الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاةُ والسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد أخوة الإيمان فكثيرةٌ هي المعاني التي ينبغي أن تعلمها الأمةُ المسلمةُ من حادث الإسراء والمعراج.
ومن هذه المعاني أن الإسلام الذي كلفت به هذه الأمةُ هو دينُ الأنبياء-عليهم السلام-قبلها، بيانًا لقوله تعالى:{إن الدين عند الله الإسلام} (1)، وقوله:{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (2).
فقد ربطت هذه الرحلة المباركةُ بين المسجدِ الحرامِ بمكة، حيثُ شهد دعوةَ محمد صلى الله عليه وسلم، ورفع قواعدَه إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السلام وبين المسجدِ الأقصى الذي شهد دعوةَ كثير من الأنبياء-عيسى ويحيى وزكريا وغيرهم- عليهم السلام، وكان قبلةَ محمدٍ الأولى.
فالإسلامُ هو الدين الذي يَضمُّ دعوةَ الرسلِ جميعًا، والأنبياء عليهم السلام إخوةٌ وإن تفاضلوا، ولذا صلى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم جميعًا (3).
أيها المسلمون! ينبغي أن تعلمَ الأمةُ من حادثةِ الإسراء والمعراج قيمة الذكرِ وأهميتَه، وأن تعيَ رسالةَ الخليلِ عليه السلام إليها وتعملَ بها، والرسولُ صلى الله عليه وسلم هو ناقلُ الرسالةِ ومبلغها، وفيها يقول: لقيتُ ليلَة أسري بي إبراهيم عليه السلام، فقال: يا محمد:
(1) سورة آل عمران، آية:19.
(2)
سورة الشورى، آية:13.
(3)
أحاديث الإسراء والمعراج دراسة توثيقية، د. رفعت فوزي ص 84.
أقْرِئ أمتَك مني السلام، وأخبرهم أن الجنةَ طيبةُ التربةِ، عذبةُ الماء، وأنها قيعانٌ، وأن غراسَها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
فأين الزارعون، وأين المستثمرون لهذه الوصية العظمى؟
عبادَ الله! حريٌّ بالمسلمين قاطبةً أن يتذكروا قدرَ الصلاةِ ومنزلتَها عند الله في كلِّ آن، وكلما قرءوا أو سمعوا عن حادثةِ الإسراء والمعراج، أجل لقد فُرضتِ الصلاةُ ليلةَ الإسراءِ والمعراج أمرًا مباشرًا من الله تعالى وهو في السماء، أما بقية أوامرِ الإسلام فقد نزل بها جبريلُ عليه السلام على محمد عليه الصلاة والسلام وهو في الأرض، وفي ذلك دلالةٌ على أهميةِ هذا الركنِ من أركان الإسلام- بعد كلمةِ الإخلاص- أن الصلاة رحلةُ الأرواحِ إلى اللهِ في كل يوم خمس مراتٍ، وليست مجردَ حركاتٍ لا لبَّ فيها ولا خشوع ..
إنها فواصلَ في رحلة العمرِ يقف بها العبدُ بين يدي اللهِ معلنًا عن عبوديتهِ بلسانه وقلبهِ وعملهِ ((إياك نعبد وإياك نستعين)) فإذا سها العبدُ عن هذه العبوديةِ في وقت من الأوقات، كانت الصلاةُ وسيلتَه للنظافة من هذه الأدرانِ التي علقت به (1).
ألا ما أسعَد الذين يستشعرون هذه المعاني في الصلاة فيؤدونها في أوقاتِها، محافظين على أركانها وواجباتِها وسننها-وويلٌ لمن فرّط في هذه الصلاةِ وَأضاعها وهي فريضةُ اللهِ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأمتهِ وهو في السماء، وهي آخرُ وصيةٍ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم لأمته وهو يودع الدنيا ((الصلاة الصلاةَ وما ملك أيمانُكم)).
معاشرَ المسلمين! لابد- رابعًا- أن تعيَ الأمةُ المسلمةُ قدرَ المعجزاتِ الربانية، وتدركَ أن في دينها قدرًا من المغيبات يستلزم الإيمانَ والتسليم، ويقفُ أبو بكرٍ
(1) من معين السيرة، صالح الشامي ص 117.
الصديقُ في طليعةِ الأمةِ حاملًا مشعلَ الإيمان دون ترددٍ أو ارتياب، ضاربًا أروعَ الأمثلةِ في التصديق واليقين فحين بلغه خبرُ الإسراءِ والمعراج لم يمنعه من التصديقِ إلا التوثق من صحة نسبته للرسولِ صلى الله عليه وسلم ((والله لئن كان قاله لقد صدق، وما يعجبكم من ذلك؟ فو الله إنه ليخبرني أن الخبرَ يأتيه من السماءِ إلى الأرض في ساعةٍ من ليلٍ أو نهار، فهذا أبعد مما تعجبون منه))، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألُه عن وصفِه، وكلما ذكر شيئًا قال: صدقت، أشهد أنك رسولُ الله، فقال صلى الله عليه وسلم وأنت يا أبا بكر الصديق، فيومئذٍ سماه الصديق (1).
إنه الصديقُ لم يسبق الأمة بكثير صومٍ ولا صلاة، ولكن بشيءٍ وقر في قلبه، فأثمرَ الإيمان واليقين- واستحق به فضلَ الصحبةِ والقرب من النبيِّ الكريم، عرف ذلك له المسلمون، وأفصح عنها الرسولُ صلى الله عليه وسلم:((لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا)).
ألا ما أحوجنا إلى إيمانٍ كإيمان أبي بكر يحمينا به اللهُ من الشكوكِ والارتياب ويدفعنا إلى عمل الصالحات بأنفس راضيةٍ مطمئنة.
وحين نذكر هذا الموقف الكريم للصديق فلا ينبغي أن يغيب عنا موقفُ الملأ من قريش، حين اتخذت من حادثةِ الإسراء والمعراج فرصةً للسخريةِ والاستهزاء، والسعي لصدِّ الناسِ وفتنتهم عن دين الله، وهو نموذج يتكرر مع كلِّ مستكبر أثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يصر مستكبرًا كأن لم يسمَعها .. وإذا طويت صفحةُ المستهزئين وجعل اللهُ العاقبةَ للمتقين فينبغي أن يكون ذلك تسريةً وتسليةً للمؤمنينَ في كل زمان ومكان، فلا يضيقوا ذرعًا بالمستهزئين الساخرين ولا يزيدهم ذلك إلا
(1) ابن هشام 1/ 399، والحاكم في مستدركه 3/ 62، معين السيرة ص 111.
ثباتًا على الحقِّ حتى يأتيهم اليقين.
عبادَ الله .. تلك وقفاتٌ ومعانٍ عاجلةٌ من النظرِ في حادثةِ الإسراء والمعراج، وذلك ومثلهُ خيرٌ وأنفعُ من التعلقِ بأمورٍ بدعيةٍ ما أنزل الله بها من سلطان، إذ يعتقد بعضُ الناسِ أفضليةً لرجب ليست لسواه، لوقوع حادثةِ الإسراء والمعراج فيه- ولم يثبت ذلك بطريق صحيح، ولو ثبت لما كان هذا مبررًا لتخصيصه بأنواع من العبادات إذا لم يثبت شيء من ذلك عن رسولِ الهدى صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام وهم بمواطنِ الخير أدرى، ولربهم منا أحبُّ وأتقى، بل جاء البلاغُ محذرًا عن الابتداع في دين الله ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
ألا فاستمسكوا معاشرَ المسلمين بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين من بعده، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل محدثةٍ في دين الله بدعة وكل بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
عصمني الله وإياكم من الابتداع، وهدانا للاتباع، وألهمنا رشدنا، ونفعنا بما علمنا .. هذا وصلوا ..