الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد للهِ المستحق للعبادةِ على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ربُّ الشهورِ والأعوام، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله جاءه الوحي من ربّه {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
أما بعد: إخوةَ الإسلام فقد عودكم شهرُ الصيام على الاقتصاد في الطعام والشراب، ومدرسةُ الصوم علمتكم الإقلالَ من الكلام الفارغ معوضين عن ذلك بكثرة الذكر وتلاوةِ القرآن، كما كان من نسماتِ رمضان التخلصِ من خلطةِ السوءِ التي لا يَسلمُ الصوم معها من اللغو والرفث والفسوق والعصيان، كما أحوجكم طولُ القيام إلى تقليلِ ساعات النوم حتى قلَّ معدلُ النومِ في شهرِ رمضانَ عنه في غيرِ رمضان .. تُرى أيُّ نَصيبٍ يُحافظ عليه من هذه بعد انقضاء شهر الصيام .. والعارفون يقولون: إن مفسداتِ القلب على الدوام خمسةُ أشياء هي: كثرةُ الخلطة، والتمني، والتعلقُ بغير اللهِ والشبعُ، والمنام، فهذه الخمسةُ من أكبر مفسداتِ القلب.
فأما كثرةُ الخلطةِ فتملأُ القلبَ من دُخانِ أنفاسِ بني آدم حتى يَسودَّ، ويوجبُ له تشتتًا وتفرقًا، وهمًّا وغمًّا، وضعفًا، وحملًا لما يعجز عن حمله من مؤنةِ قرناءِ السوءِ، وإضاعة مصالحه، والاشتغالِ عنها بهم وبأمورهم، وتَقَسُّم فكرهِ في أوديةِ مطالبِهم وإرادتهم، فماذا يبقى منه للهِ والدارِ الآخرة؟ وكم جلبت خلطةُ الناسِ- من أجلِ الدنيا- من نقمةٍ ودفعت من نعمة.
والضابطُ النافع في أمرِ الخلطةِ أن يخالطَ الناسَ في الخيرِ، كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلمِ العلم، والجهادِ والنصيحة، ويعتزلهم في الشرِّ
وفضولِ المباحات، فإن دعت الحاجةُ إلى خلطتهم في الشر ولم يمكنهُ اعتزالُهم فالحذرَ الحذرَ أن يوافقَهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لابد أن يؤذوه إن لم له قوةٌ ولا ناصر، ولكنه أذىً يعقبه عزٌّ ومحبةٌ له وتعظيم وثناءٌ عليه منهم ومن المؤمنين ومن ربّ العالمين، وموافقتُهم يعقبه ذُلٌّ وبغضٌ له ومقتٌ وذمٌ منهم ومن المؤمنين ومن ربِّ العالمين.
أما المُفسدُ الثاني هو التعلق بغيرِ الله تبارك وتعالى، وهذا أعظمُ مفسداتِ القلب على الإطلاق، فإن من تعلق بغير اللهِ وكله اللهُ إلى ما تعلق بهِ، وخذله من جهةِ ما تعلقَ به، وفاته تحصيلُ مقصوده من اللهِ عز وجل، فلا على نصيبه من الله حصل ولا إلى ما أمَّله ممن تعلق به وصل، قال تعالى:{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا* كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدًا} (1).
قال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون * لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون} (2).
ومثلُ المتعلقِ بغير اللهِ كمثلِ المستظلِّ من الحرَّ والبرد ببيت العنكبوت، {وإن أوهن البيوت العنكبوت لو كانوا يعلمون} ، وكيف لا يكون ذلك كذلك وأساسُ الشركِ وقاعدتهُ التي بُنيَ عليها التعلقُ بغيرِ الله، ولصاحبه الذمُّ والخذلان، كما قال تعالى:{لا تجعل مع الله إلهًا آخر فتقعد مذمومًا مخذولّا} (3).
أيها المؤمنون! من مفسدات القلب كثرةُ الطعامِ، والمفسدُ له من ذلك نوعان: أحدُهما ما يُفسده لعينهِ وذاته كالمحرمات كالميتةِ والدم ولحم الخنزير، والمسروق
(1) سورة مريم، الآيتان: 82، 81.
(2)
سورة يس، الآيتان: 75، 74.
(3)
سورة الإسراء، آية:22.
والمغصوب ونحوها، والثاني ما يُفسده بقدره وتعدي حدِّه كالإسرافِ في الحلالِ والشبعِ المُفرطِ، فإنه يُثقله عن الطاعات، ويشغله بمزاولةِ مؤنةِ البطنةِ حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها شغله بمزاولةِ تصرفها ووقايةِ ضررها، وقوى عليه موادَّ الشهوة، ووسع مجاري الشيطان، وقد قيل: من أكل كثيرًا، شربَ كثيرًا، فنام كثيرًا، فخسر كثيرًا، من مشكاة النبوة قبسٌ يهدي ويقول عليه الصلاة والسلام:((ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنه، فحسب ابنِ آدمَ لقيماتٌ يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلًا فثلثٌ لطعامه، وثلث لشرابه وثلثٌ لِنَفَسِه)).
أيها المسلم والمسلمة أما المفسدُ الرابعُ من مفسداتِ القلب فهو كثرةُ النومِ، فإنه- كما قال العارفون- يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوَقت، ويورث كثرةَ الغفلةِ والكسل، ومنه المكروهُ جدًّا، ومنه الضارُّ غيرُ النافعِ للبدن، وأنفعُ النوم: ما كان من شدةِ الحاجةِ إليه، ونومُ أول الليلِ أحمدُ وأنفعُ من آخره، ونومُ وسطِ النهارِ أنفعُ من طرفيه، وكلما قربَ النومُ من الطرفين قلَّ نفعهُ، لا سيما نومَ العصرِ وأولِ النهارِ إلا لسهران، ومن المكروهِ عندهم النومُ بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقتُ غنيمةٍ، وللسيرِ ذلك الوقت عند السالكين مزيةٌ عظيمةٌ، لو ساروا طولَ ليلهم لو يسمحوا بالقعودِ عن السيرِ ذلك الوقتِ حتى تطلعَ الشمس، فإنه أولُ النهارِ ومفتاحُه، ووقتُ نزولِ الأرزاقِ، وحصولُ القسم، وحلولُ البركة، ومنه نشأ النهار .. كما قالوا: إن أعدلَ النومِ وأنفعه نومُ نصفِ الليلِ الأولِ، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثمانِ ساعات، وذلك بعد أن تذهب فحمةُ العشاءِ وإذا كانت كثرةُ النومِ تورد هذه الآفات، فمدافعتهُ وهجره تورث آفاتٍ أخرى عظامًا من سوءِ المزاج وانحرافِ النفسِ، وجفافِ الرطوباتِ المعينةِ على الفهمِ والعملِ، وأمراضٍ أخرى، وما قام الوجودُ إلا بالعدل، وكلا طرفي قصد الأمورِ ذميم.
أما المفسدُ الخامسُ للقلب فهو التمني، وسبقت الإشارة إليه (1).
عبادَ الله يا من روضتم أنفسكم خلال شهرِ الصوم على كثيرٍ من خلالِ الخير إياكم أن تعفوا أثرَها بعد، ويا من خرجتم من شهرِ رمضان وصحائفكم بيضاء إياكم أن تسودوها فيما تستقبلون من أيام، أجل لقد هذّب الصيامُ نفوسَكم وساهم قيامُ الليل في إصلاحِ قلوبكم، فلا تفسدوها بالبطر والأشرِ ولا تدنسوها بالفسادِ وسيءِ الأخلاقِ ..
توسطوا في مطعمكم ومشربكم ومنامكم واعتصموا تعكم، وأديموا الصلةَ بكتابِ ربِّكم، ولا يقعدن بكم الشيطانُ عن الصلواتِ المكتوبة ويمسك بأيديكم عن النفقاتِ الواجبةِ أو المستحبةِ، استحضروا التوبةَ في كلِّ أوان وزمانٍ في حياتكم واعملوا بها بمفهومها الواسع (تركًا للمحظور، وفعلًا للمأمور) وأكثروا من الاستغفار فمن أكثر منه جعل الله له من كلِّ همٍّ مخرجًا، ومن كلِّ ضيقٍ فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب كذلك ورد الخبرُ عن نبيّكم صلى الله عليه وسلم (2).
وأتبعوا السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((مثلُ الذي عمل السيئاتِ ثم يعملُ الحسناتِ كمثلِ رجلٍ عليه درعٌ ضيقةٌ قد خنقته، فكلما عمل سنةً انتقضت حلقةٌ ثم أخرى حتى يخرج إلى الأرض)) (3).
اللهم إنا نسألُك بأنا نشهدُ أنك أنت اللهُ الذي لا إله إلا أنت، الأحدُ الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن تتقبل صيامنا وقيامنا وتصلح فسادَ
(1) مدارج السالكين 1/ 488 - 494 باختصار.
(2)
التوبة وسعة رحمة الله ص 124.
(3)
رواه أحمد والطبراني، وقال الهيثمي: وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح (السابق ص 124).
قلوبنا واحفظنا في سائر أيامنا وأحوالنا، وألا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وأن تفتح لنا خزائنك ما به تغنينا وتصلح أحوالنا، وأن تفيء على إخواننا المسلمين من جودك ما تفرج به همومهم وتطعم جائعهم وتكسي عراهم وتفك أسراهم.