الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
أما بعد أيها المسلمون، فإن حدود الله هي أحكام الشرع، فكأن حدود الشرع فواصل بين الحلال والحرام (1).
وقد جاء في الحديث السابق: ((وعلى جنبتي الصراط سوران)) ثم فسَّرها بحدود الله، والمراد أن الله تعالى حدَّ حدودًا ونهى عن تعديها، فمن تعداها فقد ظلم نفسه، وخرج عن الصراط المستقيم الذي أُمر بالثبات عليه، ولما كان السور يمنع من وراءه من تعديه ومجاوزتة سمّى حدود الله سورًا؛ لأنه يمنع من دخله من مجاوزته، وتعدي حدوده .. قال تعالى:{تلك حدود الله فلا تعتدوها} (2)، وقال تعالى:{تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} (3).
يا أخا الإسلام! هكذا تُشبه حدود الله بالأسوار، وهذه الأسوار مع عظمتها وكفايتها للمنع عن الوقوع في المحرمات لمن عقل، فقد جعل الله فيها أبوابًا مفتحة
(1) جامع الأصول 1/ 274، 275.
(2)
سورة البقرة، الآية:229.
(3)
سورة النساء، الآيتان: 13 - 14، (مثل الإسلام لابن رجب ص 27).
وعليها ستور مرخاة، فيها مزدجر لمن أحيا الله قلبه فلا يَلجها، وفيها متسع للولوج لمن طغى وآثر الحياة الدنيا.
وهكذا يُمتحن الناس بولوج هذه الأبواب ذات الستور المرخاة، أو الامتناع عن دخولها طمعًا في ثواب الله ورجاء موعوده، وكذلك تكون الشهوات المحرمة فإن النفوس متطلعة إليها وقادرة عليها، وإنما يمنع منها مانع الإيمان خاصة، قال العارفون: والمحرمات أمانة من الله عند عبده، والسمع أمانة، والبصر واللسان أمانة، والفرج أمانة وهو أعظمها، وكذلك الواجبات أمانات، كالطهارة والصلاة، والصيام وأداء الحقوق إلى أهلها (1).
ومع ثقل هذه الأمانات وصعوبتها على النفس أحيانًا، إلا أن الله جعل الجزاء عليها عظيمًا والمغنم كبيرا {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} (2).
يا أخا الإسلام! في ظل هذه المعركة والجهاد مع النفس والهوى فقد أمدك الله بداعيين هما لك عون على الاستقامة على الصراط المستقيم، هما: القرآن وواعظ الله في قلب كلِّ مسلم- كما جاء بيان ذلك في الحديث السابق-.
وكم في كتاب الله من موعظة وذكرى وترغيب وترهيب، وزواجر ونواهٍ، وأمثال مضروبة وقصص فيها عبرة ومثانٍ، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربَّهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ولو نزِّل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله، قال بعض السلف: من لم يردعه القرآن والموتُ لو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع.
(1) المرجع السابق، 36، 37.
(2)
سورة النازعات، الآيتان: 45، 41.
وقال مالكٌ: فُتحت المدينة بالقرآن، والمعنى: أن أهلها إنما دخلوا في الإسلام بسماع القرآن (1).
ألا فاتعظوا بالقرآن، واستمعوا لندائه حين يناديكم:{ياأيها الذين آمنوا} فإما خير تؤمرون به، أو شرّ تنهون عنه، تذكروا واعظ القرآن في مثل قوله تعالى:{ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا * وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا * ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} (2).
أيها المسلمون! عظموا واعظ الله في نفوسكم راقبوه في حال خلوتكم أو اجتماعكم، واجعلوا من أنفسكم عليكم رقيبًا، فالإسلام نقى فلا تدنسوه بآثامكم، والكرام الكاتبون شهود فلا تشهدوهم على سوآتكم والألسن والأيدي والأرجل ستنطق بما كسبتم فلا تفضحوا أنفسكم بأنفسكم ولا تظنوا أن الله غافل عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
يا أخا الإسلام! يضعك هذا الحديث وأمثاله أمام رقابة ذاتية لله، وإن فتحت لك أبواب الشهوات والمحرمات -لكن المسلم- يتصور داعي الله يهتف به، ويستشعر واعظ الله في نفسه يردعه كلما ضعفت نفسه، فلا يهتك أبواب الحرام وإن لم يكن بينه وبينها إلا ستور مرخاة.
يا أخا الإسلام! بإمكانك أن تعلم منزلة القرآن في قلبك إن كنت ممن استجاب لدعوته في سلوك الصراط المستقيم، وإن كانت الأخرى فعالج نفسك واستقم على
(1) مثل الإسلام 43.
(2)
سورة الكهف، الآيات: 47 - 49.
أمر ربك، وإذا أردت امتحان واعظ الله فيك فانظر مدى وقوفك عند حدود الله معظما حتى وإن أتيحت لك الفرصة وخلا لك الجو أمنا.
يا أخا الإيمان! إني أعظك ونفسي بلزوم الصراط المستقيم في هذه الحياة حتى وإن خيل لك الشيطان صعوبته أحيانا وضيقه أحيانا أخرى فذلك ضمان بإذن الله لمجاوزة الصراط الدقيق غدا.
قال سهل التستري: من دق على الصراط في الدنيا عرض له في الآخرة، ومن عرض له في الدنيا الصراط دق عليه في الآخرة.
والمعنى: أن من صبر نفسه على الاستقامة على الصراط، ولا كف شيئا من الستور المرخاة على جانبيه، وعبَّ من الشهوات ما شاءت نفسه دق عليه الصراط في الآخرة، فكان عليه أدق من الشعر.
اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، واسلك بنا صراطك المستقيم يا رب العالمين.