الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وباء المسكرات والمخدرات
(تاريخ وتحذير)
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين كرّم بنى آدم وفضلهم على كثير ممن خلق {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} (2).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نعمه ظاهرة وباطنة .. ومن أجلِّها- بعد نعمة الإسلام- نعمة العقل المبصر، فبه يميز المرءُ بين الخير والشر، والضار والنافع، وبه يرتقي العبد وتتقدم الأمم وتنتظم الحياة.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جاءت شريعته لتخلص العقل من أوضار الجاهلية، وترتفع به من دركات التفكير وتعطيل القدرات .. إلى أسمى الغايات وأعلى المقامات .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
{ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (3).
{فَاتَّقُوا الله يا أولِي الأَلباب لَعَلَّكم تُفلحون} (4).
أيها المسلمون وإذا كان العقل من أكبر نعم الله على الإنسان فالموفق من
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 2/ 3/ 1419 هـ.
(2)
سورة الإسراء، آية:70.
(3)
سورة آل عمران، آية:102.
(4)
سورة المائدة، آية:100.
استثمر هذا العقل فيما يصلح دينه ودنياه، وإن المرء ينحدر عن مقام الأنعام حين لا يستثمر هذا العقل فيما خلق الله، قال الله تعالى:{ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (1).
وإذا كانت الغفلة عن الهدف الذي من أجله خلق الإنسان واحدة من أنماط عدم استثمار العقل- وليس هذا موطن الحديث عنها- فثمة نمطٌ آخر أكثر سوءًا يُزهق به العقلُ، وتقتل به الإرادة الحية .. وينتحر المرءُ وإن كان بعدُ حيًّا، وذلكم بتعاطي المسكرات والمخدرات.
لقد قيل: إن المخدرات ما هي إلا لُغمٌ يفجر حضارات الشعوب ويهدد قيمها بالزوال، وأخلاقها بالدمار. وقيل: إن إدمان المخدرات والمسكرات ما هو إلا وحشٌ كاسر، أنشب مخالب الموتِ في عنقِ مجتمعاتنا الإسلامية (2).
وقالوا: إن خطر المخدرات على الأمم والشعوب، وتأثيرها المدمِّر عليها أشد من الحروب التي تأكل الأخضر واليابس، وتدمر الحضارات، وتقضي على القدرات، ولذا جندت حكومات العالم كل إمكاناتها لمحاربتها والحدِّ من انتشارها (3).
أيها المسلمون! إن انتشار المسكرات والمخدرات سمةٌ من سمات الجاهلية قديمًا وحديثًا، ففي الجاهلية الأولى تغنى الشعراء بالخمرة، وصُدرت أعظم معلقات العرب في جاهليتهم بذكرها، وقال شاعرهم (عمرو بن كلثوم):
(1) سورة الأعراف، الآية:179.
(2)
عبيد العصيمي: المخدرات دمار للمجتمعات ص هـ، 6.
(3)
أحمد الغامدي، أثر المخدرات ص 7، 8.
ألا هُبي بصحنك فأصبحينا
…
ولا تبقي خمورَ الأندرينا
وكان ذلك من مفاخرهم، ومما أضاع عقولهم وأوقاتهم حتى شعَّ نور الإسلام في أرضهم، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم محررًا لعقولهم، ومستدركًا لما بقي من طاقتهم، ومعلنًا لهم ولغيرهم «ألا إن كلَّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع» (1).
جاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم ليهدي الناس إلى فطرة الله التي فطرهم عليها .. وجاء ليُنهي عهد الغواية ويحفظ الطاقة، ثبتا في الصحيحين -في حادثة الإسراء- أنه صلى الله عليه وسلم قال:«وأُتيت بإنائين في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر قيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربت فقيل لي: هُديت الفطرة، أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتُك» .
وإذا كانت تلك إطلالة على الجاهلية الأولى وكيف استنقذت منها، فالجاهلية الحديثة أعتى وأشد وهي جاهلية مقننة .. وذات خطط وأهداف بعيدة المدى .. وقد اتخذت من المخدرات والمسكرات وسيلةً للسيطرة والعدوان، واستلاب العقول والأموال فضلًا عن مصادرة الدين وما يتبعه من خُلق أو حياء، لقد قام المستعمرُ البريطاني بإدخال القاتِ وشجع زراعته باليمن، وكانوا ينقلونه فترة من الزمن يوميًّا من أثيوبيا والصومال إلى أرض اليمن السعيد كما قامت بريطانيا بالعمل على إيجاده بين مواطني الهند والصين.
وقامت دول أخرى بإدخال المخدرات إلى بعض الدول لتحطيمها اجتماعيًّا واقتصاديًّا حتى تتم السيطرة عليها. وإذا كان هذا قبل عقودٍ من الزمن .. فلا يزال
(1) أخرجه مسلم.
الخطرُ يستشري، والداء يُنقل، والحربُ قائمة حتى أضحت حربُ المخدرات أحدَ أنواع الحروب المعاصرة الخطيرة ..
ولئن لم تتوقف الدول الكافرة الكبرى عن هجومها بالمخدرات لمن سواها، ولا سيما بلاد المسلمين .. فقد زادت الطين بلة، حين غرست في عمق بلاد المسلمين ربيبة لها تنفذ مخططاتها، وتستولي على جزء من مقدسات المسلمين، ويشرد شعوبهم وفوق ذلك كله تنشر وباء المخدرات في دول المنطقة المحيطة بها ..
أجل إن إسرائيل عانت من عزلتها الاقتصادية زمنًا وكسْرُ هذا الطوق .. يمهد السبيل لتجارة المخدرات التي تراهن عليها إسرائيل في إفساد الشعوب العربية والإسلامية .. ولقد أثار تهريبُ إسرائيل للمخدرات قبل فترة قلقًا للشعوب المسلمة، وتنادت وسائل الإعلام كاشفة هذا الخطر، ويكفي أن أحد المقالات كان عنوانه: إمبراطورية الحشيش (1).
وهذه لفتة ينبغي أن ندركها .. وإن نظمها إلى أهداف دولة بني صهيون في عمق العالم الإسلامي، وأن نعي أن تعاطي أحد أبناء المسلمين لوباء المخدرات، أو تهريبها إنما ينسجم ويخدم أهداف الدول الكافرة المستعمرة وهو قبل ذلك واقع في مصيدة الشيطان، ومغضب للرحمن.
إخوة الإسلام! إذا كان من أبرز أسباب انتشار المسكرات والمخدرات وتعاطيها الفساد المستشري في سبل الحياة كلها، حتى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وزادت الهموم وانتشر القلق فظن البعض -مخطئًا- أن الخلاص من
(1) إبراهيم الطخيس، المخدرات، ص 23.
نكد العيش وقسوة الحياة يكون في شرب كأسة خمرٍ، أو جرعةِ مخدر، أو استنشاق مسكر أو شرب مفتر .. فإذا السراب يزول، وإذا الهم يتجدد ويزداد، بل ويبدأ مسلسل القلق والضياع، ويبدأ المرء حينها طريق الانحراف. وظن آخرون أن في الكأس متعةً .. وفي المخدر راحةً وهدوء بال، وتجديدًا للحيوية والنشاط، وإذا بالإحصاءات تكشف وتفضح عن تزايد أعداد المجرمين، وكثرة المرضى والمصابين بالأزمات النفسية فضلًا عن الأمراض العضوية. وتردي الأوضاع الاقتصادية، والتشرذم وتفكك الأسرة .. وعاد العقلاء يدركون عظمة الإسلام فيما حرم، ويقفون متأملين في النص القرآني المحكم:{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} (1).
(1) سورة المائدة، الآيتان: 90، 91.