجد بين تلاميذ الصف السادس الثانوي، وحتى الخامس أيضاً، من لا يفرّقون بين الاسم والحرف! وحتى صار من النادر وجود أناس لا يلحنون في القراءة ولا يخطئون في الإملاء، أو تسلم لهم جُمَل صغيرة -يُنشئونها- من الأغلاط. ولا ريب في أن السبب الوحيد في ذلك هو تراخي قانون الفحص الابتدائي (1) (وأزيد أنا: وغيره من الفحوص، ولا سيما في البكالوريا (2)) تراخياً جعل نجاح الذي تكون علامته في العربية نصفاً من عشر أمراً مستطاعاً. إن الواضح أن كل المقصود من المدارس الابتدائية هو تعليم القراءة والكتابة قبل أي شيء آخر، والطالب الضعيف فيهما هو في العرف غيرُ متمِّمٍ تحصيلَه، فمن المأمول -تلافياً لهذا الأمر- تحوير القانون إلى صورة تكفل المصلحة العامة أكثر وتصون اسم التحصيل الابتدائي السوري من هذا الضعف المخجل، بحيث لا ينجح إلا من كان يحسن القراءة والكتابة. والذي أراه:(1) أن يُجعَل للقواعد العربية علامة خاصة في الفحص التحريري مع وضع أسئلة تطبيقية على الإملاء. (2) أن تستقل علامات الفروع الأربعة -الإملاء والإنشاء والقواعد
(1) كانوا يعقدون للطلاب في نهاية مرحلة الدراسة الابتدائية امتحاناً عاماً كامتحان الثانوية العامة الذي تعرفونه اليوم، وكان يُدعى «السّرْتفيكا» ، وهو امتحان أُلغي في وقت مبكر فلم أدركه (مجاهد).
(2)
هو امتحان الثانوية العامة، وما زال يُدعى في الشام باسمه هذا إلى اليوم (مجاهد).
والقراءة- بعضها عن بعض، بحيث إن المقصّر في أحدها لا ينجح. (3) أن تكون علامة النجاح في كل الفروع المذكورة خمساً على الأقل. وغيرُ خاف أن اللغة آلة فهم الدروس جميعاً، فلا يتم للمقصّر فيها فَهمُ درسٍ ما، وإذا نحن أمنّا إخراج تلاميذ متينين في العربية من مدارسنا الابتدائية فقد أمنّا استعدادهم للتضلع في كل الفروع على الإطلاق".
من هذا التقرير تعرف مقدار استهانة هذا البرنامج باللغة العربية وإهماله أمرها، وابحث في حامليها ما شئت فإنك لا تجد فيهم عشرين في المئة يقرؤون صفحة عربية بلا خطأ.
أما التاريخ فحسبك أن تعلم أن التلاميذ قاطبة (نعم، قاطبة؛ إنّي أبصر ما أقول، هل تسمع؟) لا يعلمون من تاريخ قُتَيبة بن مسلم أو المُهَلَّب ربع ما يعلمون من تاريخ نابليون أو الإسكندر، ولا من أنباء الأدارسة أو ابن طولون ما يعلمون من أبناء ملوك الفرنسة من بني البورْيون!
هذه هي نتيجة من نتائج تدريس التاريخ في مدارسنا، فانظر إذن -هداك الله- وقدِّرْ ما تريد، وبالغ في الظن بإهماله ما شئت، فلن تكون مخطئاً! وكذلك نقول في إهمال الدين وعلومه.
* * *
هذا هو برنامج التعليم الابتدائي وهذه هي نتائجه، وهذا هو الواجب المُلقَى على عاتق أعضاء المجلس، وهذه هي دعوتي إياهم للنهوض به.
* * *
مشاهدات وأحاديث (4)
عقوق
نشرت سنة 1930 (1)
- من هو البطل الذي تحبه وتُعجَب به؟ هل تحب خالد ابن الوليد بطل اليرموك؟ هل تعجب بسعد بن أبي وقاص بطل القادسية؟
هذا ما قلته له يوم زرت والده. وهو غلام ذكي شديد الانتباه قوي الذاكرة، على أن سنَّه لا تعدو العشر. دخل عليّ فحياني، وأردت أن أباسطه وأرى مبلغه من العلم بالتاريخ فسألته هذا السؤال.
تورّدت وجنتا الغلام وخجل، ثم طفق يقول: بَرْدون مسيو! أنا لا أعرف خالد بن أبي البليد وسعد بن عقاص، لأن الأستاذ قال لنا إنه لا بطل يستحق إعجابنا ومحبتنا إلا سان بيير وجان دارك، والقديسين طبعاً.
- وعمر بن الخطاب، ألا تعرفه أيضاً؟
(1) في «فتى العرب» بتاريخ 21/ 5/1930 (23 ذي الحجة 1348).
- لا أدري إذا كان يأتي دوره بعد أبطال الغرب أم لا؟ على أن الأستاذ أخبرنا أن الشرق لا ينجب عظماء.
- إذن أنت لا تحب الشرق، ولا تحب وطنك سوريا؟
- أحبها؟ لا؛ لا أحبها لأنها لا تزال في الظلمات، لم تدخل في أنوار الغرب!
* * *
التفتُّ عندئذ إلى والد الغلام، وستطير دهشاً إذا أخبرتك أن والده من أسرة عريقة في العلم والزعامة الدينية في الإسلام! التفتُّ إليه وقد هالني ما سمعت من الغلام، وتصورت أبناء هذه البلاد الذين نبتوا في أرضها وعاشوا فيها، ينقلبون عليها وتعمل فيهم هذه السموم الخبيثة التي يبثّها هؤلاء المبشرون، لا بالديانة النصرانية فحسب، بل بديانة الخيانة للوطن واحتقار تاريخه وازدراء لغته.
تصورت هذا فأحسست كأنما قلبي كاد -لكثرة ما يخفق- يخرج من صدري، فرحت أسأل نفسي: من المجرم؟ من الخائن؟ وراحت تجيبني بأنه هذا الذي يجلس أمامك، بأنه والد الغلام! فقلت له وأنا لا أتمالك نفسي من الحدة: لماذا لا ترسل ولدك إلى مدرسة وطنية؟ ولماذا آثرت مدرسة «الفرير» الأجنبية؟ ألم تأتِك أخبار ما فعل الطلاب فيها في العام المنصرم؟ ألم يبلغك نبأ تلك الدعوة القدسية إلى مقاطعة هذه المدارس وتلبية أبناء الوطن الأبرار لها، مسلمين ومسيحيين على السواء؟ أترضى بأن تكون
…
آه، ماذا أقول؟
- دعني يا سيدي أقصّ عليك، دعني لا تغضب! إنني لم أؤثرها على غيرها لأنني كاره لأمتي أو عدو لوطني، ولم أجهل غايتها السيئة التي أُنشئت من أجلها، ولم يذهب عني أنها لم تعد ترى لسمومها مكاناً إلا في نفوس الشرقيين
…
كل ذلك أعرفه، ولكني اضطررت إلى إرسال ولدي إليها اضطراراً.
- اضطراراً؟! من اضطَرّك إلى ذلك؟ هذا غير معقول.
- مهلاً يا سيدي، لا تغضب ولا تقطع عليّ حديثي. اسمع تتمة كلامي: أنا امرؤ أحب النظام وأشغف به، وقد وجدته على أتمّه في هذه المدارس. وأهوى اللغات الأجنبية وأميل إليها، وقد رأيت أنها تتقنها وتعتني بها. وأحب أن ينشأ ابني متحضراً مثقفاً، وفيها الثقافة والحضارة.
- لقد فهمت ما تريد، فأخبرني: متى يذهب ولدك إلى المدرسة ومتى يعود منها؟ وكم ساعة يجالسك فيها؟
- يذهب في الساعة السادسة صباحاً ويعود في مثلها مساء، ولا أحسب أنني أجالسه ساعة أو بعض ساعة في اليوم.
- حسن جداً، هذا ما كنت أريد أن تقوله لي. والآن أخبرني: هل تأمن معلمي «الفرير» على نفسك إذا رافقتهم عشرة أشهر متوالية من المطلع إلى المغيب، هل تأمن أن يفتنوك عن وطنيتك ودينك؟ قل لي الحقيقة، لا تحاول التملص.
- أما وقد قلت ذلك، فأخبرك أنْ «لا» .
- أفأنت أصلب عوداً وأثبت على مبدأ أو طفلك هذا؟
- بل أنا. ولِمَ هذه الأسئلة؟
- حسن، وهل تظن أن تلاميذ «الفرير» وأشباهها أقوى في الفرنسية من تلاميذ «التجهيز» ؟ ربما تقول إنهم أقوى في الكلام والتحدث، وربما كان هذا مسلَّماً، أمّا أن تقول أو يقول امرؤ إنهم أقوى في الإنشاء والترجمة فلا، وإنني أتحدى ذلك القائل وأدعوه إلى المباراة والمسابقة، إن شاء في عدد الأفراد النابغين في كلٍّ وإن شاء في المجموع. وأما هذا النظام الذي تهواه وتراه على أتمه في الفرير فأظن أنه يعجبك منه أن ولدك يبقى اثنتي عشرة ساعة كل يوم في حفظ المدرسة، وهذا دليل على قِصَر نظرك وضعف محاكمتك، ولو عقلت لعلمت أن ذلك شر ما تكسبه لولدك. وأما هذه الثقافة وهذا التحضر فما أدري قصدك منه، فإذا كنت تقصد بالثقافة العلومَ والمعارفَ ذهب كلامك كله هدراً، لأن أدنى طالب في «التجهيز» يصلح أستاذاً لأحسن طالب في الفرير وأشباه الفرير. والآن: اعتَرِفْ، اعترف أمامي بأنك تضحي بوطنية ابنك عمداً، اعترف بأنك تخون هذه الأمة بتمهيدك السبل لابنها البارّ بها ليصبح عدواً لها لدوداً وخصماً مؤذياً، اعترف أنك
…
آه، إنني أستحي أن أقولها: أنك خائن!
* * *
هذا هو الحديث الذي دار بيني وبين صديق لي، رجل من سُراة البلد ووجهائه! وقد عرفتَ -أيها القارئ- من ثناياه كيف تفجعنا هذه المدارس بأبنائنا وكيف تعمل بنا ما لا تعمله الطيّارات والمدافع، لأن صاحب الطيارات نعلم أنه عدو لنا فنجتنبه، ولكن معلّمي هذه المدارس يخدعوننا حتى نحسن بهم الظن ونسلّمهم
أبناءنا (وما أحمق من يسلمهم أبناءه!) فلا يردّونهم إلينا إلا أعداء لنا خارجين على ديننا هازئين بلغتنا ساخرين من عاداتنا!
أيها الناس: اتقوا الله في أبنائكم، لا تقذفوا بهم في هاوية سحيقة لا قرار لها ولا مخلص لهم من ويلاتها. اتقوا الله في هذه الأمة، لا تفجعوها بأبنائها وترزؤوها بفلذات أكبادها. اختاروا لأبنائكم خير المدارس كما تختارون لكم خير الدور وخير الأطعمة. كونوا أوفياء لأوطانكم في آرائكم وعاداتكم، في تجارتكم وصناعتكم، في أبنائكم وبناتكم، واعلموا أن هذا المستقبل لا يُبنى إلا على عواتق هؤلاء الأطفال، فلا تُجهزوا عليهم وتصيّروهم أعداء لبلادهم.
أيها الناس: إن مَن يرسل ابنه إلى مدارس الأعداء كمَن يأخذ في حومة الوغى عَلَم أمته فيمزقه تمزيقاً ويقطعه إرباً، أو كمن يدع موقفه في ساحة الحرب للعدو المهاجِم حتى يحلّ فيه دونه ويقتل منه إخوانه. إن من يرسل ابنه إلى هذه المدارس خائن لأمته، حانث بعهده لوطنه، وخليق بنا أن نحتقره ونزدريه ولا نقيم له وزناً. وما هذه المدارس؟ هل تعلمون؟ إنها جيوش أجنبية اقتحمت دياركم لتزهق أرواحكم. ماذا؟ بل هو أمرٌ أشد من قتل الفرد، إنه إهلاك أمة!
أيها الناس: انصرفوا عن هذه المدارس باسم الدين، باسم الوطنية، مسلمين كنتم أو مسيحيين، فهي عدوة لكم جميعاً وأنتم جميعاً شرقيون. هنا محكّ الوطنية، وهنا ميزان الإخلاص.
* * *
مشاهدات وأحاديث (6)
البُراق
نشرت سنة 1930 (1)
جاء في كتاب كليلة ودمنة (النسخة التي لم تُطبَع!) ما يأتي (2):
قال كليلة: ألا تضرب لي يا دمنة مَثَل الرجل اللئيم يُحسن إليه القوم ويُكرمونه، فيأبى إلا الإساءة إليهم والغلبة على أموالهم؟
قال دِمْنَة: زعموا أنه كان في مدينة «كذا» ستة أبناء ورثوا عن أبيهم قصراً عظيماً وأموالاً طائلة، أمضى الرجل عمره وأمضَّ نفسه في جمعها وتحصيلها، وأخذ عليهم عهد الله وميثاقه:
(1) في «فتى العرب» بتاريخ 25/ 5/1930 (27 ذي الحجة 1348).
(2)
كثيراً ما عقد علي الطنطاوي فصولاً على لسانَي كليلة ودمنة في تلك الأيام، صنع ذلك كلما أراد التورية وضرب الأمثال، فلا يَظُنَّنّ قارئٌ لهذه الفصول أن مِن كتاب «كليلة ودمنة» نسخاً مفردة أو مفقودة أو غير ذلك، إنما هي النسخة الوحيدة التي تُنشَر أبداً ويعرفها الناس (مجاهد).
أن يحافظوا عليها ولا يبدّدوها، فلما اطمأن إلى أَيْمانهم ووثق بعهودهم أغمض عينيه وأسلم روحه، وهو أروَح ما يكون نفساً وأهدأ بالاً.
قال كليلة: ويحك يا دمنة! ألا تخبرني ماذا كان بعد ذلك؟
قال: نعم، مات الأب، وعاش أولاده من بعده بنعمة وراحة لا يَشْكون ولا يختصمون، حتى نزل بهم في ليلة من ليالي الشتاء، حالكة الظلام شديدة القُرّ، ضيفٌ مسكين يشكو ألماً ويطلب دِفأً ويرجو طعاماً، فأطعموه وأدفَؤوه وداوَوه، ومنحوه ما شاء من عطايا ومِنَح، فلما ذاق طعم الغِنى والسعادة وأحس بلذة الترف والنعيم اقترب من أحدهم فقال له: إنك قد أحسنت إليّ وأكرمتني، ولا بد لي من مكافأتك على إحسانك ومن إنذارك بإخلاء الدار وترك الأموال قبل أن أسطو عليك وأعمل فيك سلاحي، فامنحني ما أريد طوعاً أو لا فامنحه كرهاً!
* * *
رأيت هذا المَثَل مَثَل فلسطين وصهيون، في كتاب «كليلة ودمنة» (في نسخة غير التي في أيدي الناس)، فرأيت فيه ما أفتتحُ به مقالي عن «البُراق» .
والبراق جدار بيت الله، فيه أولى القبلتين وهو ثالث الحرمين الشريفين، والبراق جدار بيت الله الذي ضحى المسلمون في سبيله بأنفسهم وأزهقوا من أجله أرواحهم وأراقوا ثمناً له دماءهم، والبراق جدار بيت الله، شهد الله وتشهد ألف وثلاثمئة عام أنه
للمسلمين لا يشاركهم فيه مشارك، تشهد أنه لهم وحدهم خالصاً من دون الناس أجمعين (1).
الفلسطينيون حرّاس على هذا المُلك العام لكل المسلمين، فإذا فرّطوا فيه أو مكّنوا هؤلاء المتشردين، شُذّاذ الآفاق، من امتلاكه فقد خانوا هذه الأمانة وحنثوا بذلك العهد. وما كانوا ليفعلوا. وما كان عجيباً ثباتهم في الدفاع عنه، ولكن العجيب الذي لا أعجب منه ميل الإنكليز إلى الصهيونية وعطفهم عليها، وانصرافهم عن نصرة المسلمين أهل الحق الصريح!
* * *
إننا هنا لنتحدث بهدوء عن هذا العطف وهذا المَيل، وننظر: أفيه فائدة إنكلترا ونفعها، أم فيه ضررها والوبال عليها؟ ونمهّد
(1)«حائط البراق» هو الجدار الغربي للمسجد الأقصى في القدس، ويمتد بطول تسعة وأربعين متراً وارتفاع اثني عشر متراً، ويسميه اليهود «حائط المبكى» ، وقد كان هو السبب في اندلاع ثورة عام 1929 في فلسطين، وعلى تلك الأحداث وما بعدها بُنيت هذه المقالة. ففي تلك السنة حاول اليهود الاستيلاء على الجدار وتغيير معالمه ونشر الأعلام اليهودية عليه، فهَبَّ مسلمو القدس أولاً للدفاع عنه، ثم تبعهم مسلمو فلسطين جميعاً، واندلعت شرارة «انتفاضة» شعبية عارمة، وتصاعد الغضب من اليهود حتى فتك العرب في الخليل بيهود المدينة جميعاً وعددهم ستون، وكذلك صنع أهل صفد بيهود صفد، فتدخلت حكومة الانتداب وأعانت اليهود ونصرتهم، وانتهت الانتفاضة بمقتل وإصابة نحو خمسمئة من اليهود بأيدي العرب، ونحو أربعمئة من العرب بأيدي الإنكليز واليهود معاً (مجاهد).
لهذا الحديث بحادثتين تاريخيتين:
الحادثة الأولى:
وقع في سنة 525 للميلاد أن أراد الإمبراطور البيزنطي جوستنيان ما تريده إنكلترا اليوم، فأعطى اليهود فلسطين وأجاز لهم، بل ساعدهم، على إنشاء حكومة يهودية خاضعة لرقابة الروم. فكيف كافؤوه؟ اسمع أقُلْ لك: إنهم كافؤوه بشق عصا الطاعة وبقتل الجنود الرومانية التي أقامها حامية لهم.
وعندئذ أيقن -وسيأتي يوم توقن فيه إنكلترا أيضاً- بأن هذا الشعب اليهودي لا يصلح أن يعيش مستقلاً أبداً ولا أن يكون له وطن قومي! وعندها أرسل إلى اليهود حليفَه الملك الغساني الحارث بن جَبَلة، فأبادهم وأسر منهم خمسة وعشرين ألفاً أودعهم الحبشة وقتل منهم مثلهم!
وهذه هي الآونة الوحيدة التي تمتع فيها هذا الشعب باستقلال شبه حقيقي بعد ميلاد المسيح عليه السلام.
أما الحادثة الثانية:
فليست بعيدة عنا، بل هي حادثة مشهورة وقعت في عهد الملكة فكتوريا والسلطان عبد الحميد، وذلك أن الهند ثارت على إنكلترا ثورة عظيمة كاد ينهار لهولها صرح النفوذ الإنكليزي في الهند، وأعيت إنكلترا الحيلة ولم تَرَ لها مخلصاً إلا بالالتجاء لخليفة المسلمين، فأرسل الخليفة كتاباً لثوار الهند يأمرهم فيه -باسم الدين! - بالإخلاد إلى السكينة، فسكنوا! سامح الله
عبد الحميد، ولولا ذلك لم يكن لإنكلترا من منجى (1).
* * *
(1) أذكر أنني سمعت هذه القصة الغريبة من قبل فأثارت عجبي وملت إلى إنكارها، فلما قرأتها اليوم ازددت منها عجباً ولها إنكاراً، ورأيتها بعيدة عن منهج السلطان عبد الحميد وعن شخصيته، ومن أجل ذلك لم أدّخر وسعاً في البحث عن الأصل التاريخي لها من باب التوثق من صدقها، وأعترف بأن الحيلة أعيتني بالعثور على أي سند تاريخي لها -على طول بحثي في كتب تاريخ الهند وتاريخ الدولة العثمانية- ومن ثَمّ فلا أملك إلا الشك في الرواية من أساسها.
على أنها إن كان لها أصل فلن تكون في أيام السلطان عبد الحميد الثاني الذي نعرفه، بل في أيام السلطان عبد الحميد الأول الذي حكم الإمبراطورية العثمانية بين عامَي 1839 و1861، فالثورة الكبرى التي عرفتها الهند اشتعلت سنة 1857، وهي الثورة العظيمة التي كادت تنتهي إلى النجاح لولا تفرق كلمة المسلمين في الهند ونجاح مساعي الإنكليز في ضرب بعضهم ببعض، وانتهت بأسر السلطان المسلم بهادُرْ شاه، آخر الملوك المغول في الهند، ونفيه وقتل أبنائه وتشريد أسرته، فلم تقم لهذه الأسرة قائمة من بعد. وتجدون ملخّصاً لقصة هذه الثورة في الحلقة 145 من ذكريات علي الطنطاوي (5/ 266 وما بعدها). وكانت أيامُ السلطان عبد الحميد الأول أيامَ ضعف وهوان، ففيها فقدت الدولة شبهَ جزيرة القرم، وفيها كانت الحادثة المشؤومة في جدة، وهي التي قرأتم خبرها في مقالة «حادثة من التاريخ» في كتاب «فصول في الثقافة والأدب» الذي صدر منذ وقت قريب. وفي أيام السلطان عبد الحميد الأول أيضاً وقعت الفتنة الطائفية في جبل لبنان، فتدخلت الدول الأوربية وفرضت على الدولة العثمانية منح الجبل الحكمَ الذاتي، يحكمه حاكم من النصارى، فكان صنيعهم =
أستنتجُ من هاتين الحادثتين أن إنكلترا في حاجة إلى إرضاء العالم الإسلامي ومصادقته أكثر من حاجتها إلى إرضاء بني صهيون، وذلك لأن فلسطين قلبُ العالم الإسلامي، وكل حادث يسوء مسلمي فلسطين يسوء المسلمين أجمعين ويغضبون له كلهم في كل أنحاء الأرض. وإن إنكلترا التي تحيا بالهند وأكثرُ أهلها مسلمون، ويهمّها مضيقا السويس وباب المندب وحولهما المسلمون، إنها تلقى -والحالة هذه- من جرّاء غضب العالم الإسلامي عناء طويلاً وتعباً مُمِضّاً.
إن إنكلترا تسعى لصداقة العالم الإسلامي منذ القديم ولا تزال تجاهر بهذه الصداقة أملاً بما ينالها منها من منافع، فعلامَ إذن تؤيد، ولو بالباطن، الصهيونيين؟ وماذا يفيدها الصهيونيون إذا خسرت هذه الصداقة؟
وهل تستطيع إنكلترا الوثوق من بقاء الصهيونيين على الولاء لها إذا هم استقلوا في فلسطين؟ هل تأمُل أن يبقوا -إذا كان ذلك- على الصداقة لها؟ إن اليهود الذين خرجوا على جوستنيان بعد أن أحسن إليهم لا يتقاعسون أن يخرجوا على إنكلترا، بل هم لا يتأخرون منذ الآن عن أن يكيلوا لها السباب جزافاً كلما ساءهم منها أمرٌ أو رأوا فرصة مناسبة!
ما هو إذن نفع إنكلترا من العطف على الصهيونية؟ هذا ما
= هذا بالأمس البعيد كصنيعهم في أندونيسيا التي انتزعوا منها تيمور بالأمس القريب، وهو الذي يسعون إليه اليوم في دارفور في السودان، لا قدّر الله لمسعاهم النجاح! (مجاهد).
نتساءل عنه وقد علمنا أن لجنة التحقيق التي وقفت موقفاً عادلاً، وحكمت (أو كادت) للعرب قد أغضبت الصهيونيين فأحبوا أن يعاد التحقيق (1)، وأطاعتهم إنكلترا ورَدَّت وفد العرب على أعقابهم خاسرين! نتساءل عن هذا ونحن نعلم أن فلسطين أصرّت على مقاطعة هذه اللجنة الجديدة، وأن العالم الإسلامي كله يؤيد فلسطين فيما أصرت عليه من حقوقها، بل حقوق المسلمين جميعاً.
نتساءل عن هذا، ولا ندري من يجيب.
* * *
(1) هذه هي لجنة «شو» التي تألفت بعد انتفاضة عام 1929، وقد اعتبرت أن حكومة الانتداب هي المسؤولة عن تلك الأحداث، وأوصت بضرورة تعديل سياسة الحكومة وتقييد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وغير ذلك من التوصيات التي اعتُبرت في حينها في صالح العرب. فثار اليهود ثورة عارمة في فلسطين وغير فلسطين وسيَّروا مظاهرات حاشدة في بريطانيا وأميركا حتى استجابت الحكومة البريطانية لهم، وسرعان ما شكلت لجنة أخرى أعادت التحقيق ودفعت الحكومةَ البريطانية إلى إصدار ما سُمّي بالكتاب الأسود، وهو وثيقة بريطانية رسمية مؤكِّدة لوعد بلفور ومتمِّمة له. وكانت هذه الأحداث كلها سبباً في اندلاع ثورة عام 1933 التي قادها الشيخ عز الدين القسّام واستُشهد فيها هو وأصحابه، ويعتبر المؤرخون أن ثورته هذه هي المقدمة التي قادت إلى اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936 (مجاهد).
مشاهدات وأحاديث (8)
ضاع الأمل!
نشرت سنة 1930 (1)
عُقد مجلس المعارف الكبير، حضره أعضاؤه من الآفاق، خُصِّصت له دار المَجْمَع العلمي العربي، نُشرت أخباره في الجرائد، انفضّ المجلس بعد أن أقيمت له حفلة شاي إكراماً لجهوده! ولكن ماذا صنع؟ ما هي أعماله ومقرراته؟ لا شيء! وما هي إلا أن قام صاحب الدعوة خطيباً في أعضائه، فأمالوا أعناقهم وخفضوا رؤوسهم وقالوا: آمين، فجزاهم بما أمّنوا حفلة شاي!
* * *
ما هذا؟ أهكذا يكتب الناس عن مجلس المعارف؟
عفواً يا أسيادي، فإن شيطان الكتابة (إن صحّ أن للكتابة شيطاناً)(2) هو الذي أملاها عليّ، وإنما أريد أن أقول إن مجلس
(1) في «فتى العرب» بتاريخ 27/ 5/1930 (29 ذي الحجة 1348)
(2)
يعرّض بما يزعمونه عن شيطان الشعر، وهو من خرافات الجاهلية، قال الجاحظ في «الحيوان»: "كانوا يزعمون أن مع كل فحل من =
المعارف الذي انتظرناه عاماً كاملاً لنرى على يده التعديل المنتظَر لهذا البرنامج، وبنينا على انعقاده الآمال الجسام، لم يصنع شيئاً ولم يغيّر في البرنامج حرفاً! وأعجب من هذا أنْ قد صَدَق ظنُّنا السوءَ بأعضائه وبأنهم -إلا أفراداً قلائل منهم- لا يجرؤون حتى على إبداء آرائهم في الأمور التي اجتمعوا لإبداء آرائهم فيها! ولم نكسب من هذا المجلس إلا أننا كنا نأمل لهذه البرامج إصلاحاً فمات أملنا، وكنا نرفّه عن أنفسنا بأنها من وضع غيرنا، فصادَقْنا نحن عليها، وانفضّ المجلس وقد كسب لقومه شراً عظيماً.
* * *
البرنامج لا يزال كما كان: يُهمل التاريخ العربي الإهمالَ كله، فيبدأ الطالبُ الصغير في الصف الثاني الابتدائي بدراسة تاريخ سوريا القديم، تاريخ الفنيقيين وأشباههم، قبل أن يدرس تاريخ الأمويين والخلفاء الراشدين. وأنت تعلم أنهم يريدون من هذا غرس بذور الفنيقية في نفوس الناشئين، حتى ينادوا بها وحتى يَدْعوا إلى قومية سوريّة تكون وبالاً على الجامعة العربية والإسلامية المنشودة وبلاء على سوريا وأخواتها.
وليس هذا كل ما نشتكي منه في برنامج التاريخ، بل نشكو من جهل الطالب الذي يحمل الشهادة الابتدائية الجهلَ المطلق
= الشعراء شيطاناً يقول على لسانه الشعر"، وفي ثمار القلوب للثعالبي: "كانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقي على أفواهها الشعر وتلقنها إياه، وتدّعي أن لكل منهم شيطاناً، وبلغ من تصديقهم بهذا أن جعلوا لهم أسماء". وهذا كله تخريف لا أصل له لا في عقل ولا نقل! (مجاهد).
بدول إسلامية عظيمة كان لها أعظم وأجلّ الآثار في خدمة الحضارة الإنسانية وتشييد بناء العمران البشري، في حين أنه على علم مفصَّل بتاريخ أوربا ودولها. بل إن الجهل لأفظع من ذلك، جهل حتى بتاريخ الأمويين والعباسيين أنفسهم، فتجد من الطلاب من لا يعرف عن قادة الفتوح الإسلامية أكثر من أسمائهم، مع أنه يعرف عن نابليون وروبسبير الشيء الكثير!
أليس من العار على الوزارة أن تدرّس التاريخ الإسلامي كله في عامين اثنين؟ وماذا يستطيع الطالب الصغير (في الصف الثالث أو الرابع، تصور!) أن يفهم من التاريخ الإسلامي، تاريخ ثلاثة عشر قرناً، في أقل من مئة وثلاثين حصة هي مجموع ما يخصَّص للتاريخ في هاتين السنتين؟ إن هذه القضية -على وضوحها وأهميتها- لم تجد لها من أعضاء المجلس واحداً يؤيدها ويدافع عنها.
* * *
وهكذا مرت جلسات المجلس، وأُعلن اختتامه كما أُعلن افتتاحه والعقدة لم تُحَلّ والمُراد لم يحصل. ولينظر القارئ في اكتفاء المجلس بثلاث جلسات فقط، مع أنه دُعي للبحث في أمر جليلٍ البحثُ فيه مستفيض واسع الجنبات، أليس معنى هذا أن المجلس إنما دُعي للمصادقة والتأمين لا للبحث والدرس؟ أوْ لا فما الذي حال بينه وبين هذا التعديل المنتظَر؟ إن تلك الدهشة العامة وتلك البرقيات والوفود التي تتالت على الوزارة يوم نشرت البرنامج تعرب عن تلك الدهشة وذلك الاستياء، إن هذا كله لم يهدأ إلا طمعاً بموقف شريف يقفه هذا المجلس، أما وقد انقضى
ولم يعمل شيئاً فليس إلا اليأس من معونته والانصراف لجهة ثانية تحقق هذا الغرض المنشود.
لقد تكلمنا في المقال الثاني من هذه «المشاهدات والأحاديث» عن الإهمال العظيم للّغة العربية الذي سبّبه هذا البرنامج، وبينّا لهم القصور الكبير الذي بدأ يعتري الطلاب في لغة الضاد. ولا نريد أن نعود هنا فنعيد ما قلناه، بل نريد أن نُعْلم الناس أن هذه البرامج لم تهمل التاريخ واللغة فقط، بل أهملت الدين قبل كل شيء، فنزعت من علومه كل صبغة رسمية ولم تجعل لها دخلاً في الفحص، ولا ينال الطالبَ من جراء جهله بها شيء من العقاب أو الجزاء.
* * *
خاب الأمل وضاع كل رجاء في تعديل هذه البرامج على يد المجلس، وليس لدينا طريق آخر لتعديله، فماذا نصنع؟ أنرضى بأن ينشأ أبناؤنا منشأ فيه من العقوق لدينهم ولغتهم وتاريخهم ما فيه؟ أنرضى بأن يكون بناء مستقبلنا مزعزعاً مضطرباً يقوم على عواتق أناس لا نثق بهم؟ أنرضى بهذا كله ولا نصنع شيئاً، أم نكتفي بأن ننادي (ونعلم أنه لا حياة لمن ننادي)؟
أنا لا أدري ما الجواب، فليقله لي القارئ إن كان يعلم، وسلام عليه إن فهم ما أريد!
* * *
مشاهدات وأحاديث (10)
مَن للعربية؟
نشرت سنة 1930 (1)
أترى يفيد الكلام في هذا الموضوع، أم السكوتُ عنه خيرٌ لنا وأجدى علينا؟ لقد قلنا حتى انشقَّت من القول حناجرنا، وكتبنا حتى نضب مدادنا وتكسرت أقلامنا، ولم نرَ لما كتبنا وقلنا نتيجة ولا أثراً، فلم يبقَ علينا إلا أن نخاطب هؤلاء المعلّمين، معلمي العربية، بالصراحة وبالقلم العريض، فنقول لهم:
إنكم آثمون -بالكلمة الواضحة- حانثون بعهد العروبة ما دمتم تتساهلون في فحوص العربية، وتدرّسونها على طريقة قديمة، على أصول جافة تنفّر التلاميذَ منها وتبغّضها إليهم، وما دمتم لا تصطنعون في تدريسها الطرقَ المصطنَعة في اللغة الفرنسية مثلاً، ولا تفهمون أنه لا فرق بين تدريس النحو العربي والنحو الفرنسي.
النحو الفرنسي يُدرَّس غالباً على شكل جميل تطبيقي يستطيع به الطالب أن يقرأ بلا خطأ ويكتب بصحّة ويحلل
(1) في «فتى العرب» بتاريخ 5/ 6/1930 (9 محرم 1349).
ما يقرأ، وتدرّسون أنتم النحوَ على طريقة ما أدري والله ما هي، وما أظنها تصلح لتدريس لغة الزنوج! تحفّظون التلاميذ التعاريفَ بالحرف وتقسرونهم على استظهارها قسراً، دون أن تعلّموهم كيف يطبّقونها على القراءة والإنشاء، فيرون اللغة ونحوها شبحاً مخيفاً، فينفرون عنها ولا يستمرئونها ما عاشوا.
وليس هذا موضوع كلمتي هذه، بل هو موضوع كلمة أخرى سأقولها في حينها، وأقصر الآن الكلام على الفحص: بدا لنا في أول الفحص نجمٌ من الأمل وهّاجٌ حين قال المستشار للجنة اللغة العربية ما معناه: "إن هذا الطنطاوي يكتب في «فتى العرب» يشكو من تساهلكم في فحص العربية، فيجب عليكم أن تكذّبوه وتعنوا بها وتستعملوا ما أمكن من الحزم فيها"
…
وكان في اللجنة أعضاء صالحون حكّموا وجدانهم في هذا الأمر وعدلوا في تقدير العلامات ولم يتهاونوا في ذلك شعيرة، فماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة أن سقط في العربية عدد هائل من الطلاب!
* * *
هل رضي من بيدهم الأمر بهذا، وهو دليل على ضعف العربية وفساد برنامجها وعلى التهاون فيها؟ لا، إنهم لم يرضوا به، فماذا صنعوا؟ اسمع: إنهم نقلوا الأعضاء الصالحين ذوي الغيرة على العربية إلى لجان الدروس الأخرى، وأتوا بسواهم فراحوا يمنحون العلامات جزافاً! ولا أريد أن أقول إنهم كانوا هم أنفسهم جاهلين، فحسب القارئ أن يعلم أن موضوع الإنشاء الذي أُملي على التلاميذ -ولا يتجاوز السطرين- كان فيه خمس
غلطات من مثل «أَوْصِفْ» بدل «صِفْ» ! ولم يدركها هؤلاء الفاحصون
…
تبارك الله أحسن الخالقين!
ماذا يُنتظَر من هؤلاء؟ وكم من الضحايا ذهبت دموعها هدراً من جرّاء جهلهم وتهاونهم؟ لا، ليس كلهم جاهلاً ففيهم أناس متعلمون، بل فيهم العالِمون، ولكن السواد يطغى فتضيع كلمات العالِمين الهادئة وسط ضجيجه العالي؛ وهكذا خُتم الفصل الأول من الرواية، ونجح كل الساقطين في المرة الأولى!
* * *
إنه لشيء غريب، والحقيقة أنها أشياء كثيرة كلها غريب وعجيب في فحص الشهادة الابتدائية، ولكني لا أتحدث إليك عن شيء منها، ولا أروي لك شيئاً من حوادث الالتماس، ولا أقول لك إننا كنا نحمد للمستشار عملَه لو راقب هؤلاء مراقبة شديدة كما يفعل كل مرة، إذ ليس غيره بقادر على منع حوادث الالتماس واعتبار الكفاءة أساس النجاح!
كل ذلك لا أقوله لأنه ليس من موضوع كلمتي هذه، إنما أريد أن أقول: غداً يدخل هؤلاء في «التجهيز» ، وغداً يأخذون البكالوريا، وبعد غد يدخلون غمار هذه الحياة وتكون بيدهم مقدَّرات الأمة، فماذا يكون حالها إذا استلم مقاليدَ أمورها مَن لا يعرف لغتَها، بل من يبغض لسانها وينفر منه؟ وماذا يكون حال الطلاب في اللغة العربية بعد خمسة أعوام؟
إننا نظلم الوزارة إذا طالبناها بهذا الإصلاح، وليس إهمال اللغة من شأنها، ولم يهملها ويفسد علينا أبناءنا إلا معلّمو العربية!
ولو كان فيهم من يغار عليها ومن له وجدان يحثّه على القيام بواجبه نحوها لما بلغنا هذا الانحطاط الهائل، ولكان الإصلاح أمراً ميسوراً.
فيا معلمي العربية: إياكم أعني وأنتم أخاطب، فما لكم؟ أماتت فيكم كل غيرة عربية؟ أضاع من نفوسكم كل حس وطني؟ أم غَرَّتكم الرواتب والأموال؟ أينفعكم المال إذا ضيّعتم اللغةَ، واللغةُ قوام حياة الأمة؟
اللهمّ لقد عجزت عن أن أُفهم هؤلاء، فهَبْ لهم من عندك فهماً وعزماً وجرأة
…
أو فأرِحْنا منهم! فلأن يُضيع لغتَنا مَن ليس منا خيرٌ لنا والله من أن نضيعها بأنفسنا ونصوّب إلى مقاتلها السهامَ بأكفّنا.
ويا أيها الطلاب، أنصتوا إليّ وعُوا قولي: إن هؤلاء لن يفهموا (أو هم لا يريدون أن يفهموا) فكونوا أئمة لهم في الوفاء للعربية؛ أقبلوا عليها قبل الدروس جميعاً، فلا يضيركم إذا حفظتموها أن لا تحفظوا شيئاً غيرها، لأن ذلك حياة أمتكم، أما إذا أهملتموها فقد قتلتم الأمة، ومن قتل الأمة فهو مجرم عابث.
* * *