الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) من مظاهر الإسراف في حياتنا
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
فأما بعد فأوصيكم ونفسي بتقوى الله {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} (2).
أيها المسلمون! حديث اليوم استكمال للحديث قبله، عن الإسراف، وتعدد مظاهره في حياتنا، وآثاره في سلوكياتنا.
وحيث مضى الحديث عن الإسراف في الأفراح والمناسبات، فليت الأمر كان قصرًا على هذا- مع سوئه- فأفراحنا موسمية ومناسباتنا عارضة .. مع ضرورة العلاج والكفِّ عن الإسراف فيه، ولكن أمر الإسراف أعظم من هذا وأكبر، وهو يستحوذ على جزءٍ كبير من حياتنا، وهاكم بعض مظاهره.
(1) سورة الطلاق، الآية:4.
(2)
سورة الأنفال، الآية:29.
(3)
سورة لقمان، الآية:33.
وقبل هذا لابد أن يحرر مفهوم الإسراف، والعلماء يقولون: إن بذل المال في سبيل الخير والحق لا يعد إسرافًا ولو أنفق ماله كله، وبذله في غير وجه الحق يعد إسرافًا ولو كان المنفق قليلًا.
فلدينا إسراف في المطعم والمشرب، فتجاوز اللقيمات اللاوتي يقمن الصلب، ونتعدى في الأنْصبة التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم للطعام والشراب والنفس والراحة، حتى يستطيع المرء أن يذكر ربَّه وينشط لعبادته بيسر وراحة، قال عليه الصلاة والسلام:((ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محاله فثلث لطعامه، وتلث لشرابه، وثلث لنفسه)).
ونبالغ- أحيانًا- في اتباع ذلك لكميات من المشروبات، فتجتمع كلُّها في المعدة فتتعب في هضمها، ويطير منها ما يطير إلى الدماغ فيثقله عن التفكير ويسلمه للكسل والخمول، وإلى القلب فيقسيه.
ومع ما في هذا الإسراف- في المطعم والمشرب- من أضرار، فالمصيبة أعظم حين يتجاوز المسلم في أكله وشربه الحلال إلى الحرام، ((وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به)) (1).
ونسرف في الملبس حين نبالغ في جمع كمية من الملابس نلبس بعضها ولا نحتاج لبعضها الآخر، ولئن لم يسلم الرجال من الإسراف في الملبس، فالأمر عند النساء أعظم وأخطر، وبعضهن مشغوفة بكل موضة جديدة، وعلى علم بأحدث الموديلات الوافدة. ومحلات عرض الأزياء نموذج للإسراف في حياتنا، واعتقاد بعض النساء بضرورة الجديد الذي لم يُر من قبل لكل مناسبة- لا أساس له في
(1) صحيح الجامع الصغير 4/ 172.
الشرع، ولا مكان له في العقل؟ وقع ذلك فالإسراف في تجاوز الحلال إلى الحوام في الملبس أدهى وأمر- وهو في حقّ الرجال والنساء- فإسبال الثياب، والتختم بالذهب، ولباس ثياب الشهرة، كلُّ ذلك منهيّ عنه في حق الرجال.
وفي حقِّ النساء ما وصف أو شفّ، وما شابهت المرأة فيه الرجال، أو قلدت به أهل الكفر والضلال.
عباد الله ونُسرف- أحيانا في اتخاذ الزينة وتجميع الأثاث فنتخذ من التحف أغلاها، وتمتلئ بها أركان البيوت، ونظل نكدِّس من الأثاث والفُرُش ما نحتاج وما لا نحتاج.
وقد لا يمضي عليها طويل وقت حتى نملَّ منها ونفكر في تغييرها، ولدى البعض نزعة موسمية لتغيير الأثاث ما أنزل الله بها من سلطان- فآلات التبريد، أو غرف النوم، أو نوع المفروشات تغير لا لفسادها وعدم صلاحها .. بل لتقادمها، والحاجة إلى التجديد فيها .. {إنه لا يحب المسرفين} .
والمصيبة أعظم حين يدخل الحرام في الزينة، فتُستخدم آنية الذهب والفضة، أو ما يطلى بشيء منهما في الأواني المستخدمة في بيوتنا ويكفينا أن نتذكر سويًّا قوله صلى الله عليه وسلم ((الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) (1).
قال العلماء: والنهي يعمُّ ما كان من الذهب والفضة، وما كان مطليًّا بشيء منها (2).
إخوة الإسلام! إسرافنا في الماء ظاهر حين نستنزف كميات من الماء تفوق
(1) أخرجه مسلم.
(2)
الشيخ ابن باز: التحذير من الإسراف والتبذير ص 30.
حاجتنا، ولا نتواصى في الاقتصاد من الماء قدر ما يكفينا، ولربما كانت رقابتنا للبشر وخوفنا منهم أشدَّ من رقابتنا لله حين طغى الإسراف في حياتنا.
ومع ذلك فثمة إسراف في الماء قد يغيب عن أذهان البعض منّا، وتضافرت مدونات العلماء على تجليته لنا، إنه الإسراف في الوضوء والطهارة.
وقد عقد الترمذي- يرحمه الله- في سننه بابا في كراهية الإسراف في الوضوء (1).
وفي سنن ابن ماجه ((باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه)) وبه ساق حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال:((هذا الوضوء، فمن زاد على هذا، فقد أساء أو تعدى أو ظلم)) (2) حسنه ابن حجر وقال: ولكن عدَّه مسلم في جملة ما أنكر على عمرو بن شعيب لأن ظاهرها ذمُّ النقص من الثلاث، وأجيب. بأنه أمر سماوي والإساءة تتعلق بالنقص، والظلم بالزيادة.
وقيل: فيه حذف تقديره (من نقص من واحدة) ويؤيده ما رواه نعيم بن حماد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعًا: ((الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، فإن نقص من واحدة أو زاد على ثلاث فقد أخطأ)) (3). وقال البخاري- في صحيحه- في كتاب الوضوء: وكره أهل العلم الإسراف فيه وأن يُجاوز فعل النبي صلى الله عليه وسلم (4).
(1) صحيح سنن الترمذي 1/ 18، ولم يصحح الألباني شيئًا من أحاديثه.
انظر: الفتح 1/ 232.
(2)
حسنه الألباني وجود إسناده ابن حجر (صحيح سنن ابن ماجه 1/ 72، الفتح 1/ 234).
(3)
الفتح 1/ 332.
(4)
انظر: الفتح 1/ 232.
وعد العلماء الإسراف في الوضوء من (الوسوسة) المنهي عنها، ومن (مصايد الشيطان) للإنسان، وساق ابن القيم يرحمه الله في فصل (الإسراف في الوضوء والغسل) أكثر من حديث في ذلك، فليراجعه من شاء (1).
يا أخا الإيمان! ناهيك عن الإسراف في الشهوة، وتفريغ الطاقة في غير موضعها التي أمر الله بها، سواء كان ذلك عن طريق الزنا، أو اللواط .. عافانا الله والمسلمين من أسباب الردى، ومن صفات المؤمنين أنهم {لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} (2).
وليس يخفاك مصير قوم لوط، وقد سمى الله جُرمهم إسرافًا، كما في قوله تعالى:{أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون} (3).
ونهى الله عن (الزنا) واعتبره {فاحشة وساء سبيلا} (4).
أيها المسلمون! ثمة إسراف عند فئة من الناس يحسن التنبيه عليه، إنه الإسراف في العزاء، حين يتكلف أهل الميِّت بإقامة الولائم للمعزين وربما خصوا اليوم الأول أو الثالث، أو الرابع، أو في الأربعين .. وكلُّ ذلك بدع منكرة لا أصل لها في شريعة الإسلام.
قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: ((كنا نعدُّ الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة
(1) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان 1/ 217.
(2)
سورة المؤمنون، الآيات: 5 - 7.
(3)
سورة الأعراف، الآيتان: 80، 81.
(4)
سورة الإسراء، آية:32.
الطعام بعد الدفن من النياحة)) (1).
والسُّنة أن يُصنع لأهل الميت طعامًا، لانشغالهم بميتهم، وليس العكس، فعليكم بالسنَّة واحذروا البدعة يرحمكم الله.
ألا فالتزموا شرع الله- معاشر المسلمين- ودعوا الإسراف والمخيلة والبدع المنكرة {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين} كذا أمر ربُّكم، وحذركم من الإسراف وعواقبه في الدنيا والآخرة، فقال جلّ قائلًا عليمًا:{وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} (2).
وقال عليه الصلاة والسلام: «كلوا وتصدقوا، والبسوا في غير سرفٍ ولا مخيلة» (3). نفعني الله وإياكم.
(1) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن (ابن باز: التحذير من الإسراف والتبذير 24).
(2)
سورة طه، الآية:127.
(3)
أخرجه النسائي، وبنحوه البخاري تعليقًا ووصله ابن حجر (جامع الأصول 11/ 717، 718).