الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
نظرية جيروم برونر jerome bruner
يعد جيروم برونر واحدًا من هؤلاء العلماء القلائل الذين أسهموا بقسطٍ وافر في معارفنا الأساسية بعلم النفس عامَّة وعلم نفس النموّ بصفة خاصة، وعلاوة على ذلك، فإنه قدَّم نموذجًا نظريًّا هامًّا للإدراك والمعرفة، وقد شملت أبحاثه الأطفال حديثي الولادة، وأطفال ما قبل المدرسة، وأطفال المدارس الابتدائية والراشدين، واستنادًا إلى آرائه النظرية العامة، فإنَّ أعماله وأعمال تلاميذه قد غطَّت العديد من الثقافات. "bruner، olver & greenfield، 1966".
هذا ولا مفرَّ من إجراء مقارنات بين نصوص برونر burner النظرية، فيما يتعلّق بالنمو المعرفي وموقف بياجيه، ومع أننا لا ننوي أن نصدر أحكامًا تقيمية في هذه المقارنات، إلّا أننا سوف نشير إليها إذا ما صلحت لاكتشاف بعض الفحوص في معارفنا. وواضح أن العالمين متَّفقان على أن سير النمو الإنساني يمكن وصفه بالتقدُّم عبر سلسلة من المراحل، كلٍّ منها تتميز بفروق نوعية، وقد قدَّم برونر bruner ثلاث مراحل للنمو المعرفي هي: المرحلة الحكمية، والمرحلة التصويرية التقليدية، والمرحلة الرمزية.
أ- المرحلة الحكمية "التوضيح النشط" The enactuve stage:
حيث يكتسب الطفل حديث الولادة في هذه المرحلة معرفةً عن العالم من أنشطة حركية متكررة مع أشياء مألوفة، ومع اكتساب الطفل لقدرات حركية، تسنَح له فرص أكثر للتفاعل مع مجموعة كبيرة من المثيرات، ويصف برونر وآخرون bruner et al "1966، ص16". المرحلة الحكمية على النحو التالي:
"إن الشكل الإبتدائي للفعل هو "انظر إلى"، كما في حركات العينين أو توجيه الرأس. ومن الواضح أن هذا الشكل فطري، وفيما بعد يصبح الفعل هو القبض، والوضع في الفم، والإمساك، وما شابه ذلك من "تحديد موضوع" و"إيجاد علاقة" مع البيئة. والفعل من هذه الناحية هو الشرط اللازم لإنجاز الطفل الصغير للعلاقات البيئية المتبادلة والصحيحة، التي تكوّن موضوعات الخبرة المشتتة والمجرأة، والفعل هو وبعض الطاقة الواردة من المستقبلين البعيدين توفر الظروف الضرورية والكافية لمثل هذا التقدم، بغرض سلامة الجهاز العصبي".
وهكذا طبقًا لبرونر، فإن التكوين المبكِّر للمعرفة قد يتوقَّف غالبًا على الإدراك البصري للمثيرات في بيئة الطفل الغريبة، وكما يرى برونر، فإنَّ الأطفال حديثي الوالدة يمرون بسلسلة من حركات البنين والتثبيتات يكتشفون خلالها معرفة بدائية بالعالم. ومع تقدُّم هؤلاء الأطفال في مجال القدرة الحركية، يستمرون في اكتساب المعرفة عن العالم من خلال عمليات حسية، ولكنهم الآن يتَّسقون فيما بين نظم الطاقة الإدراكية. مثال ذلك: إن الطفل يستطيع الآن النظر إلى مثير "تمييز الشكل"، وفي نفس الوقت يمسك به "تمييز البعد". إن الطاقة البصرية والطاقة
اللمسية تصبحان متناسقتين، وبذلك تتقدَّم المعرفة التي لدى الطفل عن ذلك وعن الأشياء المتعلقة بها "شكل: 67"، وعلى ذلك: فإن الأطفال يفهمون الأشياء على نحوٍ أفضل عن طريق الأعمال:
- فهم يفهمون دعامة التوازن بالاعتماد على خبرتهم الفعلية في الأَرْجَحَة، فإذا كان الطفل الذي على أحد طرفي الأرجوحة ثقيلًا، فإن الطفل الآخر الذي يجلس على طرفها الثاني يتراجع، وإذا كان الطفل خفيفًا يتحرك الآخر نحو المركز.
- كما أنَّ الأطفال الصغار يعرفون الكلمات على أساس الأفعال المرتبطة بها، فالكرسي يجلس عليه، والملعقة يأكل بها.. إلخ. "جابر عبد الحميد: 1977، 93".
إن المرحلة الحكمية تتضمَّن سلوكًا قد يبدو لغير العليم متناهيًا في البساطة، أو إنه مجرَّد من النتائج الوظيفية، ولكن الواقع ليس كذلك، ويصرّ برونر على أن المرحلة الحكمية تشكّل الأساس للتطوّر التالي للمعرفة والوظيفية المعرفية.
ب- المرحلة التصويرية التقليدية "التوضيح بالصور" The lkonic stage:
في هذه المرحلة يقلّ اعتماد الطفل بشكل مطَّرد على الأفعال المباشرة للأشياء، وتزداد قدرته باطِّراد على تكوين تمثيلات موضوعية للعالم؛ أي أنه يصبح أقلّ اعتمادًا على الاتصال البدني المباشر مع البيئة، ويبدأ في الاعتماد أكثر وأكثر على الصورة، بمعنى: إن الأطفال يستطيعون أن يفهموا المعلومات دون أن تتم في صورة أفعال وأنشطة أمامهم، فيستطيعون أن يرسموا الملعقة دون أن يمثّلوا عملية تناول الطعام بها، ويستطيعون أن يرسموا دعامة التوازن؛ لأن لديهم صورة لم تعد
تعتمد على الفعل، وهذه نقلة هامَّة في نمو العقل. "جابر عبد الحميد: 1977، 93".
ويرى برونر أن هذه المرحلة الثانية تمثّل تقدمًا في النمط التمثيلي للطفل؛ إذ إنه في خلال هذه الفترة يبدأ الطفل في تصنيف الأشياء على أساس سمات معينة ثابتة، وهذه القدرة التي تعتبر ذات أهمية بالغة للفهم الصحيح للعالم تكتسب تدريجيًّا، وربما تضمَّنت سلسلة من المراحل الفرعية النوعية قبل تحقيق النضج.
ج- المرحلة الرمزية The symbolic stage:
يرى برونر أن المرحلة الرمزية هي أعلى مستويات التمثيل التي يقدر عليها الإنسان، ففي هذه المرحلة يستطيع الأطفال أن يترجموا الخبرة إلى لغة، ويمكن فهم دعامة التوازن باستخدام الكلمات بدلًا من استخدام الصور "إن العرض الرمزي يتيح للأطفال أن يستنبطوا منطقيًّا، وأن يفكروا تفكيرًا محكمًا، وأن يشكِّلوا خبراتهم عن العالم الذي يعيشون فيه بصورة قوية وفعالة، واستخدام ذلك للبحث عن حلّ المشكلات التي يتصدَّون لها.
ويتشهد برونر ببحوث النمو التي تبيِّن أنَّ الأطفال قادرون على فهم العمليات العيانية أولًا، ثم بعد ذلك على فهم التعبير البياني المصوّر، وفي النهاية يصبحون قادرين على فهم العمليات غير المألوفة بيسرٍ إذا عرضت عليهم بالترتيب التالي: بطريقة عيانية، ثم بيانية، ثم رمزية، وهذه الطريقة تناسبهم بدرجة أكبر إذا كان الموقف ملقًا. "جابر عبد الحميد 1977، 94".
ويستطيع القارئ أن يعتبر أن التفرقة النوعية بين مستوى المرحلة الرمزية ومستوى المرحلتين السابقتين هي البعد بين الرمز وبين إشارة وصفية، أو صورة تمثل شيئًا أو حدثًا، وتتضمَّن المرحلة الرمزية عدة ثغرات في اللغة سنناقشها في الفصل الرابع من هذا الباب، ويكفي أن نذكر هنا أنَّ برونر يعتقد أن اللغة نظام رمزي يعمل مستقلًّا عن الأنظمة السابقة، ومع ذلك تعتمد على الأحداث التي جرت في أثناء المرحلة الحكمية، والمرحلة التصويرية، ويجب أن نلاحظ أن المرحلة الرمزية كما اقترحها برونر، وخاصة تأكيده على اللغة كنظام رمزي، تعتبر نقطة اختلاف بينه وبين بياجيه. ومع أنَّ كلا العالمين يعتبران أن النمو يتحرك من انعكاسات بسيطة وأفعال مشاركة إلى تمثيلات رمزية للعالم مطَّردة التزايد، فإن بياجيه يعتبر التمثيلات الرمزية ضرورة تسبق اللغة ونموها، وأن التفكير واللغة يرتبط كلٌّ منهما بالآخر ارتباطًا وثيقًا، وبعبارة أخرى: يعتبر بياجيه أن اللغة تصبح وسيلة للتعبير عن المعرفة والتجريدات، في حين أن برونر يعتبر أن اللغة تجريد؛ إذ يرى أن التفكير لغة مستنبطة، وأنَّ القواعد البنائية للغة وليس المنطق يمكن استخدامها لتفسير مبدأ البغاء أو الثبات، وغيرها من مبادئ بياجيه.
وواضح أن برونر يعتقد أن الطريقة التي يفكر بها الشخص تتأثَّر بالخبرات الحكمية والتصويرية المبكرة التي قد تكون انتقالًا ثقافيًّا. ومهما يكون من أمر، فإن أهم العوامل حسمًا من حيث الطريقة التي يفكّر بها الشخص هي اللغة. إنه من الواضح أن اللغة دالة ثقافية، وبالعكس، فإن بياجيه يشدّد على تكافؤ كل اللغات كوسائل تبادلية لتوصيل المعرفة التي تكوَّنت منذ زمنٍ سابق على التفاعل اللفظي للطفل مع العالم، ويتفق هذا الموقف مع إصرار بياجيه على تفاعل اللغات والثقافات في مجال النمو المعرفي.