الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من المغتصبون
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:{ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (2).
أيها المسلمون! في سبيل تحقيق الذات وانتصار المبادئ والانتقال من الذُّل والعبودية إلى العزة والتمكين، لابد من عقيدة ينطلق المرءُ من تعاليمها، ولابد من قوة تحمي هذه العقيدة وتُهيء الطريق لها، وعلى قدر توفر القوتين الروحية والمادية تكون الغلبة، ويأذن الله بالتمكين {إن تنصروا الله ينصركم} {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة .. } .
وعالم اليوم، بل وعالم الأمس، وغدا .. عالم صراع الحضارات بمقوماتها المادية والمعنوية. إذ فهم اليهود والنصارى هذه الحقائق أكثر من فهم المسلمين لها، فأشادوا بناءهم الحضاري المادي على أحدث وسائل العلم والتقنية، ولم ينسوا الاعتماد على كتبهم المقدسة -وإن كانت محرفة- في حربهم للمسلمين.
(1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 13/ 5/ 1419 هـ.
(2)
سورة الحشر، الآية:18.
فالمصيبة أن يظل المسلمون في سُبات نوم عميق فلا هم في ميدان الحضارة والتقدم المادي حققوا شيئًا يذكر، ولا هم في الجانب الروحي تمسكوا بعقيدتهم الحقة، وانطلقوا من تعاليمها يوالون ويعادون ويتعلمون ويعلمون، ويستعدون للمواجهة في حينها.
عباد الله! لقد مرت بالمسلمين فترة خدعهم عدوُّهم حين رسَّخ في أذهان بعض المسلمين أن التمسك بالدين والانتماء للعقيدة سبب في ضعف المسلمين وتأخرهم، وأن العلمنة والتحرر من المبادئ سبيل التقدم والرقي.
ومنذ راجت هذه الأفكار، والمسلمون يسيرون في بيداء مهلكة يتمرغون في أوحال الهزيمة، وينتقلون ما بين الذُّل والفرقة، والضعف والقطيعة، وعدوُّهم يسومهم سوء العذاب، يستعمر بلادهم، ويعبث بمقدساتهم، ويتلاعب بمقدراتهم، ويفتعل الحروب، ويذكي الخلاف بينهم.
إخوة الإسلام! حتى يظل المسلمون في وهدتهم وضعفهم، عمد الغرب ولا يزال يعمد إلى وصف المسلمين بالتعصب ويشوه -في إعلامه- صورة دينهم، ورُمي بالتطرف والأصولية ونحوها من الألقاب، أبناء الأمة المسلمة. والحقُّ أنهم هم المتعصبون، وهم المتطرفون في أخلاقهم وأفكارهم، هذا ويعترف ساستهم ومفكروهم بهذا التعصب ويقول غوستاف وبون ((لقد تجمعت العقدُ الموروثة، عقدُ التعصب التي ندين بها ضد الإسلام ورجاله، وتراكمت خلال قرون سحيقة حتى أصبحت ضمن تركيبنا العضوي)) (1).
أيها المؤمنون! يشهد الواقع المعاصر على تعصب الغرب الكافر وتطرفه،
(1) وجهة العالم الإسلامي: 38.
وتعترف كاتبة أمريكية بهذا حين تقول: ((إن وزراء الثقافة في المجموعة الأوروبية يتسترون على أكبر جريمة قتل جماعي في أوربا، تقع تحت سمع وبصر الجميع، إن أجهزة التلفزيون تنقل كل ما يحدث بسراييفو لحظة بلحظة، ومع ذلك لم يتحرك أحد لمنع هذه الجريمة التي تقع في أوربا)) (1).
ثم تتكرر الشهادة من كاتب أسباني، وهو يعلق على أفعال الصرب الإجرامية بمجاوزة القتل إلى تدمير المكتبات والمساجد فيقول:((بعد خمسة قرون تقريبًا على حرق المخطوطات العربية الغرناطية في باب الرملة .. تكرر المشهد بشكل أعنف حين حقق الصربُ أحلام انتقام أسلافهم بإحراق (5203) مخطوطة عربية وتركية وفارسية تبخرت إلى الأبد، هذا الكنز الذي تمَّ تدميره بهذه الطريقة البشعة يضم أعمالًا في التاريخ والجغرافيا والرحلات والفقه والفلسفة والعلوم الطبيعية .. إلى أن يقول: اليوم لا يبقى من المكتبة إلا حيطانها الخارجية، وفي الحقيقة فإن تلك الجريمة يمكن وصفها بدقة بأنها (اغتيال للذاكرة)؛ لأن المطلوب هو إزالة أي أثرٍ إسلامي من أرض صربيا الكبرى)) انتهى (2).
هكذا يعترف أبناء الغرب على تعصب قومهم وتطرفهم ضد المسلمين.
إخوة الإسلام! من يمعن النظر في تصريحات اليهود والنصارى يجد المنطلقات العقائدية حاضرة في أذهانهم، يرى البعد الديني واضحًا في سياستهم، وإليكم هذا التصريح من (مجلس حكماء التوراة) وقد جاء فيه:
((إن العالم ما خلق إلا من أجل إسرائيل، وواجب إسرائيل ومصدر جدارتها أن تعمل بالتوراة وتنفذها، والمكان الذي قضى الله بأن تعيش فيه إسرائيل وتحقق
(1) جريدة الحياة 14/ 11/ 1393.
(2)
ص 11، 12 من تعليق على التعصب الأوروبي أم التعصب الإسلامي/ محمد العبدة).
التوراة هو أرض إسرائيل، وهذا يعني أن مبرر وجود العالم واستمرار لقائه هو إقامة النظام التوراتي على أرض إسرائيل)) (1).
أيها المسلمون! تقوم العلاقة بين الغرب النصراني واليهود في إسرائيل على جذور تاريخية، ومنطلقات عقائدية، وهذا سرُّ الدعم اللامحدود من قبل الدول الكبرى لإسرائيل، ودونكم الحقيقة بجلاء يُصرح بها أحد قادة أمريكا السابقين يقول الرئيس الأمريكي جيمي كارتر أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1979 م:
((إن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من مجرد علاقة خاصة، لقد كانت ولا تزال علاقة فريدة، وهي علاقة لا يمكن تقويضها؛ لأنها متصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه)).
وفي خطاب آخر قال كارتر: ((إن إنشاء دولة إسرائيل هو إنجاز النبوءة التوراتية وجوهره)) (2).
ثم يكشف مستشار كارتر للأمن القومي (بريجنسكي) الحقيقة للعرب المخدوعين بأمريكا ويقول: ((إن على العرب أن يفهموا أن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية لا يمكن أن تكون متوازنة مع العلاقات الأمريكية العربية؛ لأن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية علاقات حميمة مبنية على التراث التاريخي الروحي .. )).
فهل يا تُرى يقرأ العرب والمسلمون هذه التصريحات ويفقهوا ما وراءها؟
إن القادة أو المفكرين أو الإعلاميين من العرب والمسلمين الذين يصورون لأمتهم الغرب بغير هذه الصورة الواضحة بشهاداتهم هم ظالمون لأنفسهم،
(1) المسيحية والتوراة .. شفيق مقار ص 12.
(2)
أمريكا وإسرائيل .. معروف الدواليبي، المقدمة ص 23.
ومضللون لأمتهم، وهم عناصر تعويق سبيل تقدم أمتهم ووعيها بحقيقة الصراع مع أعدائهم، ومؤلم أن يتقي الغربُ بهم ويُصدِّر أفكاره العلمانية عن طريقهم! !
ومؤلم أكثر أن يتكئ الغرب في صراعه مع العرب والمسلمين على كتب مقدسة -في زعمهم- والواقع أنها قد عبثت بها أيدي التحريف والتغيير. ويظل أهل القرآن -وهو الكتاب الحق- بمنأى عن تعاليمه .. ولربما حُرموا الحكم بشرعه، ولم يهتدوا للانطلاق منه، ومما صحَّ من سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك وربي ضمانة الإيمان وشرطُه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (1)
(1) سورة النساء، الآية:65.