الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون! عاد جعفر من الحبشة وبلغت فرحةُ النبي صلى الله عليه وسلم بمقدمه مبلغها، ولم يشغله عنها فرحته بفتح خيبر وكسرِ شوكة عدوٍّ لدود للمسلمين، ألا وهم اليهود .. والاستيلاء على حصونهم المنيعة.
فلماذا فرح رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بجعفر هذه الفرحة- ألأن جهاده ودعوته تستحق كل هذه الفرحة والتقدير؟ أم لأن صبره وطول غربته تستحق العناية والتقدير؟ أم لأنه قدم يوم قدم وقد كسرت شوكة قريش من قبل ثم تلاها كسرُ شوكة اليهود من بعد .. وبمجيء جعفر ومن معه يلتئم شمل المسلمين، ويجتمع ما تفرق منهم بسبب المطاردة والإيذاء من قبل أعداء الدين؟
وأيًّا ما كان السبب هذا أو ذاك أو لأسباب أخرى فالذي لا شك فيه أن الدرس الذي ينبغي أن نعيه هو أن جعفرًا رضي الله عنه عاد يوم أن عاد من الحبشة إلى المدينة لا ليأخذ فترة نقاهة لطول غربته، ولا ليستلذَّ بالراحة - ولو لفترة من الزمن- إثر جهاده ودعوته في أرض الحبشة .. بل عاد جعفر ليواصل الجهاد والدعوة للدين الحق مع قافلةِ المؤمنين.
فلم تمض سنة على مقدمه حتى كان أحد القادة الثلاثة في الجيش الإسلامي الذاهب لمنازلة الروم في مؤتة في السنة الثامنة للهجرة.
وفي معركة غير متكافئة في العدد والعدة وقف المسلمون وعدتهم ثلاثة آلاف
بإزاء الروم وجمعتهم يبلغ مائتي ألف مقاتل، الأمر الذي جعل المسلمين -في البداية- يتشاورون أيقدمون على قتال العدو رغم قلة عددهم وكثرة عدوهم، أم يكتبون للنبي صلى الله عليه وسلم يخبرونه، فإما يمدهم بالرجال، أو يأمرهم بأمره .. ولكن أحدَ قادتهم شجعهما على القتال قائلًا: والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظفر وإما شهادة.
فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم الجموع بقرية يُقال لها: مَشارف، فدنا العدو، وانحاز المسلمون إلى (مؤتة) فالتقى الناس عندها، ثم اقتتلوا، والراية في يد زيد بن حارثة رضي الله عنه فلم يزل يقاتل بها حتى شاط في رماح القوم وخرَّ صريعًا، وأخذ الراية جعفر رضي الله عنه فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه فعقرها ثم قاتل حتى قتل، فكان جعفر أولَّ من عقر فرسه في الإسلام عند القتال، ويقال إن جعفرًا حين قطعت يمينه أخذ الراية بشماله، فقطعت يساره فاحتضن الراية حتى قتل (1)، ثم أخذ الراية عبدالله بن رواحة وتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم نزل فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم رضي الله عنه فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجلٍ منكم -وقد استشهد الأمراءُ الثلاثة الذين عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنت لها، قال ثابتٌ: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد سيف من سيوف الله -كما قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة فدافع القوم، وحاش بهم، ونازل الأعداء وأوقع بهم حتى ثبت أنه انكسرت في يده يومئذ تسعة أسياف، وما بقي في
(1) رواه ابن هشام بسند منقطع 4/ 31، رزق الله 545.
يده إلا صفيحة يمانية (1)، ثم انحاز بالمسلمين وانصرف الناس .. (2).
إخوة الإيمان! نعود إلى جعفر خاصة .. وليس ذلك بمقللٍ لجهود المسلمين عامة فلئن عرفته أرضُ الحبشة صابرًا محتسبًا، عابدًا داعيًا، معلمًا .. فقد عرفته أرضُ مؤتة مجاهدًا صادقًا وشجاعًا ثابتًا .. تثخنه الجراح فيثبت وهو يتطلع إلى النصر أو الشهادة وقد كان له ما أراد، ولقبه الرسول صلى الله عليه وسلم بلقب لم يعلمه في حياته الدنيا، وأخبر أن الله أبدله جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء (3).
وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا سلم على عبد الله بن جعفر قال له: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين (4).
ولكم معاشر المسلمين أن تعلموا شجاعة جعفر وثباته في معركة مؤتة من خلال نصٍّ أورده البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت في الغزوة (مؤتة) فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين من طعنة ورمية.
وفي رواية أخرى في الصحيح قال ابن عمر: «وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دُبره يعني ظهره» (5).
قال ابن حجر وهو يجمع بين هذه الأقوال: وفي قوله: ليس شيء منها في دبره
(1) الصحيح مع الفتح 7/ 515.
(2)
ابن القيم: زاد المعاد 3/ 383.
(3)
أورده الهيثمي من حديث ابن عباس، وقال: رواه الطبراني بإسنادين وأحدهما حسن، مجمع الزوائد 9/ 272.
(4)
الصحيح مع الفتح 7/ 515.
(5)
الصحيح مع الفتح 7/ 510، ح (4260)(4261).
بيان فرط شجاعته وإقدامه (1).
أيها المؤمنون! بقي أن نعلم من حياة جعفر بذله للخير وحبَّه للمساكين، وعنه حدَّث أبو هريرة رضي الله عنه فقال: وكان جعفر خير الناس للمساكين، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، فإذا لم يجد لنا شيئًا أخرج إلينا عُكةً أثرُها عَسَلٌ فنشقها ونلعقها (2).
ويكفيه فخرًا ومن أجل مناقبه أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في شأنه: «أشبهت خَلقي وخُلُقي» (3).
رضي الله عن جعفر المهاجر الصابر، والمجاهد الصادق، والشهيد الطيار، والمنفق الجواد، أبي المساكين وأشبه الناس خَلقًا وخُلقًا بخير البرية أجمعين، اللهم إنا نشهدك على محبته ومحبة أصحابه وإن ضعفت هممنا عن اللحاق بهم، اللهم احشرنا معهم، واجمعنا بهم، وأكرمنا كما أكرمتهم، ووفقنا للخير كما وفقتهم.
(1) الفتح 7/ 512.
(2)
البخاري ح (3708).
(3)
أخرجه البخاري في عدة مواضع ح (2698، 3769).