الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البيوت الوهمية
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن آله المؤمنين وصحابته الميامين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فأما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا، ومن يتق الله يُكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا.
عبادَ الله! يظن بعض الناس ظنًّا خاطئًا أن الحياة الدنيا لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر في المال والولد لا أكثر، ولئن جاء وصفها كذلك في كتاب الله فإنما جاء ذلك توهينًا لأمرها وبيانًا لحقارتها، ولكنها ليست كذلك بالنسبة للمسلم، والذي يراها مزرعةً للآخرة، ويعلمُ علمَ اليقين أن عاقبتها إما إلى مغفرة ورضوان أو عذاب شديدٍ ونيران {وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (2).
وحين يُخيل لآخرين أن الحياة طيشٌ وعبث، وضياع للأوقات وانتهاك
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 8/ 1417 هـ.
(2)
سورة الحديد، آية:20.
للمحرمات، وزهدٌ في العبادات والطاعات .. يراها آخرون ميدانًا للتنافس في الطاعات، وسُلَّمًا للجنان وأعالي الدرجات يراها العالِمون العبودية الحقة لربِّ العالمين، وقد جاءهم من ربهم اليقين {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (1)، ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{إلا ليعبدون} أي: إلا ليُقروا بعبادتي طوعًا أو كرهًا، وهذا اختيارُ ابن جرير رحمه الله (2).
كما ورد في بعض الكتب الإلهية يقول الله تعالى: «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفَّلتُ برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كلَّ شيء، وإن فتك فاتك كلّ شيء، وأنا أحب إليك من كلِّ شيء» (3).
أيها المسلمون! يتسعُ مفهوم العبادة في الإسلام ليشمل أمور الدنيا والآخرة، ويدخل فيها مع حسن القصد والنية رعاية الأهل والولد، والبحث عن الأسباب المشروعة للرزق، وفي شريعة الإسلام يُسأل العبدُ عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه .. (4).
وليس للمسلم أن يُطلق لعينيه النظر كيف يشاء، ولا لأذنيه السمع كيفما اتفق، فكل أولئك كان عنه مسؤولًا.
عباد الله! نُذكر بهذا تنبيهًا وتحذيرًا من ظاهرة بدأت تسري في المجتمع، وانساق لها عدد من الشباب والرجال، تُهلك بها الأوقات، وتضيع فيها الحقوق والواجبات، ويغيب فيها القيِّمون على الأهل والأبناء والبنات. حديث اليوم عن
(1) سورة الذاريات، آية:56.
(2)
تفسير ابن كثير 4/ 386.
(3)
السابق 4/ 387.
(4)
حديث حسن رواه الترمذي، صحيح الجامع 6/ 148.
البيوت الوهمية لبعض الناس وعن العزلة عن الأهل والعشيرة -إنه حديث عن الجلسات المطوّلة في الأحواش وتحذير عن طول المكوث والسهر بلا فائدة في الاستراحات.
إنها ظاهرة تستحق الوقفة والعلاج حين يُسرف فيها المسرفون، وتكون سلوكًا مستديمًا يحجب الزوج عن أهله وأولاده، أو يغيب فيها الابن طويلًا عن بيته وأبويه وإخوانه، أو تشلُّ الموظف عن إتمام عمله، أو تعيق المعلم عن الوفاء بمتطلبات وظيفته، أو تقطع المتسبب عن البحث عن مواطن رزقه أو تكون على الأقل مادةً للاجتماع على أمورٍ محرمة، إن الحديث موجه لأولئك الذين يقضون معظم أوقاتهم في هذه الاستراحات وبشكل مستديم دونما فائدة، ولا يعني الحديث أولئك الذين ربما خرجوا للاستجمام والنزهة أحيانًا، أو مصطحبين معهم أهليهم وأولادهم لمامًا وفي مناسبات معينة.
أيها المسلمون! كم ضاعت أسرٌ حين غاب عنها القيِّمون وما ظنكم ببيت يغيب عنه الولي شطرًا من النهار، وزلفًا من الليل وإلى ساعاتٍ متأخرة في الليل .. أين القوامة وأين الشعور بالمسؤولية .. وهل يظن أولئك المفرطون أن البيوت مشتملة على قطعانٍ من المواشي والأنعام، ليس لها إلا أن يُوفر لها الماء والمرعى؟ كلا فالمسؤولية عظيمة ودور الرجل في البيت لا يُعوض، وكيف يطيب طول المكوث والأُنس بعيدًا عن الأهل والوالد والولد، ولو قُدر عليهم حادثٌ لضاقت بهم المهاجر .. وهل ترضى أيها العاقلُ الحرُّ الكريم أن يقضي الناس حوائج أهلك وأنت في سهر ولهو ولعب؟ وأسوأ من هذا لو وقع انحراف في بيتك لا قدر الله -نظرًا لطول غيبتك وضعفِ رقابتك- فهل ترى غيرك مسؤولًا أمام الله عنها؟
إننا كثيرًا ما نتحدث عن فساد الزمان وضياع الشباب، وانحراف الفتيات،
ونجيد في إلقاء اللوم على غيرنا، وننسى أننا نُسهم أحيانًا في هذا الفساد والضياع بضعف أدوارنا في بيوتنا وبين أبنائنا وأهلينا وعشيرتنا، وهل يستطيع العدو أن يخترق البيوت المحصَّنة؟
عباد الله! المسلم مسؤول أمام الله عن ضياع الأوقات بلا فائدة، فليس الوقت عبئًا ثقيلًا يلقيه المرءُ عن كاهله كيفما اتفق بل هو في حسِّ المسلم مزرعة للآخرة .. وطريق موصل إلى الجنة أو النار، ويرحم الله أقوامًا كانوا ولا زالوا يشحُّون بأوقاتهم أكثر من شحِّ أحدنا بماله، فلا يضيعونها بدون فائدة.
وكيف يطيب لك يا أخا الإسلام أن تضيع زهرة شبابك أو دهرًا من عمرك فيما لا يعود بالأثر الحميد عليك وعلى مجتمعك وأمتك .. وإذا لم تستطع أن تسهم في حلِّ مشكلات إخوانك المسلمين فلا تكن على الأقل يدًا شلاء تُعيق المجتمع عن النهوض وبلوغ المبتغى من أمور الدين والدنيا ..
وهل بلغ بك تبلدُ الإحساس وعدم الشعور بالمسؤولية إلى درجةٍ استطاع الأعداءُ فيها أن يشغلوك بسفاسف الأمور عن أوضاع أمتك؟ إخوة الإسلام! إنني أربأ بكم عن ضياع أوقاتكم سدى، سواء في هذه البيوت الوهمية أو في بيوتكم الحقيقية .. لكنني سائلكم عن رأيكم في هذا الموظف الذي أمضى سحابة ليلة ساهرًا أترونه يأتي لعمله مبكرًا، وإن كان فما نوع المعاملة التي سيتعامل بها مع مراجعيه؟ إنها مزيج من مدافعةِ السهر والإعياء، يرافقها ضيق في النفس وتقصير في الأداء، وتعطيل لمصالح الناس، وانشغال الفكر بأحاديث الصحبة وبرامج السهرة؟
وما ظنكم بالمعلم الذي اتخذ له من هذه البيوت الوهمية سكنًا أترونة يأتي للدرس مُحضرًا، وللطلبة موجهًا مربيًا، أم ترونه كسولًا مهملًا، يتوارى من القوم
من سوء ما صنع، يضيق ذرعًا بالطالب النجيب يسأله وبالحائر المتردد يتطلع إلى توجيهه، وضيقُه أشد مع المسؤول حين يكلفه بنوع من النشاط يسهمُ في تربية الجيل ويوسع مداركه ويعمق وعيه بقضايا أمته، والواجبات التي تنتظره.
أيها المسلمون! ثمة ملحظ اقتصادي يخطئ فيها البعض منا وهو لا يشعر، وكم رأيت شابًا صعلوكًا لا يملك منزلًا يأوي به نفسه ويستر به أولاده. ولكنك تراه ينفق في الاستراحة كلَّ ما جمع ويظل يكدُّ ويكدحُ وتستوعب الاستراحة كلَّ ما جمع، وتنتهي مهمة هذه الاستراحةِ عند اجتماع الخلِّ والأصحاب بها، والسهر واللعب داخل أسوارها .. ويبقى الأهلُ والولد في مكانٍ ضيق، والمسكين يدفع الأجرة لمن أجر .. وهكذا يُصرف المالُ دون مواربة .. ولا غرو أن يضيع المال إذا ضاعت الأوقات، وماتت الهمم. وما لجرح بميت إيلام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما (72) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا (73) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (74) أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما} (1).
(1) سورة الفرقان، الآيات: 72 - 75.