الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين صاحب الفضل والإحسان، يعطي ويمنع ويقبض ويبسط، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون! كما يحتاج المرءُ إلى الوفاء بعهده مع الله ومع نفسه، فهو محتاج للوفاء مع الآخرين، وأولى الناس بالوفاء الوالدان وحقهما مقرون بالعبودية لله والإحسان إليهما جاء في أكثر من آية في كتاب الله، وتضافرت نصوص السنة على تأكيده- وليس هذا موضع البيان- ومن أعظم اللؤم والعقوق أن يتنكر الإنسان لوالديه أو لأحدهما إذ أغناه الله، أو أصبحا شيخين عاجزين وهما أشد حاجة إليه ..
ومن كان له فضل عليك من الأقربين أو الأبعدين فلابد من الوفاء معه وردِّ الجميل إليه فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، ومن اللؤم أن تتعرف على الناس حال حاجتك وتتنكر لهم حين غناك وعلوِّ منزلتك، ولقد كان من نهج الصالحين الوفاء مع أهل السابقة والفضل ولو كان فضلهم لغيرهم، فهذا ابن عباس وضي الله عنهما يتمثل الوفاء لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما لقاء وفائه مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحين قدم أبو أيوب البصرة على ابن عباس، فرّغ له بيته وقال: لأصنعنَّ بك كما صنعت برسول الله صلى الله عليه وسلم، كم عليك؟ قال: عشرون ألفًا، فأعطاه أربعين ألفًا، وعشرين مملوكًا، ومتاع البيت (1).
(1) أخرجه الطبراني (3877) ورجاله ثقات، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي في المستدرك (3/ 461، 462)، ومجمع الزوائد (9/ 323)، وسير أعلام النبلاء
(2/ 4101).
أما شاعر الأندلس ابن عمار المهْري فيذكر أنه مدح فلاحًا فأعطاه مخلاة شعير لحماره، فلما آل بابن عمارٍ الحال إلى الإمرة ملأ للفلاح مخلاته دراهم وقالط: لو ملأها برًّا لملأناها تبرًا (1).
أيها المؤمنون! تطيب الحياة ويسعد الأحياء مع الوفاء، ويبين حجم الوفاء عن معدن الرجال .. وإذا كان الوفاء مطلبًا في كلِّ الأحوال فهو يطيب في ظروف المحن والشدائد حين يتنكر الناس، ويبلغ الضعف والهوان مبلغهما ويقل الناصر ويندر المعين وهنا يسود في المجتمع أصحاب الجود والإقدام، حين يبخل الآخرون ويتراجعون:
لولا المشقة ساد الناس كلُّهم
…
الجود يفقر والإقدام قتال
عباد الله! حين يأمر الله بالوفاء بالعهد يبين الآثار السيئة المترتبة عليه فيقول تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} (2).
قيل في آثار الغدر أنه ينزع الثقة، ويثير الفوضى، ويمزق الأواصر، ويرد الأقوياء ضعفاء واهنين، ويصد عن الدخول في الدين، والدِّين الحق يكره أن تُداس الفضائل في سوق المنفعة العاجلة، كما يكره أنه تنطوي دخائل الناس على نوع من النيات المغشوشة، ويوجب الشرف على الفرد والجماعة حتى تصان العقود على الفقر والغنى، وعلى النصر والهزيمة.
(1) تهذيب سير أعلام النبلاء 3/ 1321.
(2)
سورة النحل، الآيتان: 91، 92.
ولذا قال تعالى بعد الأمر بالوفاء بالعهد {ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم * ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون} (1).
احذروا عباد الله أن تشتروا بعهد الله ثمنًا قليلًا، والله يذكرنا أن ما عنده خير وأبقى، وإياكم أن تتخذوا الأيمان بينكم دخلًا، أي خديعة ومكرًا فتزل الأقدام بعد ثبوتها وينتكس الغادر ويصد بهذه الأخلاق عن الدخول في دين الله (2).
أمة الإسلام! ومن آثار التخلي عن العهود فناءُ الأمم، وإهلاك القرى الظالمة كما في قوله تعالى:{وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} (3).
ومما يجدر التنبيه إليه الغدر في أداء الحقوق المالية سواءً كانت قرضًا أو دينًا .. (ولأهميتها سأفردها بحديث خاص بإذن الله تعالى). أيها المسلمون اتقوا الله في عهودكم ومواثيقكم وأيمانكم، ولا تفتنكم الحياة الدنيا وتنسوا عقاب الآخرة.
تمثلوا الوفاء في حياتكم كلِّها وروّضوا أنفسكم على ذلك، تذكروا عظيم نعمةِ الله عليكم فقابلوها بالشكر والطاعة والإحسان، وتذكروا فضل من له فضل عليكم فجازوهم بالشكر والإحسان .. ولا تَمُتْ فيكم مشاعر الوفاء والرحمة .. وتطغى عليكم الأنانية والغفلة. على الوالدين أن يربوا أولادهم على الوفاء، وعلى المعلمين والمعلمات أن يعلموا الطلاب والطالبات معاني الوفاء، إن الشكر للناس
(1) سورة النحل، الآيتان: 94، 95.
(2)
تفسير ابن كثير 4/ 520.
(3)
سورة الأعراف، الآية:102.
أدب إسلامي، وهو الطريق للشكر لله، وفي الحديث:((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)) (1). والدعاء باب من أبواب الوفاء لمن لم يستطع غيره ((ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)) (2). وفي الحديث الآخر ((من صنع إلية معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا. فقد أبلغ في الثناء)) (3).
كذا علمنا الإسلام وأدبنا القرآن فلتحافظ على الوفاء بالعهود ولتذكر لأهل الفضل فضلهم. والله يحب الشاكرين ويحب المحسنين.
(1) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما بإسناد صحيح (صحيح الجامع 6/ 237).
(2)
أخرجه أبو داود والنسائي بسند صحيح (جامع الأصول 11/ 692).
(3)
رواه الترمذي وغيره بسند صحيح (صحيح الجامع 6/ 8).