الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العشر الأخير وفضل التهجد والدعاء
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين، خلق فسوى، وقدّر فهدى، وله الحمدُ في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده مقاليد السماوات والأرض، وما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
اتقوا الله معاشر المسلمين وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، ولباسُ التقوى خير وأبقى، واصدقوا مع ربكم في العلانية وما يخفى، فإن ذلك من علائم التقوى:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} .
عباد الله! بشراكم اليوم حيث تدركوا ليالي العشر الأخير من رمضان، وهي شامة العام، وغرّة في جبين الزمان، يقدرها حقَّ قدرها العالمون العابدون، ويتهاون بشأنها ويفرط في مغانمها الجاهلون العاجزون، إنها الموسمُ يتنافس فيها المتنافسون، وإنها التجارةُ المنجية من عذاب الله لمن وفقه الله، إنها فرصٌ تبتلى فيها الهمم، ويتبين فيها مريدو الآخرة، والمتعلقون بالدنيا.
إنها الفرصة الأخيرة في الشهر تحلُّ لتكون العزاء لمن فرّط في أول الشهر، أو التاج الخاتم لمن أصلح ووفَّى فيما مضى. أجل لقد كان خيرُ البرية محمد صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذه العشر فوق ما يجتهدُ في غيرها، وقد روى الإمام مسلم رحمه الله عن أم
(1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 20/ 9/ 1416 هـ، وأعيدت في 22/ 9/ 1417 هـ دون الثانية.
المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)) (1). كان يحيي الليل، ويوقظ أهله، ويشد مئزره، وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما بال أقوام تثقلهم الذنوبُ، ويحتاجون إلى رحمة علام الغيوب، ثم هم يُفرّطون، وعن مواسم الخيرات يتأخرون؟ ! إنها النفوس الأمارة بالسوء تقعد بأصحابها حين تكون المغانم، وإنها الهمم الضعيفة تستثقل القيام في أيام وليالي معدودة ..
أين نحن من قومٍ ديدنهم القيام طوال العام، وسيماهم التضرع والتجافي عن المضاجع في رمضان وغير رمضان، بل كانوا يتلذذون بالقيام ويسعدون وهم يناجون الملك العلام، يقول أحدهم: لولا قيام الليل ما أحب البقاء في الدنيا.
وقال عاصم بن أبي النجود يرحمه الله: أدركت أقوامًا كانوا يتخذون هذا الليل جملًا (2).
أولئك الذين أثنى الله عليهم ووعدهم، وربك لا يخلف الميعاد، {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون} (3)، ذلك واقعهم، أما جزاؤهم، {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} (4).
أهل التجافي في جنح الظلام هم أهلُ التقوى والمتقون في جناتٍ وعيون، أحسنوا في الدنيا فأحسن الله إليهم في الآخرة {إن المتقين في جنات وعيون *
(1) صحيح مسلم 2/ 832 ح 1175.
(2)
المختار للحديث في رمضان 76.
(3)
سورة السجدة، الآية:16.
(4)
سورة السجدة، الآية:17.
آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون} (1).
قيام الليل هدي محمد صلى الله عليه وسلم {ياأيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا} (2).
وهو هدي خيار الأمة معه: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة} (3).
وقيام الليل مفخرة لأهله، وامتدح الشعراء به أهله، وهذا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
…
إذ انشق معروف من الصبح ساطع
يبيت يُجافي جنبه عن فراشه
…
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وذكروا المتقاعس أو المتباطئ فيه فقالوا:
أمامك يا نومانُ دارُ سعادة
…
يطول الثوى فيها ودارُ شقاء
خُلقت لإحدى الغايتين فلا تنم
…
وكن بين خوفٍ منهما ورجاء (4)
((نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)) (5).
هكذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه لقيام الليل ويرغبهم فيه، ولقد وضع صلى الله عليه وسلم الزرع في منبته، فاستجاب الرجال للنداء، وأجابوا الدعوة والداعي، وكانوا رهبانًا
(1) سورة الذاريات، الآيات: 15 - 18.
(2)
سورة المزمل، الآيات: 1 - 4.
(3)
سورة المزمل، الآيات:20.
(4)
تفسير القرطبي 14/ 100.
(5)
رواه أحمد، متفق عليه، صحيح الجامع الصغير 6/ 31.
بالليل فرسانًا بالنهار، تتجافى جنوبهم عن المضاجع فلا تجف لهم دمعة، ولا تقعد بهم الدنايا عن طلب المنازل العليّة.
قيام الليل أيها المسلمون من أَبواب الخير، عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:((ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ الصومُ جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النارَ، وصلاةُ الرجل من جوف الليل)) قال؟ ثم تلا: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعلمون} (1).
عباد الله! وفي فضل التجافي ذكر ابن المبارك يرحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحامدون لله على كل حال، فيقومون فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي ثانية: ستعلمون من أصحاب الكرم، ليقُم الذين كانت جنوبهم تتجافى عن المضاجع {يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون}. قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة .. الحديث (2).
أَيها المسلمون! حريٌّ بنا أن نجاهد أنفسنا على قيام الليل وهذا بعض فضله، وأن نتخذ من رمضان فرصة للقيام في سائر العام، وإن قصرت بكم الهمم في بعض الشهور والأيام عن قيام الليل والناس نيام، فدونكم هذه الليالي الفاضلة فلا تغلبنكم أنفسكم، ولا يصدنكم الشيطان عنها، فهي والله العز في الدنيا، والمغنم في الآخرة. وإليكم واحدًا من بشاراتها وثوابها، قال عليه الصلاة والسلام:((إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلّى بالليل والناس نيام)) (3).
(1) أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. انظر: تفسير القرطبي 14/ 100.
(2)
ذكره الثعلبي مرفوعًا عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها (تفسير القرطبي 14/ 102).
(3)
رواه ابن حبان في صحيحه وصححه الألباني: صحيح الترغيب 1/ 254.
تأملوا عباد الله الليل إذا سجى، وادعوا ربكم خوفًا وطمعًا وسبحوه بكرة وأصيلا، واستمتعوا بالقرآن إذ يتلى، ولا يكن همكم نهاية الصلاة إذ تقضى، ولا يكن حديثكم ومحل اهتمامكم أقصّر الإمام في الصلاة أم وفّى، فإنّ من قام لله قانتًا واحتسب الأجر على الله قائمًا وراكعًا وساجدًا، تشاغل بذكر مولاه، وبكى على خطيئته وخاف ربَّه ورجاه، واستشعر اللذة في حال قيامه أو ركوعه أو دعاه.
أيها المسلمون! ليالي العشر مغنم يستحق التهنئة والبشرى، وفيها ليلة خير من ألف شهر كما أنزل العليُّ الأعلى:{إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر} (1).
وتأمل يا أخا الإسلام كم في هذه الليلة من فضائل ومزايا، ففيها أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، والعمل فيها لمن وفقه الله وقبله خير من العمل في ألف شهر، وتلك رحمة من رحمات الله بهذه الأمة التي تقلّ أعمارها عن أعمار الأمم قبلها، فأعطيت هذه الليلة لتعويض قصر أعمارها.
وفيها يكثر تنزل الملائكة، وهم يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، والله أخبر عن بركة هذه الليلة فقال:{إنا أنزلناه في ليلة مباركة} (2). ووصفت بأنها سلام أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو أذى كما قال مجاهد رحمه الله (3).
أو يكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم به العبدُ من طاعة
(1) سورة القدر.
(2)
سورة الدخان، الآية:3.
(3)
تفسير ابن كثير 4/ 531.
الله عز وجل (1)، وفي ليلة القدر يُفرق كلُّ أمرٍ حكيم، وهو ما يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة من أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق.
وفوق ذلك كلِّه، فمن قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه كما في الحديث المتفق على صحته.
فهل ترضى أيها اللبيبُ أن تفوّت على نفسك هذه الفرصة، وأنت تضمنها في ليالٍ عشر، ألا ما أحوجني وإياك والمسلمين إلى فضل ربِّنا فهذه نفحات جوده تغشانا.
وما أحوجنا إلى مغفرة الذنوب التي أثقلت كواهلنا، وفي هذه الليالي فرصة للتخفف والتوبة والاستغفار فما أحرانا، ولا يفوتنك الاستغفار بالأسحار فهو سيما المتقين وزاد إلى جنة النعيم {وبالأسحار هم يستغفرون} (2).
ولي ولك حوائج في الآخرة والأولى .. وفي جنح الظلام يسمع الدعاء، ولنا جميعًا معاشر المسلمين هموم ومآسي، وليس إلا الله يرفع عنا الضراء، فلنبتهل إليه ولنصدق المسألة لنا ولإخواننا والجنة جميعًا مبتغانا، ونسأل الله ليلًا ونهارًا أن يرزقنا إياها وقيام الليل عامة، وإحياء ليال العشر خاصة طريق إلى الجنة، إذا صحت النوايا وخلصت الأعمال لله جلّ وعلا، وأذن الربُّ بالقبول - وربنا رءوف رحيم يعطي الجزيل، ويتجاوز عن التقصير، فهل نلج الباب ونفعل الأسباب؟
إنها دعوة للمسابقة للخيرات، وتذكير ببعض الفضائل والمكرمات، ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه، ومن عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها. أعوذ بالله من
(1) المجالس لابن عثيمين 105، المختار 237.
(2)
سورة الذاريات، الآية:18.
الشيطان الرجيم {ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا * إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} (1).
اللهم انفعنا بالقرآن ووفقنا لصالح الأعمال، وأعنا على الصيام والقيام وتقبل منا يا كريم يا منان .. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ..
(1) سورة الإنسان، الآيتان: 26، 27.