الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله بكل حال والمعبود على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرد بكل كمال، وتفضل على عباده بجزيل النوال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بكريم الصفات، وجميل الخصال، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المبعوثين قبله، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد.
أيها المسلمون! أعودُ إلى الشباب ثروة الأمة المنتظر، عنصر حركتها، ومصدر طاقتها .. ودليل حيويتها، وسبب نهضتها، أعود إليهم مذكرًا -وهم على أبواب الإجازة- بقيمة الوقت، وعلو الهمة، وأقول كما قال مَنْ قبلي:((أيها الشباب إن الشهوات والعواطف، وحبَّ الراحة، وإيثار اللذات، هو الذي يسقط الهمم ويُفتِّر العزائم، فكم من فتيان يتساوون في نباهة الذهن، وذكاء العقل، وقوة البصيرة، ولكن قويَّ الإرادة فيهم، وعالي الهمة منهم، ونفّاذ العزيمة فيهم هو الكاسب المتفوق، يجد ما لا يجدون، ويبلغ من المحامد والمراتب ما لا يبلغون، بل إن بعض الشباب قد يكون أقلَّ إمكانيات، وأضعف وسائل ولكنه يفوق غيره بقوة الإرادة وعلوِّ الهمة، والإصرار على الإقدام .. )) (1).
إن من المؤسف حقًّا أن يعيش شباب في عمر الزهور، واكتمال القُوى لا يُبالون في إضاعة أوقاتهم سُدى، بل إنهم يسطون على أوقات الآخرين ليقطعوها باللهو الباطل، والشئون الساقطة والأمور المحتقرة.
يجب أن يُنقذ شباب الأمة من هذا الذهول المهلك والغفلة عن الغد، واستغراق مميت في الحاضر.
(1) صالح بن حميد، توجيهات وذكرى م 2/ 206، 207.
ومن الغفلة والحرمان وسبيل فناء الأمم أن يألف شباب أصحاء النوم حتى الضُحى، تطلع عليهم الشمس وتتوسط كبد السماء وهم يغطون في نوم عميق، قد بال الشيطان في آذانهم، وإذا قام أحدهم فإذا هو ثقيل النفس، خبيث النفس، هزيل القوى، كسلان، على حين تطلع الشمس على قوم آخرين من غير أهل الإسلام وهم منهمكون في وسائل معاشهم وتدبير شئونهم وسنن الله تأبى إلا أن يُعطى كلُّ امرئ حسب استعداده وعمله وجدِّه. والسماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة (1).
أيها الشاب! لا يستوي منكم من حفظ وقته، واستفاد من سني عمره، وقدَّر الشباب حقَّ قدره، فجدَّ واجتهد وسارع للعلياء بهمة ودأب .. ومن فرّط وسوّف وظن أن المستقبل سيكون أكثر فراغًا من الحاضر، فما هذا إلا وهم وسراب، والواقع يشهد أنه كلما كبُرت سِنُّ المرء كثرت مسئولياته وضاقت أوقاته، وضعفت طاقاته، فالوقت في الكِبَر أضيق، والجسم فيه أضعف، والصحة هزيلة، والنشاط كليل. فبادروا ساعتكم واستثمروا شبابكم، ولا تهدروا طاقتكم وإياكم والتعلق بالغائب المجهول، وما التسويف إلا تفويتٌ للحق، وخسران لليوم، وتضييع للغد.
معاشر الشباب! لن يُحسَّ بالفراغ، أو يشعر بطول الوقت وثقل الأيام من كان على وقته حريصًا ولآخرته ساعيًا وفي دنياه عاملًا .. ولقد كان السلف الصالحون يمقتون المرء لا هو في عمل للآخرة ولا شغل للدنيا.
ألا وإن الأعمال التي يمكن أن يستثمر الشابُّ فيها وقته على الدوام -وفي أيام الإجازة خصوصًا- كثيرة متنوعة، وأذكر بشيء منها على سبيل التنبيه لا الحصر.
فكتابُ الله خير ما قضيت به الأوقات، واستنفدت له الأعمار حفظًا،
(1) ابن حميد، المرجع السابق ص 136.
ومراجعة، وتدبرًا، ومن التحدث بنعم الله أن فئات من الشباب الصالح هذا شأنهم، والأمل في الله كبير أن يلحق بهم غيرهم .. بل تجاوزت همم بعض الشباب إلى حفظ متون السنة، وكثرة القراءة في كتب العلم دون أن يقعدهم ذلك عن معرفة واقعهم والمتابعة لأحوال أمتهم، وما أجمل الشباب يعيدون للأمة سالف مجدها، ويحيون تراثها، ويجددون ما اندثر من كنوز العلم وجمهور العلماء السابقين في تاريخها، ويُسرون لأفراح أمتهم ويشاركونها أحزانها دون أن يداخلهم شيء من الغرور والكبرياء، أو يصدروا أحكامًا أو يتصدروا للفتيا وهم بعدُ في رحلة الطلب، ولهم في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وقد كانوا يتدافعون الفتيا، وهم مَنْ هُم علمًا وعملًا.
أيها المسلمون! إذا كان لجماعات تحفيظ القرآن الكريم دورٌ يذكر فيشكر وحلقهم تملأ المساجد والمدن والقرى، وتفتح أبوابها للراغبين وتنفق على المعلمين والمتعلمين فلجمعيات البر الخيرية، وللمعاهد الفنية دورها في افتتاح الدورات المتخصصة وإسعاف الشباب بالمهارات المختلفة، فضلًا عن مناشطها الثقافية وخدماتها المختلفة.
وترعى وزارة المعارف -مشكورة- المناشط اللامنهجية طوال العام، وتُعنى بالمراكز الصيفية في الإجازات الصيفية ومنتصف العام، وهي مراكز تُعنى بحفظ أوقات الشباب ورعاية مواهبهم واستثمار طاقاتهم إذا توفر لها العاملون الأمناء والمشرفون الأكفاء، وتفتح النوادي الأدبية أبوابها للشباب يقرءون ويقترحون وفي المسابقات الثقافية والأدبية يتنافسون، وهم على كلِّ عمل خير مشكورون وكم هي لفتة طيبة حين تُعنى مكاتب الخدمة المدنية، أو شركات القطاع الخاص بتوفير فرصٍ وظيفية للشباب في الإجازات يقضون بها فراغهم ويسدون بها حاجاتهم.
أيها الشباب! ثمة فرصة يزهد بها البعض منكم رغم أهميتها ..
إنها الجلوس بعض الوقت مع الشيوخ المجربين، والاستماع إلى أحاديثهم، والاستفادة من خبراتهم، لقد قيل: إن الشيوخ أشجار الوقار ومناجع الأخبار لا يطيش لهم سهمٌ، ولا يسقط لهم وهمٌ، إذا رأوك في قبيح صدُّوك، وإن أبصروك على جميلٍ أيدوك وأمدوك، كما قيل: عليكم بآراء الشيوخ فإنهم إن فقدوا ذكاء الطبع فقد مرّت على عيونهم وجوه العبر، ووردت على أسامعهم آثار الغَير، ومن طال عمره نقصت قوة بدنه، وزادت قوة عقله، والأيام لا تدع جاهلًا إلا أدبته، وكفى لأولي الألباب ما جربوا (1).
أيها الشباب .. استفيدوا من تجارب من سبقكم، وأضيفوا إلى رصيد معارفكم خبرات ومعارف من سبقكم - برّوا بوالديكم، وإياكم أن تنظروا إليهم على أنكم عالمون وهم جاهلون .. وقدموا طاعتهم على طاعة غيرهم بالمعروف، وعاملوهم بالرأفة والإحسان، فذلك هدي القرآن وطريق الجنان، وصلوا أرحامكم، وقدموا لهم الخير فهم أولى من غيرهم بالدعوة والإحسان، وكونوا عناصر خير في مجتمعكم، ورجالًا أوفياء لأمتكم، ومصابيح دجى تضيئون حين تكونون، وتُفتقدون حين تغيبون، ولا تملُّ منكم أو يضيق بتصرفاتكم الأقربون والأبعدون، وإياكم والاغترار بالفكر الدخيل، أو التلبيس بشيء من جنوح الفكر، وبعد هذا فلا يرجفن بكم المرجفون، ولا يستخفنكم الذين لا يوقنون.
سددكم الله، وألهمكم رشدكم وجعلكم قرة عين لوالديكم، وثبتكم على الحقِّ ونفع بكم، وصدق الله وهو أصدق القائلين {ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة
(1) ابن حميد، المرجع السابق ص 143 مجموعة 2.
إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير} (1).
اللهم اهدنا وثبتنا شيوخًا وشبابًا ذكرانًا وإناثًا .. اللهم ادفع عنا وعن مجتمعنا وأمتنا كلَّ فتنة ومكروه.
(1) سورة فاطر، الآية:18.