الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبر من قصص السابقين
(1)
المهاجر الطيار
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أوصي نفسي وإياكم معاشر المسلمين بتقوى الله، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب .. ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا.
إخوة الإيمان! يروعك في قصص السابقين الأولين من المسلمين .. الصدق في إيمان أصحابها .. وعلوّ الهمم في حياتهم، والتضحية بالغالي والرخيص في سبيل نُصرة هذا الدين.
وبين أيدينا اليوم أنموذج فذّ .. انخرط في سلك المؤمنين وهو بعدُ في ريعان الشباب، فعاش في مكة ظروف الدعوة الصعبة في أيامها الأولى ثم كانت الهجرة الأولى في الإسلام .. فكان في طليعة المهاجرين .. وأي غم بعد الشقة. وآلام الغربة .. فقد أمضى المهاجر الشهيدُ الطيار أربعة عشر عامًا في بلاد الحبشة .. أي ما يؤيد على ثلث عمره رضي الله عنه وأرضاه .. أو ما يقرب من نصف عمره على
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/ 11/ 1418 هـ.
القول بأنه استشهد يوم أن استشهد في مؤته وعمره ثلاث وثلاثون سنة (1)، عرفته بلاد الحبشة مهاجرًا دائمًا .. وعرفه الأحباش خطيبًا صادق اللهجة، قوي الحجة، داعيًا إلى الله، مدافعًا كذب الخصوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولِمَ يعجب المرء من قريش وقادتها وهم لا يكتفون بإخراج المؤمنين من مكة .. ويضطروهم للهجرة من ديارهم .. بل تظل مطاردتهم خارج بلادهم .. فما أن استقرَّ أصحابُ الهجرة في الحبشة حتى بعثت قريش في إثرهم وفدًا يشي بهم عند النجاشي، ويشوه صورتهم، قائلين: إن أناسًا من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك .. وقد بعثنا إلى الملك أشراف قومهم ليردوهم إليهم (2).
ولكن الأعجب من ذلك موقف المؤمنين وثباتهم، وقناعتهم ودفاعهم عن عقيدتهم، وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه خطيبهم .. فلا يتلعثم ولا يتردد في شرح مفاهيم الدين الحق، ووصف الرسول المبعوث بالحق -حتى إذا أكمل جعفر حديثه لم يتمالك النجاشي نفسه من إظهار الإعجاب بحديثه، والاعتراف بصدق مقولته.
وحين نجح المسلمون .. بقيادة -جعفر رضي الله عنه في هذا الامتحان الصعب .. فثمة موقف أصعب .. وعمرو بن العاص داهية العرب، ومبعوث قريش حينها، يحاول جاهدًا إثارة الوقيعة بين الأحباش النصارى .. وبين وفد المهاجرين المسلمين في قضية عقدية، الخلاف فيها بين المسلمين والنصارى كبير جدًّا .. تلك هي: عقيدة المسلمين الحقة في المسيح عيسى ابن مريم .. وعقيدة النصارى الكافرة وعيسى ابن مريم .. كما قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} (3).
(1) زاد المعاد 3/ 383.
(2)
السيرة لابن هشام 1/ 413، الحلية 1/ 114.
(3)
سورة المائدة، آية:17.
وهنا دُعي المسلمون المهاجرون للسؤال عن هذا الأمر العظيم، وبلغ بهم من الشدة والكرب ما عبروا عنه بقولهم:«ولم ينزل بنا مثلها قط» ، واجتمعوا يتشاورون فيمَ يقولون؟ وتتفق الروايات كلها على صدق المسلمين في حديثهم، وثباتهم على معتقدهم رغم الظروف الصعبة، ويتفقون على القول: ونقول -والله- ما قال الله عز وجل، وما جاءنا به نبينا كائنًا في ذلك ما كان (1).
ومن يتق الله يجعل له مخرجًا .. وعجبك يشتد حين تعلمُ أن الحبشة النصرانية في معتقدها .. يُذعن قادتها للحق، ويقول النجاشي، على إثر سماعه مقولة جعفر في معتقدهم في المسيح بأنه عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .. وقد أخذ عودًا من الأرض فرفعه ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، ما تريدون ما يسوؤني هذا، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته فأكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضؤه، ثم قال للمهاجرين: انزلوا حيث شئتم، وأمر بهدية الآخرين -من قريش- فردت عليهم ورجع وفد قريش مقبوحين (2).
ورغم هذا النصر العظيم، ورغم الأنس بعدل النجاشي وجواره تظل الغربة عن الأهل والوطن هاجسًا للمهاجرين .. كيف لا وهم في منأى عن جوار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا يسمعون حديثه، ولا يدرون عن حاله ولا يبلغهم في حينه ما يبلغ المسلمين من تشريعات نازلة، إلا ما تتناقله الرواة بعد حين من الدهر .. ومع ذلك كله ظل جعفر صابرًا محتسبًاه .. ويولد له في الحبشة عبدالله، ومحمد، وعون .. (3).
(1) السيرة لابن هشام 1/ 416.
(2)
سير أعلام النبلاء 1/ 207.
(3)
الطبقات 8/ 281.
وتظل معه زوجته الوفية (أسماء بنتُ عميس رضي الله عنها تشاركه المهمة .. وإن كانت تُحس بآلام الغربة، ولكنها وزوجها -والمهاجرين معهما- يحتسبون ذلك عند الله وتُعبر عن ذلك صراحة في حوارها مع الفاروق عمر رضي الله عنه قائلة: كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يُطعم جائعكم ويعلم جاهلكم، وكنا في دار البعداء البغضاء وذلك في الله وفي رسوله (1).
أخوة الإسلام! حين يمتد بنا الحديث عن جوانب من حياة المهاجرين عامة، وحياة جعفر خاصة .. لا نرى أثرًا سلبيًّا للغربة في حياتهم، بل نجد حياتهم تُقضى في العبادة والدعوة .. والعلم والتعليم وكم في حياة جعفر ومن معه في الجيش من دروس موقظة وعبر تستحق الوقفة .. والفرق كبير بين جعفر في أداء مهمته في بلاد الحبشة .. وبين أعداد من شباب الأمة يذهب الذاهبُ منهم فترة من الزمن لا أقول غريبًا عن وطنه بل بعيدًا بعض الشيء عن أهله وخلانه، فيشعر بالغربة ويتطلع دائمًا للعودة .. وأنى له وهو في هذا الشعور أن ينتفع أو ينفع اللهُ به في تعليم كتاب الله، أو في الدعوة لدين الله - كما صنع جعفر والمهاجرون معه من قبلُ.
ويكفي المهاجرين فخرًا .. أن تصل دعوتهم إلى بلاط النجاشي ..
وفي مجلسه كتاب الله يُتلى .. وأمر الإسلام يُعظَّم في هذه البلاد النائية والنجاشي يُعلن إسلامه .. أو يُسر به لمصلحة لا تخفى، وتظل جهودُ المهاجرين في الحبشة ثمارًا يانعة يقتات منها الأفارقة .. والأشجار التي غرسوها ذات ظلال وارفة لا يزال أهل تلك الديار وما جاورها يستظلون بظلها ..
وفي جوانب العلم والتعليم تحدثنا الروايات أنهم كانوا يجتمعون في الحبشة
(1) متفق عليه، البخاري 5/ 80، ومسلم 4/ 1946.
للفائدة .. وقد رُئي جعفر رضي الله عنه وهو بين أظهر أصحابه يُحدثهم ..
أجل لا مكان للدعة .. ولا مجال للفراغ عند هؤلاء المهاجرين المجاهدين .. فإذا لم تكن الفرصة لدعوة غيرهم للإسلام فلتكن الفرصة للمهاجرين بينهم للاجتماع لتقوية إيمانهم والتواصي بينهم بالحق والصبر.
وهكذا يظل جعفر ومن معه ينتظرون إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالعودة .. حتى إذا وضعت الحرب أوزارها مع قريش، وكانت هدنة الحديبية مؤشرًا لضعف قريش واعترافها بقوة المسلمين التفت المسلمون بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم إلى تعميم الدعوة وإرساء قواعد الدولة -وهنا يحتاج المسلمون إلى كل طاقة- ولا يستغنون عن أي عنصر .. وحينها كتب الرسول صلى الله عليه وسلم للنجاشي في طلب جعفر وأصحابه فحملهم النجاشي على سفينتين -وحين وصلوا المدينة كان المسلمون قد فتحوا خيبر- فلم يتمالك رسول الله صلى الله عليه وسلم حينها أن يبدي سرورَه بمقدم جعفر وأصحابه وحين رآه قبّل ما بين عينيه وقال:«لا أدري بأيهما أُسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر» .
ورغم ما يمثله هذا الشعور الكريم من طيب خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن معاملته ومكافأته لأصحابه -فجعفر ومن معه يستحقون الحفاوة والتكريم، وقد خلفوا آثارًا طيبة في الحبشة- ويكفيهم أن غربتهم استمرت من السنة الخامسة أو السادسة للبعثة إلى أن كانت السنةُ السابعة للهجرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} (1).
(1) سورة النحل، آية:41.