الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحاسبة على مستوى المجتمع والأمة
(1)
الخطبة الأولى
.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أَعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون! مع في دورة الأفلاك، وتعاقب الليل والنهار وانصرام الشهر، ومجيء العام بعد العام، ومع تذكر الموت واستحضار الحشر والمعاد .. لابد من المحاسبة اليوم .. لأنه لا مفرَّ من المُساءلة غدًا، فالقرآن مذكر للأمة، لكن
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 4/ 1418 هـ.
(2)
سورة النساء، آية:1.
(3)
سورة آل عمران، الآيتان: 102، 103.
سيسألون عنه: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} (1)، والسؤال شامل لمن أرسل إليهم والمرسلين:{فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} (2).
وإذا كان الصادقون يسألون، فما الظنُّ بمن دونهم؟ {ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما} (3).
وإذا لم تُنس الموءودة بالسؤال وهي لا تملك من أمرها شيئًا، فكيف سيكون السؤال لمن وأدها. {وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت} (4).
لابد من المساءلة يا عباد الله عن النقير، والقطمير، ولابد من المجازاة على العمل ولو كان مثقال ذرة، ولا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، حتى ولو كانت {مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} (5).
عباد الله! إذا سبق الحديث عن المحاسبة للنفس على مستوى الفرد، فثمة حساب ينبغي أن نعيه على حساب المجتمع والأمة. وإذا أعطى الله قومًا نعمةً حاسبهم علي شكرها أو كفرها.
ومن أعظم النعم في مجتمع المسلمين نعمة اجتماع الكلمة، والألفة والمحبة، والقيام بحقوق الأخوة الإسلامية. هذه نعمة يُذكَّرُ بها المؤمنون، ويذكرون بما يُضادُّها من الفرقة والشحناء والبغضاء، وهذه النعمة أساسُها التقوى وعمادها
(1) سورة الزخرف، آية:44.
(2)
سورة الأعراف، آية:6.
(3)
سورة الأحزاب، آية:8.
(4)
سورة التكوير، الآيتان: 8، 9.
(5)
سورة لقمان، آية:16.
الاعتصام بالكتاب والسنة، كما قال جلَّ من قائل عليمًا:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (1).
وهذه النعمة لا يستطيع البشر أن يوفروها لأنفسهم مهما أوتوا من العلم، ومهما بلغت بهم الحضارة، إذا كانوا بمنأى عن تعاليم السماء، وهم عاجزون عن جلبها بأغراض الدنيا ولو أنفِقوا في ذلك ما أنفقوا، إنها منحة إلهية وكفى {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (63) يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} (2).
تُرى كم يخسر المسلمون وهم يُفرطون في هذه النعمة الكبرى، حين تنشأ في صفوفهم الإحن، وتسود القطيعة، وتتسع دائرة الخلاف والفرقة، وكم تضعف المجتمعات المسلمة من قوتها حين يُساء الجوار، ويُتنابز بالألقاب، كم تهدر من طاقة وتهدُّ أركان بالحق قائمة، وتشل قوى متربصة، ويختلط النفاق بالإيمان، ويغيب الحقُّ أو يكاد، وتظلل الرؤية أصواتُ المبطلين، والله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم} (3).
أيها المسلمون! لابد أن نحاسب أنفسنا على نعمة الأخوة واجتماع الكلمة حتى لا تتقطع أوصالنا، وتذهب ريحنا، ونكون محل شماتة الأعداء وفساد في ديننا، لا
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 102، 103.
(2)
سورة الأنفال، آية:63.
(3)
سورة الأنفال، آية:53.
بد من معرفة الداء ولابد من الدواء، وابدأ بنفسك أيها المسلم فعالج ما تجد فيها من بُغض أو نُفرة أو حقد أو حسد لأي من إخوانك المسلمين دون سبب مشروع.
إخوة الإسلام! المسلمون أمة واحد، وقوة ضاربة في أعماق الزمن، لا يدانيهم في ذلك أمة من الأمم، كيف لا؟ والمسلمون مهما تباعدت ديارهم، واختلفت ألسنتهم وألوانهم، ومهما علت أو قلّت مراتبهم يلتقون تحت شعار (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وتمتد مسيرة الأمة الواحدة في أعماق الزمن لتشمل جموع المؤمنين من أتباع الأنبياء والمرسلين منذ بُعث أول نبي وحتى ختِمت الرسالات بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، كذلك أراد الله لنا، وكذلك قص القرآن علينا:{إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (1)، {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} (2).
فهل يدرك المسلمون سرَّ هذه القوة، هذه الأمة أمة عقيدة ودعوة .. عقيدة صادقة صافية تعتز بها، ودعوة إلى الخير يتشرف كلُّ من انضوى تحت لوائها ومع خيرية الأمم السابقة، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرها على الإطلاق .. ولكن هذه الخيرية مشروطة بعدة أمور، ومن أبرزها القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} (3).
وهذه الخيرية مسؤولية ونعمة أخرى لابد أن يحاسب المسلمون أنفسهم عليها،
(1) سورة الأنبياء، آية:92.
(2)
سورة المؤمنون، آية:52.
(3)
سورة آل عمران، آية 110.
هل قاموا بواجبها، ما العقبات التي تعترض سبيلها، ما أنسب الوسائل والطرق لتحقيقها.
إن أمم الأرض كلَّها تنتظر من المسلمين أن يفيئوا عليهم من هذه الخيرية، وقد لجَّت بهم المذاهب والأفكار والنحل الباطلة فهل يقود المسلمون زمام السفينة وينقذوا أهلها من الغرق المحتمل بين عشية أو ضحاها. تلك -وربي- مسؤولية وتبعة، وسوف يسأل عنها المسلمون.
أيها المؤمنون! مع خيرية أمة الإسلام فهي أمة وسط وهي شاهدة يوم القيامة على الأمم الأخرى .. يقول تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (1). والوسط هنا - كما قال أهلُ التفسير (2) الخيار والأجود، ووسطيتها تشمل المنهج والسلوك، فقد خصها اللهُ بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، فلا رهبانية في الإسلام، ولا حرج في الدين {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} (3).
أيها المسلمون! إن من الخزي والعار أن تشهد الأمم الكافرة في الدنيا على أمة الإسلام بالضعف والتفكك والتبعية، وكيف لأمة مغلوبة، ومهزومة نفسيًّا أن تقود ركب الأمم؟ وهذه الانهزامية ليست من طبيعة منهجها، وهذا التفكك والضعف ليس من سمات تاريخها ..
فلقد ملكنا هذه الدنيا قرونًا
…
وأخضعها جدودٌ خالدونا
(1) سورة البقرة، آية:143.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير 1/ 275.
(3)
سورة الحج، آية:78.
وسطرنا صحائف من ضياءٍ
…
فما نسي الزمان ولا نسينا
عباد الله! هذه المعالم الثلاثة: الأخوةُ الإسلامية، وخيرية هذه الأمة بعقيدتها ودعوتها، ووسطيتها بمنهجها، مُسَلَّمات لابد أن تحاسب الأمة نفسها عليها بين الفينة والأخرى، ولئن أصابها شيءٌ من الضمور أحيانًا، أو تخلف أثرها في الواقع، أو قصر المسلمون في الوصول إلى مستواها حينًا من الدهر، فينبغي أن تكون حقائق مستقرة في الأذهان، وهدفًا يُسعى إلى تحقيقه في واقع الحياة، ومما يُسلِّي ويسرِّي أن الأمة المسلمة تمر أحيانًا بمراحل ضعف، لكنها لا تلبث أن تفيء إلى دينها، وتجدد ما اندثر من حضارتها، وتسدد ما أصابه الخللُ من قيمها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (1). نفعني الله وإياكم.
(1) سورة الحج، الآيات: 39 - 41.