الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقاصد السفر في الإسلام
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
{ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (2).
{ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (3).
عباد الله! انقضت أيام الامتحانات، ونجح من نجح، وأخفق من أخفق .. وكما طويت هذه الصفحة من الحياة، وانتهت هذه المدة من العمر كلمح البصر، فستطوى صفحةُ العمرِ كلها وسيؤول الناس كلهم إلى امتحان صعب، الخسارة فيه لا تعوض .. والنجاح فيه خلود في النعيم إلى الأبد، وكم هم الذين تغرهم الأماني .. ويطول عليهم المد وتمتد بهم حبال الأمل والرجاء في هذه الحياة فينسون أو يغفلون عن هذه الحقائق الكبرى والمشاهد العظمى ليوم القيامة .. وإن يومًا عند وبك كألف سنة مما تعدون ..
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 25/ 2/ 1419 هـ.
(2)
سورة آل عمران، آية:102.
(3)
سورة الحشر، آية:18.
أيها المسلم! أما وقد انتهت الامتحانات وابتدأت الإجازة فكأني بك تفكر بالرحيل وتحزم أمتعةِ السفر، ناويًا لرحلة هنا أو هناك .. بمفردك أو بصحبة عائلتك، وإنني بهذه المناسبة أخاطبك مذكرًا .. وأُسائلك ناصحًا لا مُشهرًا، وأقول: لماذا، وإلى أين السفر؟ فذانك سؤالان مهمان قبل السفر، ولابد من استصحابهما أثناء السفر، وإنني إذ أدعو الله أن يحفظك ومن بصحبتك في حال حلِّك وترحالك فإنني أدعوك للتعرف على شيء من مقاصد السفر وأنواعه كشفها العلماء قديمًا.
قال أبو بكر بن العربي- رحمه الله عند قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} (1).
المسألة الرابعة: في السفر في الأرض، تتعدد أقسامه من جهات مختلفة، فتنقسم من جهة المقصود به إلى هربٍ أو طلب، وتنقسم من جهة الأحكام إلى خمسة: واجبٍ، ومندوب، ومباح، ومكروه، وحرام، وينقسم من جهة التنويع في المقاصد إلى أقسام، ثم ذكر أنواعًا ستةً- داخلة ضمن سفر الهرب- وهي كما ذكرها ابن العربي ونقلها محنه القرطبي: الأول: الهجرة، وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضًا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهي باقية مفروضة إلى يوم القيامة.
الثاني: الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسبُّ فيها السلفُ، قال ابن العربي: وهذا صحيح فإن
(1) سورة النساء، آية:101.
المنكر إذا لم تقدر أن تُغيره فزل عنه، قال تعالى:{وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} الآية (1).
الثالث: الخروج من أرضٍ غلب عليها الحرام، فإن طلب الحلال فرض. الرابع: الفرارُ من الأذية في البدن، وذلك فضل من الله أرخص فيه، فإذا خشي على نفسه فقد أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه لتخليصها من ذلك المحذور، وأول من فعله إبراهيم عليه السلام، فإنه لما خاف من قومه قال:{إني مهاجر إلى ربي} ، وقال:{إني ذاهب إلى ربي سيهدين} ، وقال مخبرًا عن موسى:{فخرج منها خائفًا يترقب} .
الخامس: خوفُ المرض في البلاد الوخمة، والخروجُ منها إلى الأرض النَّزهة، فقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا، وقد استُثني من ذلك الخروج من الطاعون .. كما جاء في الحديث الصحيح.
السادس: الفرارُ خوف الأذية في المال، فإن حرمة مالِ المسلم كحرمةِ دمه، والأهلُ مثلُه وأوكد.
أيها المسلمون! وإذا كان ما مضى في أنواع قسم سفر الهرب فقد قال العلماء: وأما قسم الطلب فينقسم إلى قسمين: طلب دين وطلب دنيا، فأما طلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام، وهي مهمة فتأملوها، هي:
أولًا: سفر العبرة، قال الله تعالى:{أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} (2)، وهذا كثير في القرآن، ويقال إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها، وقيل لينفذ الحق فيها،
(1) سورة الأنعام، آية:68.
(2)
سورة الروم، آية:9.
الثاني: سفر الحج وهذا فرض، الثالث: سفر الجهاد وله أحكامه، الرابع: سفر المعاش، فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه، الخامس: سفر التجارة والكسب الزائد على القوت، وذلك جائز بفضل الله، فإذا كانت نعمة منَّ الله بها في سفر الحج فكيف إذا انفردت. السادس: السفر في طلب العلم وهو مشهور، السابع: قصد البقاع الكريمة، قال صلى الله عليه وسلم:((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)) فك الله أسره من الاحتلال الصهيوني. الثامن: الثغور للرباط بها، وتكثير سوادها للذب عنها. التاسع: السفر لزيارة الإخوان في الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((زار رجل أخًا له في قرية فأرسل الله على مدرجته مَلكًا فقال: أين تريد؟ قال: أريد أخي في هذه القرية، قال: هل لك من نعمة تربها عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) (1).
يا أخا الإسلام! واسأل نفسك لأي من هذه الأغراض الطلبية تطلب السفر؟ ولا يفوتنك أن للنية أثرًا في ثواب السفر أو عقابه .. وفي كونه محرمًا أو واجبًا أو مندوبًا .. فقد يمكث الرجلُ في أرض بدعة أو مكان يطغى فيه الشر وينتشر
(1) رواه مسلم وغيره.
الحرام .. ولكن قصده مدافعة الشر والدعوة للخير .. فذلك مأجور على مجاهدته ودعوته.
ودونك هذا الحوار فتأمله، يقول أبو بكر بن العربي: قد كنت قلتُ لشيخنا الإمام الزاهد أبي بكر الفهري: ارحل عن أرض مصرَ إلى بلادك، فيقول: لا أحبُّ أن أدخل بلادًا غلب عليها كثرةُ الجهل، وقلةُ العقل، فأقول له: فارتحلْ إلى مكة أقم في جوار الله وجوار رسوله، فقد علمتَ أن الخروج عن هذه الأرض فرضٌ لما فيها من البدعة والحرام، فيقولُ: وعلى يدي فيها هدى كثير، وإرشاد للخلق، وتوحيد، وصدّ عن العقائد السيئة، ودعا إلى الله عز وجل. وتعالى الكلامُ بيني وبينه ..
قال أبو بكر مبينًا أهمية النية في السفر إثر تعداده أنواع السفر:
وبعد هذا فالنية تقلب الواجب من هذا حرامًا، والحرام حلالًا بحسب حسن القصد، وإخلاص السرِّ عن الشوائب (1).
إخوة الإسلام! من عجب أنكم لا ترون عند هؤلاء الأئمة ذكرًا للسفر من أجل المتعة المحرمة، أو النزهة المتحللة .. أفكان في المسلمين شغل عنها في زمنهم؟ أم أن أحوال المسلمين لم تنحدر إلى ما نراه اليوم في الواقع المنظور .. وأغراض السفر عند نفرٍ من أبناء المسلمين كما تعلمون إلى حدٍّ باتت الإعلانات تشهر لسفر مجموعة من النساء لأغراض تجارية .. وفي ثنايا الخبر لا يُستحى من ذكر الاحتفالات لهن واللقاءات المختلطة معهن في أكثر بلاد الدنيا تحررًا من الفضيلة وتمرغًا في أوحال الرذيلة .. بل وفي أشهر المدن بكثرة الجرائم والسطو على
(1) انظر: أحكام القرآن 1/ 484 - 487، تفسير القرطبي 5/ 349 - 351.
مستوى العالم، وإذا خرجتما النساءُ عن قيود السفر المباحة، فلا تسأل عن سفر فئة من الشباب والرجال .. اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وإيماننا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (1).
(1) سورة الحج: آية 46.