الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مثل الإسلام
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ومن يضلل الله فما له من هاد وأشهد أن لا إله إلا الله، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، أنزل عليه من ربه {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} (2).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء، وعلى آل بيته السادة النجباء، وارض اللهم عن أصحابه أولي الأحلام والنهى والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الملتقى وإلى ربِّك المنتهى.
أما بعد: فأوصيكم أيها الناسُ ونفسي بتقوى الله وتعظيم أمره، {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} ، {ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} (3).
أيها المسلمون! نحتاج في سيرنا إلى الله إلى معرفة حقيقة الإسلام ومَثَله في الحياة، وأن نعلم حدود الله فلا نَهتك أستارها المُرخاة، وأن نتبين الداعي للحقِّ فنتبعه، وأن تستيقظ ضمائرنا لواعظ الله في أنفسنا فلا نلج الحرام وإن رغبته
(1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 10/ 8/ 1417 هـ.
(2)
سورة القصص، الآية:56.
(3)
سورة الحج، الآيتان: 1 - 2.
نفوسنا، ومالت إليه أهواؤنا، ولبيان ذلك كلِّه استمعوا وعوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، - وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مُفَتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجّوا، وداعٍ يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله عز وجل، والداعي من فوقه واعظ الله في قلب كلِّ مسلم)).
هكذا أخرج الحديث أحمد في مسنده، وبنحوه أخرجه الترمذي وحسنه وخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم لا أعلم له علةً، ووافقه الذهبي في تلخيصه (1) وأخرج الحديث غير هؤلاء، وحسن إسناده ابن كثير (2).
عباد الله! يدعونا هذا الحديث للتأمل في صراط الله، وكيف يُسلك وحدود الله ومحارمه كيف تُعرف وتُجتنب، وكتاب الله وكيف يهدي ويتَّبع، وواعظ الله في القلوب كيف يُنمى ويُستشعر.
أما الصراط المستقيم فقد فسِّر بالإسلام وفسِّر بالقرآن، وفسِّر بالحقِّ، وفسر بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه من بعده، قال ابن كثير يرحمه الله: وكلُّ هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة، فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وافتدى باللذين من بعده أبي بكر
(1) المستدرك 1/ 73.
(2)
انظر: شرح حديث مثل الإسلام لابن رجب ص 14 وجامع الأصول 1/ 274، 275 وتفسير ابن كثير 1/ 43 ط الشعب.
وعمر، فقد اتبع الحق، ومن اتبع الحقَّ فقد اتَّبع الإسلام، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن، وهو كتاب الله وحبله المتين وصراطه المستقيم، فكلّها صحيحة يُصدق بعضها بعضًا، ولله الحمد (1).
وقد رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن الصراط المستقيم قال: تَرَكنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن شماله جواد، وثمَّ رجال يدعون مَن مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه} (2) أيها المسلمون! إنما سمي الصراط صراطًا: لأنه طريق واسع سهل يوصل إلى المقصود، وهذا مثل دين الإسلام في سائر الأديان، فإنه يوصل إلى الله وإلى داره وجواره مع سهولته وسعته، وبقية الطرق وإن كانت كثيرة فإنها كلَّها مع ضيقها وعُسرها لا توصل إلى الله، بل تقطع عنه وتوصل إلى دار سخطه وغضبه ومجاورة أعدائه، ولهذا قال تعالى:{ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (3).
عباد الله! هذا الصراط المستقيمُ هو الذي يسأل المؤمنون ربَّهم صباح مساء أن يهديهم سلوكه، {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهن} (4).
(1) تفسير ابن كثير 1/ 43.
(2)
أخرجه ابن جرير وغيره انظر: مثل الإسلام لابن رجب ص 18.
(3)
سورة آل عمران، الآية: 85، وانظر:(مثل الإسلام: 18).
(4)
سورة الفاتحة، الآيتان: 6 - 7.
وهنا سؤال وجواب: فإن قيل: كيف يسأل المؤمن الهداية- للصراط المستقيم- في كلِّ وقت من صلاة وغيرها، وهو متَّصف بذلك، فهل ذلك من باب تحصيل الحاصل أم لا؟
والجواب- كما قال الحافظ ابن كثير يرحمه الله- أن لا ليس من تحصيل الحاصل، ولولا احتياجه ليلًا ونهارًا إلى سؤال الله الهداية لما أرشده الله إلى ذلك، فإن العبد مفتقر في كلِّ ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها، وتبصُّره، وازدياده منها، واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله، فأرشده الله تعالى إلى أن يسأله في كلِّ وقت أن يمدَّه بالمعونة والثبات والتوفيق، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله .. (1).
يا عبد الله! مع سؤالك لله الهداية والثبات في كلِّ لحظة وحال فاشرح صدرك للإسلام، ووسع قلبك للتوحيد والإيمان، قال الله تعالى:{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} (2).
أيها المسلمون! من عجب أن يضيق هذا الصراط المستقيم بأقوام على سعته واستقامته، وتتسع لهم- في ظنِّهم- طرق أخرى مع ضيقها وعوجها، فيؤثرون الهوى على الهدى، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقد ورد في سعة صراط الله المستقيم أنه أوسعُ ما بين السماء والأرض (3).
(1) تفسير ابن كثير 1/ 44.
(2)
سورة الأنعام، الآية:125.
(3)
تفسير ابن كثير.
ولكن صدق الله- وهو أصدق القائلين: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} (1).
إخوة الإيمان! حاذروا الشيطان فإنه قاعدٌ لكم- بإغوائه ووسوسته- عن سلوك الصراط المستقيم {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} (2).
وصحَّ عن ابن مسعود رضمي الله عنه أنه قال: ((إن هذا الصراط مُحتضر تحضره الشياطين، ينادون: يا عبد الله هذا الطريق، هلمَّ إلى الطريق ليصدوا عن سبيل الله، فاعتصموا بحبل الله، فإن حبل الله هو القرآن)(3).
عباد الله! جاهدوا أنفسكم على سلوك الصرِاط المستقيم، وروضوها على اتباعه .. فبذلك أمر ربُّكم وكذلك وصى، {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (4).
ولا تستوحشوا من الحق لقلة السالكين، ولا تغتروا بالباطل لكثرة الهالكين، فمن صبر اليوم ظفر غدًا، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، والله غني عن العالمين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} (5).
(1) سورة فاطر، الآية 8.
(2)
سورة الأعراف، الآيات 16 - 18.
(3)
مثل الإسلام 22.
(4)
سورة الأنعام، الآية:153.
(5)
سورة الزخرف، الآيتان 43، 44.
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن وسنة محمد عليه الصلاة والسلام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.