الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بناء الأسرة المسلمة
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله ربِّ العالمين خلق فسوّى وقدّر فهدى، وخلق الزوجين الذكرَ والأنثى من نطفةٍ إذا تُمنى، وأن عليه النشأةَ الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، آلاؤه لا تُعدُّ ولا تُحصى {وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} ومن آلائه جعل للناسِ من أنفسِهم أزوجًا ليسكنوا إليها وجعل بينهم مودةً ورحمةً، وأشهدُ أن محمدًا عبدهُ ورسولُه جاءت رسالتهُ بالخير والهدى وأقامت في المجتمعِ بناءً تقومُ أواصره على البرِّ والإحسان والمودةِ والتُّقى، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن آل بيته والمؤمنين وصحابته الخيرين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
فأما بعد فأوصي نفسي وإياكم-معاشر المسلمين- بتقوى الله، وتلك وصيةُ الله للأولين والآخرين {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} (2).
أيها المسلمون! يُعنى الإسلامُ عنايةً عظمى ببناءِ الأسرةِ وصونِها من أي سهامٍ
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 21/ 10/ 1417 هـ.
(2)
سورة النساء، آية:131.
(3)
سورة النساء، آية:1.
توجَه إليها، ذلكم أن الأسرةَ قاعدةُ المجتمعِ، ومدرسةُ الأجيال، وسبيلُ العفةِ وصونٌ للشهوةِ، والطريقُ المشروعُ لإيجاد البنين والأحفاد وانتشارُ الأنسابِ والأصهار فبالزواج المشروع تنشأ الأسرة الكريمة وتنشأ معها المودة والرحمة، ويتوفر السكنُ واللباس، إنها آيةٌ من آياتِ الله يُذكرنا القرآنُ بها ويدعونا للتفكرِ في آثارها وما ينشأ عنها {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (1).
وهى ما يتفرع منها نعمةٌ ومنةٌ ينبغي أن نشكر الله عليها {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزوجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون} (2).
عبادَ الله إن الأسرةَ في الإسلام لوحةٌ مضيئةٌ ومرآةٌ عاكسةٌ لسموِّ تعاليمِ القرآنِ، وهي شاهدٌ ملموس على علوَّ شأنِ الإسلام تعجز الأنظمةُ البشريةُ- مهما بلغت- أن تبلغَ مبلغه، وأفلست الأديانُ القديمةُ والحضاراتُ المعاصرةُ أن تصل مستواه، والواقعُ يشهدُ بتفككِ الأسرِ وضياعِ المجتمعات في مشرقِ الأرضِ ومغربها حين يغيب عنها الإسلام أو تضلُّ عن توجيهات القرآن!
أجل إن من هدي الإسلام في بناءِ الأسرةِ الأمرَ بالعشرةِ بالمعروف {وعاشروهن بالمعروف} (3).
ويقول عز من قائل: {فإمساك بمعروف} (4).
(1) سورة الروم، آية:21.
(2)
سورة النحل، آية:72.
(3)
سورة النساء، آية:19.
(4)
سورة البقرة، آية:229.
وخلاصةُ العشرةِ بالمعروف: تطييبُ الأقوال وتحسينُ الأفعالِ والهيئاتِ- حسب القدرة- واستدامة البشر ومداعبة الأهل وتوسيع النفقة دون إسراف وقيامُ كلٍّ من الزوجين بما يحبُّ أن يقوم له الآخر فيؤثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إني أحبُّ أن أتزين لامرأتي كما أحبُّ أن تتزين لي (1).
يا أخا الإيمان لا يقف هديُ الإسلام في العشرة بالمعروف عند حدودِ الأمرِ واعتبارها من المروءة والدين، بل يرتب عليها من الخيريةِ والجزاء ما يدعو للعناية بها والاهتمام، ويقول عليه الصلاة والسلام:((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم)) (2).
وفي مقابل ذلك تقلُّ خيريةُ من تشتكي منه النساء.
وفي الخبر ((لقد أطافَ بآلِ محمدٍ نساءٌ كثير يشكون أزواجَهنَّ ليس أولئك بخياركم)) (3).
وفي محمدٍ صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنة وهو القائل: ((خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي)) (4).
أيها المسلمُ والمسلمةِ بناءُ الأسرةِ في الإسلام متينُ القواعدِ عميقُ الجذور، لا ينبغي أن يُهدمَ كيانُهُ لسببٍ يسير، حتى ولو شعرت النفسُ بالكره أحيانًا فلربما كان فيما تكره النفوسُ خيرًا، كثيرًا، وتأمل هديَ القرآنِ والله يقول:{فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} (5).
(1) تفسير القرطبي 5/ 97.
(2)
رواه الترمزي وابن حبان بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير 1/ 392).
(3)
صحيح سنن أبي داود 2/ 403.
(4)
رواه الترمذي وابن ماجه والطبراني بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير 2/ 129).
(5)
سورة النساء، آية:19.
يقول القرطبي رحمه الله: ((فإن كرهتموهن أي لدمامةٍ أو سوءِ خلقٍ من غيرِ ارتكابِ فاحشةٍ أو نشوز، فهذا يُندب فيه إلى الاحتمال فعسى أن يؤول الأمرُ إلى أن يرزق اللهُ منها أولادًا صالحين)) (1).
وقال مكحولٌ: سمعتُ ابنَ عمر رضي الله عنهما يقول: إن الرجلَ ليستخيرُ الله تعالى فيُخارُ له، فيسخطُ على ربِّه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبةِ، فإذا هو قد خير له (2).
وعقدُ الزوجية في الإسلامِ أكبرُ من النزوات العاطفية، وأجلُّ من ضغطِ الميلِ الحيواني المسعور، ولا يليقُ أن تعصفَ به الأمزجةُ الطارئة، فيتخلى الزوجُ عن زوجتهِ لمجرد خُلُقٍ كرهه منها، أو ناحيةٍ من نواحي الجمال افتقدها فيها، فعساه أن يجدَ أخلاقًا أخرى يرضاها، ولن يُعدم نوعًا من الجمالِ يتوفرُ فيها، وإلى هذا يرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو ينهى عن استدامةِ البغضِ الكلى للمرأة ويقول:((لا يفركْ مؤمنٌ مؤمنةً إن كره منها خُلُقًا رضي منها آخر)) (3).
والمعنى: لا يبغضها بُغضًا كليًّا يحمله على فراقِها، بل يغفر سيئتها لحسنتِها، ويتغاضى عما يكره لما يُحب (4).
أيها المسلمون! إذا كان هذا منطقَ الشّرع، فمنطقُ العقلِ يقول: إن الواقعَ يشهدُ بالعواقبِ الحميدةِ لأسرٍ تجاوزت الخلافاتِ في بدايةِ حياتِها، وتغلبت على المكارِه والمصاعبِ أولَ نشأتِها، ومن يتقِ اللهَ يجعل له مخرجًا، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل اللهُ فيه خيرًا كثيرًا.
(1) تفسير القرطبي 5/ 98.
(2)
رواه مسلم ح 1469.
(3)
ذكره القرطبي في التفسير 5/ 98.
(4)
تفسير ابن كثير 3/ 708.
إخوةَ الإيمان! وإن في المسلمِ الحقِّ من المروءةِ والنبلِ والتجمُّلِ والاحتمالِ وسعة الصدرِ، وسموِّ الخلقِ ما يجعله يرتفع في تعامله مع زوجته التي يكرهها بعيدًا عن نزواتِ البهيمةِ وطمع التاجر، وتفاهةِ الفارغ.
وإذا كانت المودّةُ أحدَ دعائمِ الزوجيةِ وسببًا كبيرًا لبقائها، فإن الرحمةَ هي الأخرى دعامةٌ مهمةٌ لبقاءِ الزوجين وارتباطهما، حتى وإن عُدم الحُبُّ أو قلت المودّةُ، هكذا يوجه القرآن ويدعو للتفكر {وجعل بينكم مودة ورحمة} .
قال المفسرون: إن الرجلَ يُمسكُ المرأةَ إما لمحبته لها أو لرحمةٍ بها بأن يكون لها منه ولدٌ، أو محتاجةٌ إليه في الإنفاق أو للألفةِ بينهما وغير ذلك {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} .
أيها المؤمنون! إذا كانت العشرة بالمعروف بين الزوجين من دعائم بناء الأسرة، فإن الإيمان بالله قمة المعروف وعمل الصالحات سبيل الوفاق بين الزوجين، فالإيمانُ وعملُ الصالحاتِ يشيعان في البيوتِ السكينة، وبهما تتحقق السعادة ويتطلعُ الزوجانِ بهما إلى منازل الآخرة، وتتوجه الهممُ عندها إلى رضوان الله والجنة، وهاكم نموذجًا لهذين الزوجين يترحم عليهما صلى الله عليه وسلم قال:((رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) (1).
وينبغي أن تستمر جذوةُ الإيمان، ولباسُ التقوي بين الزوجين حتى وإن وقع
(1) حديث صحيح رواه أحمد في مسنده 2/ 250، 436، وأبو داود (1308)، والنسائي، وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة (1148) والحاكم ووافقه الذهبي (1/ 309).
الطلاقُ وحصل الفراق، فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، وتأملوا قول الله تعالى:{فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرًا} (1).
اللهم انفعنا بهدي القرآن ووفقنا للاقتداء بسيد الأنام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
(1) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.