الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) حسن الوفاء وقضاء الحقوق
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
{ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (2)
إخوة الإسلام! لا يزال الحديث متصلًا عن الوفاء بالعهود واحترام العقود، فتلك الشعيرة من شعائر الدين، والخلق النبيل من أخلاق أهل المروءة والدين، أجل لقد كان الوفاء وصدق الوعد واحدًا من أخلاق الأنبياء عليهم السلام {وذاكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا} (4).
والوفاء جزء من الإيمان، فقد جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وصححه وأقره الذهبي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال. ((إن حسن العهد من الإيمان)).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/ 6/ 1418 هـ.
(2)
سورة آل عمران، آية:102.
(3)
سورة الأنفال، آية:29.
(4)
سورة مريم، الآية:54.
وجاء في كلام العرب: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت إخوته (1).
ويظل الوفاء يلازم المؤمنين وهم يُحتضرون، فقد ورد أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حين حضرته الوفاة قال: إنه خطب إليَّ ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق، أشهدكم أني قد زوجته ابنتي. وهو بذلك يشير إلى حديث:((ثلاث من كن فيه فهو منافق .. )) (2).
أيها المسلمون! هذا ومما مضى هو ميزان الحقِّ والدين في الوفاء بالعهود واحترام العقود، وإن وجد في دنيا الناس أن الغدر والمماطلة ونقض العهود نوع من الحنكة والدهاء والألمعية والشطارة؟ ولكن يظل الحقُّ مطلبًا، والأوفياء نماذج تُحتذى.
عباد الله! هناك ممارسات خاطئة في أدب المعاملة، فقد تجد جاهلًا يحسب أن الدين علاقة بين العبد وربِّه فحسب، فتراه يُقيم الفرائض وربما أتبعها النوافل، لكنه لا يقيم وزنًا للتعامل مع عباد الله، لا يرعى حقوقهم، ولا يؤدي لهم واجباتهم، يعتدي على حقِّ هذا، ويُماطل في حقِّ آخر، ويشتم ثالثًا، ويضرب رابعًا .. الحلالُ ما حلَّ بيده، والحرام عنده ما عجز عن الحصول عليه ذلك صنف حُكم عليهم بالإفلاس وسماهم الر سول صلى الله عليه وسلم بالمفلسين، كما جاء في حديث:((أتدرون من المفلس؟ )) إنها مفاهيم خاطئة لا يسأل عنها الدين، وسلوكيات منحرفة من الظلم أن يشوه بها تاريخ المسلمين.
(1) فقه السنة، سيد سابق 2/ 699.
(2)
المرجع السابق 2/ 701.
أين هؤلاء من قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} (1)، والخطاب بهذه الآية- كما يقول القرطبي يرحمه الله- يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا: القمار، والخداع، والمغصوب، وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، وما حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغي، وحُلوان الكاهن، وأثمان الخمور والخنازير، وغير ذلك (2).
أيها المسلمون .. من الفهوم الخاطئة في المعاملات والحقوق الآدمية ظنُّ بعض الناس أن حكم القاضي له على خصمه يُصيِّر الحرام حلالًا، والباطل حقًّا، وليس الأمر كذلك.
قال العلماء: ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالًا بقضاء القاضي؛ لأنه يقضي بالظاهر، فقد يكون أحدُ الخصمين ألحن بحجته من الآخر، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحذر من هذا المسلك الخطر ويقول:((إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار))، وفي رواية:((فليحملها أو يذرها)). قال القرطبي: وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء، وأئمة الفقهاء (3).
عباد الله! أين المتأكلون للأموال بالباطل من قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا
(1) سورة البقرة، الآية:188.
(2)
تفسير القرطبي 2/ 338
(3)
المرجع السابق 2/ 338.
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} (1). إن هذه الآية كما ترد على من أنكر طلب الأقوات بالتجارات والصناعات المباحة كالمتصوفة الجهلة.
ففيها كذلك حد لأولئك الشرهين الآكلين للأموال بالباطل وهل يقتل العقلاء أنفسهم؟ ذلك شأن الذين يتجاوزون الحلال إلى الحرام، ويقتلون أنفسهم بالحرص على الدنيا وطلب المال بطرق غير مشروعة (2).
عباد الله! لأهمية المعاملة بالحسنى في البيع والشراء والقضاء والاقتضاء، ورد الثناء على التجار الصادقين الأمناء وجاء الذم للتجار الفجار، الآثمين في حلفهم، الكاذبين في حديثهم، روى الترمذي، والدارقطني عن أبي سعيد، وابن عمر رضي الله عنهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة))، والحديث وإن كان فيه ضعف فقد قواه العلماء بأحاديث أخرى (3).
وروى الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن شبل مرفوعًا ((إن التجار هم الفجار))، قالوا: يا رسول الله: أليس الله قد أحلَّ البيع؟ قال. ((بلى؟ ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدثون فيكذبون)) (4).
وجاء الدعاء لأهل السماحة في البيع والشراء بقوله صلى الله عليه وسلم ((رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى)) (5).
(1) سورة النساء، الآية:29.
(2)
تفسير القرطبي بتصرف (5/ 156).
(3)
شرح السنة للبغوي 8/ 4، تفسير القرطبي 5/ 156، جامع الأصول 1/ 431.
(4)
وقد جوّد المنذري إسناده وصححه الحاكم، جامع الأصول 1/ 432.
(5)
رواه البخاري وابن ماجه (صحيح الجامع 3/ 175).
أيها التاجر! اختر لنفسك ما تشاء، وأنت خليق بأن تكون من التجار الأمناء، ويكفيك فخرًا رفقة الأنبياء، وإياك أن تبخل على نفسك بالأجر، وإن احتاج الأمر منك إلى مجاهدة وذلك بأن تنظر المعسر وتُقيل المستقيل، وتيسر على الموسر، فقد أخرج البخاري ومسلم عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن رجلا ممن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه فقال: هل عملت من خير؟ قال. ما أعلم، قيل له: انظر، قال: ما أعلم شيئًا، غير أني كنت أُبايع الناس في الدنيا فأنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر، فأدخله الله الجنة)) (1).
أما فضل الإقالة والتفريج على من ندم على اتفاق أبرمه ورغب بالحسنى إقالته، ففد أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من أقال مسلما أقال الله عثرته)) (2).
أيها المسلمون! أغنياء أو فقراء كنتم، ودونكم وصية محمد صلى الله عليه وسلم فاعلموها واعملوا بمقتضاها، وهو القائل:((أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حلَّ ودعوا ما حرَّم)) (3).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} (4) نفعني الله وإياكم بما سمعنا، وأستغفر الله لي ولكم.
(1) جامع الأصول 1/ 438.
(2)
جامع الأصول 1/ 440.
(3)
رواه ابن ماجه وغيره بسند صحيح (صحيح سنن ابن ماجه 2/ 6).
(4)
سورة الأنفال، الآية:27.