الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أوحى إلى عبده فيما أوحى:{ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} (1). قال ابن جرير رحمه الله: هي الصلاة بالليل من أي وقت صلى.
وأنزل على نبيه فيما أنزل {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} (2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محَمدًا عبده ورسوله وفيما أنزل عليه: {فإذا فرغت فأنصب * وإلى ربك فارغب} (3)، قال القرطبي: قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
إخوة الإيمان! في الهزيع الأخير من الليل يُستجاب الدعاء، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:((إن الله يُمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول نزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر، هل من تائب، هل من سائل، هل من داع، حتى ينفجر الفجر)) (4).
وفي الدعاء يجاب المضطر، ويكشف السوء، وتستمر الحياة على وجه الأرض:{أممن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون} (5). قال المفسرون: ينبه تعالى أنه المدعو عند
(1) سورة ق، الآية:40.
(2)
سورة الإسراء، الآية:79.
(3)
سورة الشرح، الآيتان: 7، 8.
(4)
رواه مسلم ج 758/ 172.
(5)
سورة النمل، الآية:62.
الشدائد، والمرجو عند النوازل (1).
أمة الإسلام! كم في المسلمين من شدة، وكم تحيط بهم من نازلة وليس لهم إلاّ الله يرفع عنهم الضرَّ، ويكشف ما بهم من كرب، فهل يا ترى يستفيد المسلمون من هذه الليالي الفاضلة فيرفعون أكف الضراعة لجلاء الغمة، وإزالة أسباب التشرذم والفرقة، لقد عادت غربة الدين في أنحاء واسعة من بلاد المسلمين، وأصبح الغيورون على دين الله غرباء، وأصبحت نُخب العلمانيين تصدِّر للناس من المفاهيم الملوثة ما تشاء، وحلت في ديار المسلمين الفتن والشحناء، وغاب صوتُ الحقِّ أو كاد، لمخالفته الهوى، فإلى الله المشتكى، وفي قصص القرآن سِلوة وعزاء {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} (2)
احرصوا على الدعاء معاشر المسلمين، وادعوا دعاء المضطر إلى الله الموقن بالإجابة، مستحضرين آداب الدعاء، ومتفطنين لأسباب القبول، وموانع الإجابة، ومتحرين لأوقات سماع الدعاء، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل ودبر الصلوات المكتوبة)) (3).
إخوة الإيمان! وها هنا يحسن التنبيه على خطأ يقع فيه بعض الداعين أئمة كانوا أو مأمومين، ألا وهو الاعتداء في الدعاء، وذلك برفع الأصوات، أو بالدعاء بغير المأثور من الدعوات، أو بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على
(1) تفسير ابن كثير 3/ 612.
(2)
سورة القصص، الآيتان: 5، 6.
(3)
رواه الترمذي وحسنه (رياض الصالحين/ 475).
المحرمات، أو المستحيلات كالتخليد في الدنيا، أو الاطلاع على الغيب، أو غير ذلك من صور الاعتداء التي تذهب بالخشوع وتفقد الاقتداء بهدي المرسلين، والله يقول مادحًا لأوليائه وأصفيائه:{فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} (1)، وينهى عن الاعتداء في الدعاء ويقول:{ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} (2).
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام جزل طيب في إخفاء الدعاء وعدم الاعتداء فيه، وقد ذكر له فوائد عديدة وأحصى منها عشرًا هي باختصار:
أولها: أنه أعظم إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي.
ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم، فإذا كانت الملوك لا ترفع الأصوات عندها، فملك الملوك أحرى.
وثالثها: أنه أبلغُ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبُّه ومقصوده.
ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.
وخامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه.
وسادسها: وهو من النكت البديعة جدًّا أنه دال على قرب صاحبه للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد، ولهذا أثنى الله على زكريا بقوله عز وجل:{إذ نادى ربه نداء خفيا} فلما استحضر القلب قرب الله عز وجل، وأنه أقرب إليه من كل قريب أخفى دعاءه ما أمكنه.
(1) سورة الأنبياء، الآية:90.
(2)
سورة الأعراف، الآية:55.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله للصحابة: ((أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)).
وسابعها: أنه ادعى لدوام الطلب واللسان، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته.
وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات؛ لأنه إذا أخفى لم يدر به أحد بخلاف إذا جهر فطرت له الأرواح البشرية، ولابد فأفسدت عليه دعاءه بخلاف إذا أسر.
وتاسعها: أن أعظم النعمة الإقبال والتعبد، ولكل نعمة حاسد على قدرها، ولا نعمة أعظم من هذه وبالإسرار يسلم من حسد الحاسدين بإخفاء هذه النعمة التي منحه الله إياها.
وعاشرها: أن الدعاء هو ذكرٌ للمدعو سبحانه وتعالى، متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه فهو ذكرٌ وزيادة .. وإذا كان ذلك كذلك فالله قال في شأن الذكر {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة} والتمسكن والانكسار هو روح الذكر والدعاء.
ومن رام المزيد والتفصيل فليرجع للفتاوى في جزئها الخامس عشر (1).
أيها الصائمون! ثمة سُنَّة نبوية يحسن التذكير بها هذه الأيام، إنها الاعتكاف، وحقيقتها لزوم مسجد لطاعة الله والانقطاع عن الدنيا وعلائقها، والإقبال على الله وقصر القلب عليه وحده دون سواه، والتبتل إليه وسؤاله ورجاؤه.
قال الإمام الزهري رحمه الله: عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما
(1) الفتاوى 15/ 15 - 22.
تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل.
أجل لقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من رمضان، ثم العشر الأواسط يلتمس ليلة القدر، ثم تبين له أنها في العشر الأواخر فداوم على اعتكافها، عجبًا لمن يبحثون عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم هم لا يكترثون بسنة الاعتكاف ولو حينًا من الدهر، وعجبًا لمن يبحثون عن الخير مظانه ثم هم يقصرون عن سنة الاعتكاف ويعللون أنفسهم بالمشاغل وارتباطات الحياة، وهل يبلغون معشار ما لدى النبيِّ صلى الله عليه وسلم من مهام ومسئوليات، ومع ذلك داوم على الاعتكاف حتى لقي الله، بل لقد اعتكف أزواجه من بعده، اقتداء بسنته كما ثبت في الحديث المتفق على صحته، وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت:((اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مستحاضة من أزواجه فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي)) قال الشيخ الألباني: وفي هذه الأحاديث دليل على جواز اعتكاف النساء ولا شك أن ذلك مقيد بإذن أوليائهن لذلك، وأمن الفتنة والخلوة مع الرجال للأدلة الكثيرة في ذلك، والقاعدة الفقهية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
فإذا كان الأمر واردًا بالنسبة للنساء -مع توفر الشروط وانتفاء الموانع- فما بال الرجال يزهدون في هذه السنة الثابتة.
إن في الانقطاع عن الدنيا لذة وراحة، وفي الخلوة برب العالمين أنس وطمأنينة يحس بهما من انقطع في معتكفه مخلصًا لربه، وما أحوج النفوس لترويضها على الخير، وتربيتها على البرِّ والتقوى، وما أحوج الأمة إلى دعوات مخلصة يعلمُ الله صدق الداعين بها فيبلغ بها عنان السماء ويستجيب لأصحابها، كم فينا من أدواء، وكم في أمتنا من جرح يثعب دمًا، وسل أرض البوسنة والشيشان، وطوّف بكشمير
وبورما وبلاد الأفغان، وفي القرن الأفريقي أحداث ومآس تترى، وطغيان الصهاينة المتعدين في أرض الإسراء ليس يخفى.
أيها المسلمون! ليس يُجدي التلاوم شيئًا، ولن يغير الله ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا، ومصيبة عظمى أن يستسلم المسلمون لواقعهم ويستشعروا إلى الأبد هزيمة الأعداء، أو يصابوا بالإحباط، فيظنوا فوات الفرص كلها، وقد وعد الله باليسر بعد العسرى، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا، فهل يستثمر المسلمون هذه الأيام والليالي الفاضلة باستصلاح أحوالهم والتضرع لخالقهم، أم ترانا ننوح على أمتنا ونحن جزءٌ من هذا الواقع المتردي .. اللهم أصلح أحوالنا واجمع شمل أمتنا، واكفنا شرِّ أعدائنا .. هذا وصلوا وسلموا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.