الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في أعقاب شهر الصيام
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم علن الصحابةِ أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين، فإن تقوى اللهِ أقومُ وأقوى وتوكلوا على الله ومن توكل على الله كفاه وأغناه، وادعوا خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين:{واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} (2).
أيها المسلمون! في الأيام الماضية ودَّعنا شهرَ الصيام، ولكن ألسنتنا لا تزالُ طريةً بالقرآنِ، وقلوبنا عامرةً بالتقوى والإيمان .. أو هكذا ينبغي أن تكون آثارُ شهرِ الصيامِ والقيامِ وتلاوةِ القرآنِ، ومن المفترض أن لا تحيط الغشاوة بأبصارنا فتمنَعها من رؤية المحتاج وتُقبضَ أيدينا عن وجوهِ الإنفاقِ والبرِّ والإحسان، تُرى أتستطيعُ الشياطينُ بعد أن أطلقت قيودُها أن تحجبنَا عن حضورِ جماعات المسلمين أناءِ الليلِ وأطرافِ النهار، وقد كنا في رمضان من المبادرين إلى الصلوات وفي مقدمتها
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 7/ 10/ 1417 هـ.
(2)
سورة البقرة، آية:281.
صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العشاء، وإذا كان من فضل الله علينا في رمضان أن تبعدنا عن سماتِ المنافقين أفنتخبط في الظلمة في شوال أو غيره من أشهر العام، فننامُ عن بعض الصلوات المكتوبة ونُفرطُ في صلاة الجماعة.
وإني سائل نفسي وإياك- يا أخا الإسلام- كم جزءًا من كتابِ اللهِ قرأنا بعد انقضاء شهر الصيام؟ وكم ركعةً للهِ من غيرِ الفريضة ركعناها بعد انقضاء شَهرِ القيام، وهل صمنا شيئًا من ستِ شوالِ التي جاء في فضلها ما نعلَم، بعد انقضاءِ شهر الصيام إلى غير ذلكم من أعمالٍ عَمرتْ بها قلوبنا واستقامتْ بها حياتنا في شهر رمضان .. فإن قلنا: إن تقصيرنا هذه الأيام لفرحةِ العيد وظروفِه وهو معوضٌ بصلة الأرحامِ وزيارةِ الأصحاب والإخوان .. ولا يزالُ في الشهر متسعٌ للصيام أو التلاوة أو غيره من الطاعات والإحسان فيرد السؤالُ الآخر عاجلًا .. وهل أضمرنا نيّةَ الخير ومواصلة الطاعةِ وعدم الركونِ للكسل بعد شهر رمضانَ؟ وهل سنأخذ أنفسنا بالعزيمةِ أم يمضي العمرُ بالأماني الفارغة وركوبِ بحرِ التّمني؟ وهو البحرُ الذي لا ساحل له، وهو ما قيل-مركبُ مفاليسِ العالم- وبضاعةُ ركَّابهِ مواعيدُ الشيطان وخيالاتُ المحالِ والبهتان، وهي كما يقول ابنُ القيم رحمه الله بضاعةُ كلَّ نفسٍ مهينةٍ خسيسةٍ سُفلية، ليست لها همَّةٌ تَنال بها الحقائقَ الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الذهنية (1).
عبادَ اللهِ إذا كنا قد عزمنا على التوبة في شهر التوبة والغفران فمن الفهومِ الخاطئةِ أن نقصرَ التوبة على شهر رمضان ومن الخطأ كذلك أن نقصر التوبة على الإقلاعِ عن الذنبِ والندم عليه، وعدم الرجوعِ إليه مرةً أخرى فهذا جزءٌ من التوبة، وجزؤها الآخر يبسطه لنا الإمامُ ابن القيم رحمه الله من خلال نصوصِ الوحيين، فيقول
(1) مدارج السالكين 1/ 491.
مجليًا للصورة وموضحًا لحقيقة التوبة- وهو كلام نفيسٌ فاعقلوه-: ((وكثيرٌ من الناسِ إنما يُفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاودَ الذنبَ، وبالإقلاع عنه في الحالِ، وبالندم عليه في الماضي، وإن كان في حقِّ آدمي فلابد من أمر رابع وهو التحلل منه، وهذا الذي ذكروه بعضُ مُسمى التوبة بل شرطها، وإلا فالتوبةُ في كلامِ اللهِ ورسولهِ- كما تتضمن ذلك- تتضمن العزم على فعلِ المأمور والتزامهِ فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزمِ والندمِ تائبًا، حتى يوجدَ منه العزمُ الجازم على فعلِ المأمورِ، والإتيانِ به، هذا حقيقةُ التوبة، وهي اسمٌ لمجموع الأمرين .. ثم يقول فإن حقيقة التوبةِ الرجوعُ إلى اللهِ بالتزامِ فعلِ ما يُحِب، وترك ما يكره، فهي رجوعٌ من مكروه إلى محبوب، فالرجوع إلى المحبوبِ جزء مسماها، والرجوعُ عن المكروه الجزءُ الآخر، ولذا علّق سبحانه الفلاحَ المطلقَ على فعل المأمور وتركِ المحظورِ بها فقال: {وتوبوا إلى الله جميعًا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون} (1) فكلُّ تائبٍ مفلح ولا يكون مفلحًا إلا من فَعل ما أمر به وتركَ ما نهى عنه، وقال تعالى:{ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} (2) وتاركُ المأمور ظالم، كما أن فاعلَ المحظور ظالمٌ، وزوالُ اسمِ الظلمِ عنه إنما يكون بالتوبةِ الجامعةِ للأمرين ..
إلى أن يقول رحمه الله فالتوبةُ إذًا هي حقيقة دينِ الإسلام، والدين كلُّه داخلٌ في مسمى التوبة وبهذا استحق التائبُ أن يكون حبيبَ اللهِ، فإن الله يُحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنما يُحب اللهُ من فعَل ما أُمر به وتركَ ما نُهيَ عنه، والتوبةُ هي الرجوعُ مما يكرهه اللهُ ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه الله ظاهرًا وباطنًا، ويدخل في مسماها الإسلامُ والإيمانُ والإحسان. لهذا كانت غايةَ كلِّ مؤمن، وبدايةَ الأمر وخاتمتَه، ثم يختم حديثه بالقول: وأكثرُ
(1) سورة النور، آية:31.
(2)
سورة الحجرات، آية:11.
الناسِ لا يعرفون قدرَ التوبةِ ولا حقيقتَها فضلًا عن القيام بها عملًا وحالًا .. ولولا أن التوبةَ اسمٌ جامعٌ لشرائع الإسلامِ وحقائقِ الإيمان لم يكن الربُّ تبارك وتعالى يفرح بتوبةِ عبده ذلك الفرحَ العظيم فجميعُ ما يتكلم فيه الناسُ من المقاماتِ والأحوال هو تفاصيلُ التوبةِ وآثارُها (1).
أيها المسلمون! إذا كان هذا معنى التوبةِ وقدرِها، فاعلم أن التوبةَ محفوفةٌ بتوبةٍ من الله على العبد قبلها، وتوبةٍ منه بعدها، فتوبته بين توبتين من ربِّه سابقةٍ ولاحقةٍ، فإنه تاب عليه أولًا إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا، فتاب العبدُ فتاب اللهُ عليه قبولًا وإثابةً وتأملوا قولَ الله سبحانه:{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم} (2).
فأخبر سبحانه أن توبَته عليهم سبقت توبتُهم، وإنها هي التي جعلتهم تائبين فكانت سببًا مقتضيًا لتوبتهم، فدل على أنهم ما تابوا حتى تابَ اللهُ عليهم، والحكمُ ينتفي لانتفاء علته (3).
فبادر إلى التوبةِ بمفهومِها الشاملِ- يا أخا الإيمان- عاجلًا، واسأل الله أن يوفقَك إليها ابتداءً وأن يقبلها منك ويُثيبَك عليها انتهاءً والزم الاستغفار، وهو غيرُ التوبةِ، إذا ورد في موضع واحد فالاستغفارُ طلبُ وقاية شرِّ ما مضى، والتوبةُ الرجوعُ وطلبُ وقاية شرِّ ما يخافه في المستقبل من سيئاتِ أعماله، والاستغفارُ من باب إزالة الضرر، والتوبةُ طلبِ جلبِ المنفعة، ولهذا جاء الأمرُ بها مرتبًا بقوله:
(1) ابن القيم، مدارج السالكين 1/ 331 - 333 باختصار.
(2)
سورة التوبة، الآيتان: 118، 117.
(3)
المدارج 1/ 339، 340.
{استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} فإنه الرجوعُ إلى طريقِ الحقِّ بعد مفارقةِ الباطل (1).
أيها المسلمون! مداواةُ القلوبِ بهذه الأدوية الناجعة لا يتوقف على رمضان. فمصيبةٌ أن يفئ المسلمون إلى ربهم في رمضان ويظلوا شاردين عن هداه في سائر العام، مصيبة عظمى أن يقصرَ المسلمُ إجابته لداعي القرآن في شهر رمضان يظل هاجرًا للقرآنِ طوال العام.
إن التوبة إلى الله إن فضلت في زمانٍ دون زمان فهي باقيةٌ صمامَ الأمانِ لمن ابتغى الأمنَ ورضا الرحمن، ولستَ تدري يا أخا الإيمان متى يحينُ الرحيلُ فتنتقلُ من دار الفناءِ إلى دار المقام.
وإن الإنابة إلى الله ليست محدودةً بزمانٍ ولا مكان، بل دُعيت إليها قبل حلولِ العذاب، وحينها يعزُّ الناصرُ وتنتهي فترةُ الإمهال، وإذا أنبتَ بها صادقًا فأظهر من الذلِ والافتقارِ بين يديه ما يشهد بعبوديتك للواحدِ الديان، يُحكى عن بعض العارفين أنه قال: دخلتُ على اللهِ من أبوابِ الطاعاتِ كلها، فما دخلتُ من باب إلا رأيتُ عليه الزحام، فلم أتمكن من الدخولِ حتى جئتُ بابَ الذلِّ والافتقار، فإذا هو أقرب بابٍ إليه وأوسعُه فلا مزاحمَ فيه ولا معوّق.
وكان شيخ الإسلامِ ابنُ تيمية رحمه الله يقول: ((من أرادَ السعادةَ الأبديةَ فليلزم عتبة العبودية)) (2).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى
(1) السابق 1/ 335.
(2)
مدارج السالكين 1/ 464.
ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون} (1).
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن وسنة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
(1) سورة الزمر، الآيتان: 54، 53.