الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين يقص الحقَّ وهو خيرُ الفاصلين، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له بيده المقاديرُ والأجيال، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله بعثه اللهُ بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، فمن اتبعه فقد رشد ونجى، ومن عصاه فقد خاب وخسر خسرانًا مبينًا. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وما من نبي إلا وذكَّر أمته بالآخرةِ وأهوالِ يوم القيامة.
أيها المسلمون: إذا كانت الساعةُ حقًّا لا مرية فيها، وأن اللهَ يبعث من في القبور، ودلائلُ قدرةِ الله على ذلك ظاهرةٌ للعيان لمن تأمل في أحداثِ الحياةِ الدنيا، من ابتداء الخلق وأطوار الجنين، وإحياءِ الأرض بعد موتها .. مما لا تخطئه العين ولا يخفى على ذي عقل، وما يكابر في ذلك إلا كلُّ كفارٍ عنيد.
وحجةُ اللهِ في القرآن دامغةٌ، وآياتهُ ظاهرة والعلاقة بين هذه الآيات الباهرة والبعثِ والنشور ظاهرة:{ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} (1)، وأعجبُ من ذلك كله قدرةُ الله على خلقِ ما هو أعظم من
(1) سورة الحج، الآيات: 5 - 7.
الإنسان كالسموات والأرض. وفيه دليل على قدرته على إعادة الإنسانِ بعد موته فذاك من باب أولى: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (1).
وإذا كان هذا طرفًا من قدرة الله، في خلق الناس كلهم وأطوار حياتهم .. فأعجب منه ما استثنى اللهُ من خلقه، فخلقه من غير أبٍ ولا أم كآدم عليه السلام، أو خلقه من أب دون أم كحواء، أو خلقه من أمٍ دون أب كعيسى عليه السلام .. ولهذا جاء ذكرُ عيسى عليه السلام علمًا بين يدي الساعة، ودليلًا عليها قال تعالى:{وإنه لعلم للساعة فلا تمترون بها واتبعون هذا صراط مستقيم} (2).
وأحدُ المعاني في تأويل هذه الآية: أن القادر على إيجاد عيسى من أمٍّ بلا أب قادر على بعث الموتى من قبورهم .. (3).
بل يدرك العقلاء ويؤمن أولو الألباب بالبعث من خلال معرفتهم بحكمة الله في خلقه، والحكيم لا يترك الناسَ سدى، ولا يخلقهم عبثًا، بل لحكمة جليلة يُجازي المحسنَ بإحسانه والمسيءَ بإساءته:{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} (4).
{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون} (5).
(1) سورة يس، الآيتان: 81، 82.
(2)
سورة الزخرف، آية:61.
(3)
تفسير السعدي (6/ 657).
(4)
سورة المؤمنون، الآيتان: 115، 116.
(5)
سورة الدخان، الآيتان: 38، 39.
عباد الله! الناسُ في هذه الدنيا وفي الآخرة من الساعة صنفان، فصنفٌ غافلون لاهون، آمنون، لا يؤمنون ببعث ولا نشور، أولئك تضيع أعمارُهم في البحث عن اللذة العاجلة، ولا يؤمنون إلا بالمادة المحسوسة، تنتهي مداركهمُ عند حدود الدنيا، فلها يحبون ومن أجلها يبغضون، وعندها تقف طموحاتهمُ وآمالُهم وأولئك هم الخاسرون في الآخرة .. وهم المبلسون عند قيام الساعة، ولهم الويلُ والثبور عند البعث والنشور.
وعنهم قال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون} (1).
{ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} (2).
{قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} (3).
وأما النصفُ الآخرة فهم المؤمنون بقيام الساعة، والمشفقون منها في الدنيا، لعلمهم أنها حق .. أولئك عرفوا الله فخافوه وراقبوه بما يأتون أو يدعون، وخافوا الآخرة فعملوا لها .. وهانت عليهم الدنيا فلم تلههم ولم تفتنهم بزخرفها .. وأولئك هم الآمنون عند قيامها .. ومنازلهم في الجنان والرياض بها يتنعمون، وبإيمانهم وخوفهم وعملهم يجازون، ولا يظلم ربك أحدًا، تأمل يا أخا الإسلام حال الفريقين في الدنيا في قوله تعالى:{يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق إلا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد} (4).
(1) سورة الجاثية، آية:27.
(2)
سورة الروم، آية:12.
(3)
سورة يس، آية:52.
(4)
سورة الشورى، آية:18.
تأمل يا عبد الله مصير الفريقين وفروق الجزاءِ بين الصنفين في الآخرة وقوله تعالى: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون* فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون* وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون} (1).
إنه الفرق بين الإيمان والكفر، واليقين والشك، ولئن كانت الساعةُ غيبًا، فهي كالمشاهد عند المؤمنين، فهم كما يؤمنون بالله وإن لم يروه يؤمنون بالساعة وإن لم يروها- ولذا جاء الربط في القرآن كثيرًا بين الإيمان بالله والإيمان بالغيب من مثل قوله تعالى:{ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} (2).
وإذا تساوى الناسُ في تصديقهم بالمشاهد المحسوس لديهم تميز أهلُ الإيمان وأولو الألباب بالتصديق بالغيب الذي يرون دلائله وينظرون في شواهده، وإن غاب عنهم كنههُ وحقيقتهُ.
إخوة الإيمان كم نحن بحاجة إلى غرسِ هذا الإيمانِ بالغيب ودلائِله في نفوسنا صغارًا وكبارًا، عالمين ومتعلمين وأميين رجالًا، ونساء، في مؤسساتنا التعليمية والإعلامية حتى تنحسر بقايا المدُّ الإلحادي الذي تهاوت دولتهُ قبل سنين، وبقيت بقيةٌ من أفكار أتباعه وهي في طريقها إلى الانقراض، فالعلمُ يدعو إلى الإيمان، ودلائل الإيمان بالغيب تحاصر المتشككين في ذوات أنفسهم وفي كون الله الواسع من حولهم، وفي كل شيء له آيةٌ تدل على أنه واحدٌ .. وتلاشت مقولةُ ((من يحيي العظام وهي رميم)) بقوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق
(1) سورة الروم، الآيات: 14 - 16.
(2)
سورة البقرة، آية:177.
عليم* الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون* أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم* إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون* فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} (1).
عباد الله! أعمال الناس في الدنيا نابعة من درجة إيمانهم بالغيب وقيام الساعة، فأشدُّ الناس إيمانًا بها أكثرهم استعدادًا لها، وأقلهم إيمانًا بها أكثرهم غفلةً عن الاستعداد لها، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكنه شيء يستقر في القلب وتنبعث له الجوارحُ مصدقة.
اللهم ارزقنا صدق الإيمان بك والاستعداد للبعث والنشور، اللهم حاسبنا حسابًا يسيرًا اللهم ارحم ضعفنا، وفرج كربنا .. ولا تخزنا يوم يبعثون ..
(1) سورة يس، الآيات: 79 - 83.