الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نصائح لمن كان يتعلم الوطنية
نشرت سنة 1933 (1)
أنا أتناول موضوعاً بالدرس والبحث، لا أشخاصاً بالسباب والمهاترة. وما كان السباب خلقاً صالحاً ولا وسيلة لبلوغ الغايات صالحة، ولا يصبح المرء ظافراً إذا شتم وسبّ ولكن إذا دلّلَ وأثبت.
ثم إن النصيحة إذا صدرت عن الإخلاص المجرَّد ولم يكن مبعثها رهبة ولا رغبة (وهذا ما نرجو الله أن يهبه لنا) فإنها لا تخرج عن واحد من أمرين: إما أن تكون نافعة معقولة، وإذن فعلى العاقل قبولها شاكراً، وإما أن يكون الناصح قد أخطأ في اجتهاده فكانت سيئة ضارة، وإذن فتُرَدّ ويُشكَر صاحبها على إخلاصه واجتهاده.
وقد جعلت العنوان «نصائح لمن كان يتعلم الوطنية» حتى يبقى قاصراً على هؤلاء الشبّان من طلاب وغير طلاب، الذين لا نشك اليوم في إخلاصهم ولكنّا نشك في صحة فهمهم معنى
(1) في جريدة «ألف باء» ، وقد اقتُطعت المقالة من صفحة الجريدة فلم أعرف اليوم والشهر اللذين نُشرت فيهما (مجاهد).
الوطنية. ولا يلزم نصحنا لهم أن نكون خيراً منهم أو أعقل، لا، فما نريد الآن أن ندّعي شيئاً من هذا، وما نريد إلا الإصلاح ما استطعنا.
* * *
ويحسن بنا -قبل أن نتوغل في الموضوع- أن نتساءل: ما هي الوطنية؟ أهي كل عمل ينفع الأمة ويعود على الوطن بالخير والفائدة، أم هي قاصرة على الانتساب لحزب من الأحزاب وعلى الصياح والتهليل والهتاف؟
هنا تبدأ مسألتنا: فعلى الرغم من صحة الرأي الأول نجد أن الثاني -على فساده- هو المعروف بيننا، الذي يقرّه الناس بأفعالهم وإن لم يكن هناك من يجرؤ على الدفاع عنه وتأييده، بل ربما سعوا إلى البراءة منه. غير أننا نُثبت سَلَفاً أن الناس يفهمون الوطنية هذا الفهم المقلوب بما نجده من احترامهم لأناس ليس لهم من فضيلة إلا السعي في إغلاق المدينة أو تسيير المظاهرة، أو تشقيق الحناجر بالهتاف في كل مناسبة وفي غير مناسبة. ويكفي أن يُطرَد طالب أو يُضرَب إنسان حتى تغلق المدينة. ونحن لا نريد السكوت على طرد طالب ظلماً أو ضرب إنسان اعتداء، ولكننا إذا أغلقنا المدينة لمثل هذا الحادث التافه فماذا نصنع إذا وقع لنا من الحوادث ما فيه روعة وجلال؟ وإذا كنت تطلق مدفعك على هرة فماذا تعمل إذا عدا عليك الأسد؟
هذه الأولى، فأنا أودّ لو احتفظ إخواننا بقوتهم ليوم الحاجة ولم يضعوا السيف في موضع العصا.
والثانية: أن الوطنية ليست تقتصر على هذا اللون من ألوان العمل، بل هي تتسع لأكبر منه فتشمل التجارة والصناعة والعلم، بل ربما كان المدرّس على منبره والتلميذ على مقعده والتاجر في دكانه والصانع في مصنعه أكثرَ وطنية من تلميذ يدع دروسه ويعطل مستقبله. لماذا؟ قال: ليصيح في الطرقات وتكتب اسمَه الجرائد! ومن أستاذ ضعيف يريد أن يتودد إلى طلابه خشية من شغبهم عليه فيحثّهم على الإضراب والفوضى من وراء ستار، وصحفي يريد أن يروّج جرائده فيختلق الأخبار أو ينفخها كما يُنفَخ بالون العيد!
هذه هي النصيحة الثانية، وهي أن ينظر كل مواطن إلى النقطة التي هو فيها، فيسعى إلى خدمة الوطن فيها، دون أن يدعها فيضيع وتضيع أمته.
والثالثة: أن الوطنية ملك للناس أجمعين وبابها مفتوح على مصراعيه لكل داخل، لا كما هي الحال عندنا: محصورة في فئة واحدة يكون الرجل وطنياً إذا انضوى تحت لوائها، وإلا فلا يُعَدّ إلا رجعياً خائناً مهما كان له في خدمة الوطن من مواقف حميدة وأعمال مجيدة!
والرابعة: أن الشرف قبل الوطنية، فليس يجوز للشاب الناشئ أن ينحط عن منزلته الشريفة ويأتي ما لا يأتلف مع الأخلاق الفاضلة، ولو كان في ذلك نجاح القضية الوطنية. وليس في هذا شيء من الأنانية أو حب الذات، وإنما هو الواجب، إذ إن الأمة الشريفة تستطيع في كل ساعة أن تسعى إلى غايتها، أما إذا خسرت
الأمة أخلاقها فقد خسرت كل شيء.
والخامسة: أن لا يلجأ الشبّان الذين يتعلمون الوطنية -في الدفاع عن وطنيتهم- إلى طرق السباب والشتائم، وأن لا يَدَعوا الحزب الذي ينتسبون إليه يستغل جرأتهم عليها فينتقم بهم من أعدائه ويبعث بهم إليهم يسبّونهم ويشتمونهم. وليعلموا أن من تصدر عنه البذاءة لا يحقّر الناس، وإنما يحقر نفسه ويدل على قلة تربيته وانحطاط أخلاقه.
والسادسة: أن الوطنية هي العلم قبل كل شيء، فإذا كان هؤلاء الإخوان يُخلصون للوطن حقاً فليسعَوا لتحصيل العلم والتعمق في الثقافة، حتى إذا أصبحوا رجالاً أولي علم واطّلاع وكان لهم مواهب سامية سَدّوا هذا الفراغ الذي نحسه اليوم في كراسي الزعامة الوطنية الصحيحة، واستطاعوا أن ينهضوا ببلادهم إلى المكانة التي تتطلبها.
* * *
هذا، وإن مَرَدّ أدوائنا كلها إلى الغرور، فإننا لا نحب أن نعترف لعدونا بشيء، ولا نزال نحسب أن كل صفة حسنة هي لنا وكل سيئة لغيرنا؛ فنعتقد أن لغتنا أوسع اللغات وننام عن توسيعها والسير بها في طريق التقدم كما يفعل الفرنجة بلغاتهم، وأن حضارتنا أعظم الحضارات ولا نسعى لإعادتها
…
إلى آخر ما هنالك مما لا يتسع له استطراد في مقال صغير، ونتجاوز بذلك الغرور حدَّ العصبية القومية إلى العصبية الحزبية، فننظر إلى كل شخص من الأحزاب الأخرى التي لا تقول بقولنا نَظَرَنا إلى رجل
قد استكمل صفات النقص وتبرأ من صفات الكمال، ونحسب أن القضية الوطنية لا تنهض إلا على عاتق الحزب الذي نحن منه
…
وليست هذه الوطنية، وطنية الاحتكار، إلا مظهراً من مظاهر الانحطاط في السويّة العامة، ولا بد من الانصراف عنها يوم ترتقي هذه السوية ويفهم الناس معنى الوطنية الصحيحة، وهذا يومٌ ما أحسبه بعيداً.
وليسمح القراء أن نعيد عليهم قولنا: إننا لا نتعرض في هذه الكلمة لأشخاص، وإنما نبشّر بمذهب وطني جديد يخلّصنا من هذه الوطنية المحتكَرة. ولا أقول الآن أكثر من هذا.
* * *