الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
.
الحمد لله ربِّ العالمين، أحمده تعالى على نعمه التي لا تعد ولا تحصى وأشكره وهو أهل الفضل والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء.
عباد الله! لقد أثنى الله على الموفين بعقودهم وعهودهم ووعدهم بجنات عدن فقال تعالى: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرأون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار} (1).
وفي المقابل حذّر من نقض العهود، ورتب الخسران عليها، واللعنة وسوء الدار فقال تعالى:{الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} (2).
وقال في الآية الأخرى: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} (3).
أيها المؤمنون! من الأمور التي تساهل بها كثير من الناس الديون والقروض (أيا كانت هذه ما دامت مباحة)، فتراهم يتسامحون في الاستدانة والاستقراض، ويتساهلون في الأداء والوفاء، وقد جاءت نصوص الشريعة محذرة، من التلاعب والتهاون بحقوق الغير.
(1) سورة الرعد، الآيات: 20 - 24.
(2)
سورة البقرة، الآية 27.
(3)
سورة الرعد، الآية 25.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)) (1).
وعن صهيب الخير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيُّما رجل تدين دينًا، وهو مجمع ألا يوفيه إياه، لقي الله سارقًا)) (2).
يا ابن آدم! أليست الجنة مبتغاك. إذ خلو الذمة من الدين سبب من أسباب دخول الجنة.
فقد ورد عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من فارق الروح الجسد وهو بريء من ثلاث دخل الجنة: من الكبر، والغلول، والدين)) (3).
ومن أين لك الوفاء يا عبد الله إذا فارقت الروح الجسد وأنت مصر على المماطلة وحبس حقوق الآخرين، وهل ترضى أن يكون القضاء من الحسنات في وقتٍ أنت أشدَّ ما تكون حاجة إليها؟ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما:((من مات وعليه دينار أو درهم قُضي من حسناته، ليس ثمَّ دينار ولا درهمٌ)) (4).
وليس يخفى أن: ((نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه)) ويكفي في عظم الدين أن رسول الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم لا يُصلي على من مات وعليه دين لم يترك له قضاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: إذا توفي المؤمن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه الدين فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل ترك لدينه من قضاء؟ )) فإن قالوا: نعم صلى عليه، وإن قالوا: لا، قال:((صلوا على صاحبكم)) (5).
(1) رواه ابن ماجه بسند صحيح، صحيح سنن ابن ماجه (2/ 52).
(2)
حديث حسن صحيح (صحيح سنن ابن ماجه 2/ 52).
(3)
رواه ابن ماجه بسند صحيح (2/ 52).
(4)
صحيح سنن ابن ماجه (2/ 53).
(5)
رواه ابن ماجه (2/ 53).
ولذا ينبغي على أهل الميت أن يولوا هذا الأمر ما يستحق من العناية والوفاء فيبدأون- أول ما يبدأون- بسداد دينه، وفكاك ذمته.
أيها المسلمون! مع التأكيد على أن لا يستدين المسلم أو يقترض إلا لحاجة، فقد يضطر المسلم للدين أو للقرض، وهنا ينبغي أن يأخذ ما يكفي حاجته وأن يقدم نية الوفاء وألا يطلع الله منه على نية الغدر وإتلاف الأموال.
إن الذي يقدم نية الخير على الوفاء يعينه الله في الدنيا، وقد صحّ الخبرُ عن النبي صلى الله عليه وسلم:((ما من مسلم يدَّان دينًا، يعلم الله منه أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا)) (1).
وإن نوفي المدين وهو على نية الوفاء لكنه عاجز عن التسديد فاعل للأسباب المشروعة للأداء لكنه لم يقدر، فالرسول صلى الله عليه وسلم وليُّه، ولم يبخس الله من حسناته بعد مماته.
روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((الدَّين دينان، فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليُّه، ومن مات ولا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته، ليس يومئذ دينار ولا درهم)) (2).
عباد الله! ماذا بعد هذه النصوص وأمثالها؟ إن علينا جميعًا أن نتحرز من الدَّين، وأن نسلِّم ذممنا في الحياة قبل الممات، وإذا استدنا واستقرضنا بالحسنى- ومن أي جهة كانت- أن نردَّ الدين أو القرض بالحسنى، وأن نؤدي للناس الذي نرغب أن يؤدوه إلينا، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، وأذكِّرك يا أخا الإسلام وأحذرك
(1) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 53.
(2)
صحيح الجامع الصغير 3/ 153.
أن تكون سببًا لقطع الإحسان عن غيرك بسبب سوء سلوكك ومماطلتك، بل ومن أدب الإسلام أن تدعو لمن استلفك، ولست خيرًا من محمد صلى الله عليه وسلم، وقد استلف من رجل سلفًا- يوم حنين- فلما قضاه قال له:((بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الوفاء والحمد)) (1).
أيها المسلم! تأمل في أدب الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه ووفائه، وحقُّه على الأمة كبير، والسلف الذي يستلفه لا لمصلحته الخاصة، بل لمصلحة المسلمين والجهاد في سبيل الله .. ومع ذلك لا يؤخر ردَّ السلف بل لما قدم من الغزوة قضى لصاحب السلف، وأعظم من ذلك كلِّه دعاؤه لمن أسلفه، ((بارك الله لك في أهلك ومالك)) ثم يضع معلمًا بارزًا للأمة في الوفاء ورد الحقوق حين يقول:((إنما جزاء السلف الوفاء والحمد)) فهل نتمثل هذه الأخلاق في حياتنا ومعاملاتنا ونتخذه صلى الله عليه وسلم قدوة لنا في أمورنا كلها، إن ذلك من علائم الإيمان ومن سيما الذين يرجون الله واليوم الآخر، ويذكرون الله {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (2).
(1) حديث حسن أخرجه ابن ماجه: صحيح سنن ابن ماجه 2/ 55.
(2)
سورة الأحزاب، الآية:21.