الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نبذة تاريخية عن نمو الطفل:
يعتبر علم نفس النمو فرعًا هامًّا من فروع علم النفس، ومجالًا يهتم بصفة عامة بدراسة التغيرات في السلوك على مدى حياة الكائن الحي، وقد كانت معظم الأبحاث والنظريات في مجال علم نفس النمو محصورة في مجال نمو الطفل، ومع أنه أحيانًا يستند إلى أبحاث أجريت على كائنات غير إنسانية، إلّا أننا نؤكد على العمليات المتعلقة بالتغير في السلوك الإنساني في فترة الطفولة المبكرة واللاحقة، ومن أهم الدراسات التاريخية وأغناها بالمعلومات، نجد أن أبحاث كيسن kessen "1965" وستيفنسون stevenson "1968"، وسيرز sears "1975" قد أطاحت بالتأثيرات الفلسفية والاجتماعية التي شكلت هذا المجال، والتي سنقدمها هنا كتاريخ مختصر لعلم نفس الطفل.
ورغم أن الفلاسفة فكَّروا كثيرًا في طبيعة الطفل، والأسباب التي تؤدي إلى النمو، وكما أن الأباء وغيرهم من الكبار قد سجَّلوا كثيرًا من المعلومات المعقولة عن الأطفال، إلّا أن دراسة نمو الطفل لم تصبح مجالًا معترفًا به للبحث العلمي بالنسبة لعلماء النفس إلّا في أواخر القرن التاسع عشر، عندما قام ج. ستانلي هول stanly hall بتطبيق أعمال شارلز دراوين في مجال علم النفس، لقد وضع
دراوين حجر الأساس لهذه الدراسة بكتابة "أصل الأنواع""1859"، وبعده "أصل الإنسان" "1897". وهذان المؤلفان عرضا أن: ملاحظة الوليد الإنساني قد تؤدي إلى التعمق في إدراك تطور الكائنات البشرية، وكان من أهم نتائج هذا العمل نشر عدد كبير من الكتب عن تاريخ حياة الطفل، كانت أول مصدر للمعلومات عن العديد من مظاهر نمو الطفل، سجَّلت التغيرات العظمى التي تحدث، مثل حجم مجموعة الكلمات، والتغيرات في النمو الجسمي، وقدَّمت معلومات عن نمو الشخصية، ولسوء الحظ فإن هذه الكتب كانت ظاهرة التحيز "أي: إن الآباء كانوا يميلون لرؤية ما يودون رؤيته في سلوك أطفالهم"، وأبرزت التغيرات في فترات غير منتظمة، كما أن مجالها كان محدودًا وافتقرت إلى التعميم. فضلًا عن ذلك، فإن ما اشتملت عليه من معلومات كانت ذات طابع وصفي بحت اعتمد على الملاحظة. إن تاريخ حياة الطفل قد أثار تساؤلات حول العمليات التي يقوم عليها نمو الطفل دون أن يقدِّم الإجابة عنها. مثال ذلك إن كثيرًا من المؤرخين في هذا المجال قد وصفوا مسار تقدّم النمو الحركي، ومع ذلك فإنهم لم يستطيعوا أن يقدّموا أي معلومات لتفسير السبب في هذا المسار، ورغم هذه الصعوبة، فإن هذه الكتب قد قدَّمت معلومات ذات قيمة عن أنماط النمو، وأثارت عددًا من المسائل الهامة حول عمليات النمو لا يزال الكثير منها موضع اهتمام كبير.
وكان ج ستانلي هول -الذي يسمَّى عادة بمؤسِّس علم نفس النمو- متأثرًا بدرجة كبيرة بنظرية داروين في التطور، وكان يعتقد أن "علم الوجود يجمع تاريخ
النشوء ontogeny recapitulates phylogeny، بمعنى أن نمو الفرد يعكس نموَّ الأنواع، ومن بين إنجازات "هول" أنه أدخل طريقة الأسئلة في دراسة علم نفس الطفل؛ حيث إن مطالبة الأطفال بالإجابة عن أسئلة محددة، أو مطالبة الأباء بالإجابة عن مجموعة من الأسئلة، قد مكَّنت هول من دراسة التغيرات في أنماط الاهتمامات والرغبات ومجموعة من أنماط السلوك الاجتماعي، هذا ولا تزال طريقة الأسئلة تستخدم على نطاق واسع الآن بعد تهذيبيها.
شكل "2" إن تسجيل الآباء لتاريخ حياة الطفل يعد مصدرًا مهمًّا للمعلومات الوصفية القياسية عن نمو الطفل.
ولقد كان "هول" من أوائل الذين درسوا الطفل في المعمل، وكانت تجاربه الأولى مع الأطفال لا تزيد على كونها تدليلًا على أن الأطفال لديهم نفس العمليات النفسية التي تظهر في كلٍّ من الحيوانات الدنيا والإنسان البالغ "stevenson 1968"، أمَّا البحث المنهجي في العمليات التي يقوم عليها نمو هذه القدرات فلم يكن له وجود يذكر، ولم يكن الهدف من هذه التجارب هو دراسة الأطفال كمجموعة فريدة، ولكن لتبيان أن الأطفال -مثلهم في ذلك كمثل الكبار- يمكنهم أن يتعلموا، وأن لهم ذاكرة وقدرات مستديمة، وأنهم يملكون العمليات النفسية العددية المفترض أنها أساسًا الوظيفة النهائية لدى الكبار، ومع أن هذا البحث لم يكن يهدف إلى نشر التغيرات النهائية في التعلم والذاكرة وغيرها من العمليات، إلّا أنه قد أوضح أن الأطفال يتبعون سلوكًا مغايرًا لسلوك الكبار. ونتيجة لذلك، فإن المعلومات المكتسبة من هذه التجارب قد ساعدت على نقص المفهوم القائل بأن "الطفل هو بالغ مصغر child is miniature، وعلى دراسة النمو النفسي للطفل كمجال معترف به كما هو.
الطبيعة الفطرية/ التنشئة/ nature nurture: ولعلَّ أهمَّ الموضوعات التي أثيرت في الفترة الأولى من تاريخ علم نفس الطفل هي ما إذا كان الأفضل اعتبار الطفل نتاجًا طبيعيًّا "لوراثة" أو تكوينيًّا "البيئة""kessen، 1965".
ومع أنَّ الفلاسفة قد كتبوا بإسهاب في هذا الموضوع على مدى قرون، إلّا أنه بلغ الذروة في موضوعات توارث الذكاء، فهل الذكاء -أساسًا- نتيجة للمادة الوراثية للكائن "الطبيعة الفطرية"، أو هو راجع بدرجة كبيرة إلى التأثيرات البيئية التي يعيش فيها الكائن، ومع تقدُّم اختبارات الذكاء أصبح الموضوع محل جدل ساخن، وقد أجري البحث الأول لوضع مقياس للذكاء في فرنسا بمعرفة ألفرد بينيه alfred binet، وتيوفيل سيمون theophlie simom "1916"، حيث ابتكرا اختبارًا للتمييز بين الأطفال بطيء التعلم والأطفال العاديين، وقد قام لويس تيرمان lwis terman، وهو أمريكي درس مع بنييه، قام بترجمة اختبار بنييه إلى الإنجليزية، وقد أدى استخدام مفهوم نسبة الذكاء "العمر العقلي/ العمر الزمني× 100" إلى ظهور عدد من الدراسات أدَّت إلى إذكاء حدة الجدل حول الطبيعة الفطرية/ التنشئة "البيئة" بالنسبة للذكاء، وما يزال هذا الجدل محور عدد من الموضوعات في دراسات علم نفس الطفل، بما في ذلك اضطرابات الشخصية وأنماط السلوك المتعلق بالجنس، وكذلك الذكاء.
"jensen 1969"، ومع أن قدرًا كبيرًا من الأبحاث اهتمَّت بموضوع الطبيعة الفطرية/ التنشئة، فإنه وبعد حوالي مائة عام، ما يزال الموضوع غير محسوم.
سيجموند فرويد sigmond freud: وفي تلك الحقبة أيضًا من أواخر القرن 19 إلى أوائل القرن 20، كان فرويد يضع نظريته عن النمو الجنسي النفسي "1930"، لقد تلقَّى فرويد تدريبه كعالم نفس، واهتمَّ اهتمامًا كبيرًا بالأبحاث الطبية عندما دخل إلى عالم مزاولة الطب، ومن خلال خبراته مع المرضى الذين كانوا يعانون من أعراض هستيرية "مثال ذلك: شلل الذراع نتيجة اضطراب نفسي وليس جسماني"، ودراسته مع شاركو charcot، الذي حسّن من التنويم المغناطيسي وقام بتعليمه، أصبح فرويد مقتنعًا بأنَّ الخبرات في مرحلة الطفولة المبكرة ذات أهمية حيوية لحسن تفهُّم سلوك الكبار، وتلبية لدعوة تلقاها من ج س. هول، قام فرويد بزيارة جامعة كلارك في عام 1908 لإلقاء سلسلة من المحاضرات يوضح فيها نظرياته في تأخّر النمو الجنسي في الأطفال، وأهمية الخبرات المبكرة في مرحلة الطفولة، ومع أن "هول" كان يشعر بأنَّ فرويد قد يقدّم للولايات المتحدة أفكار تتَّسم بالتحدي والإثارة، فإن علماء النفس الأمريكيين رفضوا مفاهيم فرويد رفضًا يكاد يكون تامًّا، وذلك لافتقارها للحيوية التجريبية، وكذلك لفكرة تأخُّر النمو الجنسي في الأطفال، والتي بدت فكرة وقحة، علاوة على ذلك فإنَّ علم النفس الأمريكي في ذلك الوقت كان يفسِّر النمو بواسطة مبادئ نظرية التعلم الخاصة بالتعزيز "التدعيم"، ولذلك فإن الكثير من مفاهيم فرويد مثل: "الهو" و"الأنا" و"الأنا العليا"، وهي التي لا تلاحظ، لم ينظر إليها كطرق معتمدة لتفسير السلوك، ومع أنه لم يلق اهتمامًا بأمره في مبدأ الأمر إلّا أنه أصبح فيما بعد الرجل الذي كان له، أكثر من أي رجل آخر، أعظم الأثر في تقدُّم علم نفس الطفل. إن تأكيده على أهمية الخبرات المبكرة في الطفولة المبكرة بالنسبة لنمو الشخصية على المدى الطويل، ونظريته القائلة بأن نموَّ الطفل يتم في مراحل متعاقبة -وهي أول نظرية تظهر في مجال "المراحل"- كان لها تأثير عميق في هذا الصدد. إن الأبحاث في مجال وسائل تربية الطفل، والأخلاقيات، ونمو الشخصية، كلها تدين بوجودها إلى قوة الدفع التي هيَّأتها نظريات فرويد.
أما أرنولد جيزل arnold gesell: فيعتبر من الشخصيات العظمى في مجال علم نفس الطفل في ذلك الوقت، الحاصل على بكالوريوس الطب ودرجة الدكتوراه في
علم النفس، وقد كان اهتمام "جيزل" في بداية أمره منصبًّا على أمراض النمو، ومن هنا كان له تأثير قوي على فكرة النضج، بقدر ما كان تأثير هول، وبدرجة أقل من فرويد، ولإمكان الحصول على معلومات حول النمو المرضي، قام جيزل "1928-1948" بدراسة أعداد كبيرة من الأطفال، ونشر مجلدات عديدة في وصف النمو الطبيعي، والنمو الشاذّ للأطفال وصفًا بالغ التفصيل، وقد قدَّم وصفًا للنمو الحركي، واللغوي والاجتماعي والشخصي، وكذلك النمو الجسمي بصفة عامَّة، منذ ولادة الطفل وإلى نهاية مرحلة المراهقة، مع معايير السنِّ بهدف أن تكون مرشدًا في الأغراض المقارنة. ومن هنا كانت تسمية هذه المعلومات بالمعايير القياسية normative، وبذلك أضفت أعمال "جيزل" لوجهة النظر الخاصة "بالنضج" طابعًا مميزًا في مجال النمو.
وللحصول على بيانات سليمة عن النمو الجسمي والاجتماعي للأطفال، فقد أجريت العديد من مشروعات البحث الطويلة في أوائل القرن العشرين، وما تزال باقية حتى اليوم "تكرار الاختبار لنفس الأشخاص"، فدراسات بيركلي berkeley عن النضج التي بدأت في عام 1928، ودراسات معهد فلز feles institutes التي بدأت عام 1930، قدَّمت كثيرًا من المعلومات عن كثير من مظاهر نمو وتربية الطفل؛ ففي دراسة فلز feles مثلًا: أخذت قياسات واسعة "شاملة" عن نموّ الشخصية، والمظاهر الجنسية، والعلاقات بين الوالدين والطفل، وعن النموّ الاجتماعي، وقدَّمت دراسات "بيركلي" معلومات غزيرة عن النمو الجسمي، ونموّ معدل الذكاء، لقد أصبح المشتركون في تلك الدراسات الآن كبارًا راشدين، لهم أطفالهم الذين يقومون بدراستهم أيضًا. وبالنسبة لطبيعة الدراسات الطولية "انظر الفصل الثاني" أمكن لتلك الدراسات أن تقدِّم معلومات كثيرة عن الاتجاهات النمائية من بداية الطفولة إلى الطفولة المبكرة وحتى البلوغ، وتشمل تأمّلات عميقة في النمو العقلي والاجتماعي.
وقد أمكن للبيانات المعيارية "المستعرضة" وهي معلومات عن متوسط النمو في مجموعات سن مختلفة، مثل: مجموعات جيزل، أو تلك المستقاة من الدراسات الطولية الواسعة مثل: بيانات الملاحظة من واقع تواريخ حياة الأطفال، أمكَن لهذه البيانات أن تقدّم خلفية هامَّة من المعلومات عن نموِّ الطفل، ومثل هذه المعلومات ضرورية لتحديد الموضوعات التي تتطلب بحثًا، مثال ذلك، كيف تؤثر
التنوعات في وسائل تربية الطفل على نموِّ الشخصية؟ وما هو دَوْر النمو الجسمي؟ وما هي مزايا وأضرار النضج المبكِّر أو المتأخِّر؟ غير أنّ البيانات القياسية نادرًا ما تستطيع أنْ تقدِّم إجابات محددة عن مسائل الأبحاث أو عن الافتراضات المشتقة من نظريات تبادلية حول مختلف مظاهر النموّ، ذلك لأنَّها تهدف إلى الوصف وليس للعمليات، ونتيجة لذلك، فإن علماء النفس قد حوَّلوا أبحاثهم تدريجيًّا من المواقف الطبيعية إلى المعمل، وكان المعتقد أنَّ أعظم درجات السيطرة على المتغيرات الطارئة، والقدرة على معالجة المتغيرات، يمكنها أن تساعد على تحديد أسباب النمو. وكما ذكر ماك كال mc call "1977" فإن مزايا البحث المعلمي يمكن أن تتفوَّق عليها الأضرار الناجمة عن عدم دراسة التغير في السلوك عند حدوثه طبيعيًّا. غير أن هذه المسألة يمكن حلّها، فقد عرف علماء النفس الكثير من الأبحاث المعملية التي لم يكونوا ليعرفوها بطريقة أخرى.
شكل "5"
من جوانب اهتمامات علم نفس النمو دراسة واستطلاع الفروق الجنسية في العمليات النمائية.
جان بياجيه jean piaget:
وفي هذه السنوات القليلة لدراسة الطفولة، عندما كان معظم علماء النفس يهتمون بوصف نمو الطفل الجسماني والاجتماعي، قام جان بياجيه "1926، 1929، 1952" بإجراء بحوث ووضع نظرية عن النمو المعرفي للطفل، وبياجيه كخبير بيولوجي يهتمّ بالوظائف التكيفية للسلوك adaptive functions of behavior، وطبقًا لتقليد فرويد وهول وجيزل، فإنه كان يميل نحو نظرية حول النضج.
وقد حدث تأثيرة الأساسي في علم نفس الطفل نتيجة نظرية شاملة عن المراحل في نمو العمليات المعرفية. ومثله في ذلك كمثل "فرويد"، فنجد أن بياجيه
نص على وجود آليات داخلية غير منظورة "مثل الاستيعاب assimilation" كان المعتقد أنها مسئولة عن مسار النمو المعرفي. وكفرويد أيضًا، لم تلق كتابات بياجيه اهتمامًا في مبدأ الأمر من جانب علماء النفس الأمريكان، ولم تكتسب انتشارًا إلّا في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، أما اليوم فإن نظرية بياجيه وأبحاثه هي الأساس لعدد كبير من التجارب التي نشرت في مجال علم نفس الطفل.
السلوكية behaviorism: ظلَّت نظريات النضج لعدة سنوات هي المحاولات الوحيدة نحو تحقيق تعريف متماسك لنمو الطفل، غير أنه في عام 1913 قام جون واطسون john s watson مستندًا إلى الحركة الفلسفية المعروفة باسم الوضعية المنطقية logical positivism، بتقديم عصر السلوكية، التي ارتبط غالبًا بأصحاب نظريات التعلم، وكان الوضعيون المنطقيون يهتمّون بفلسفة العلم، ودراسة الكيفية التي يجب أن يعمل بها العلم "pepper 1942 stevens"، ووضعوا عددًا من المفاهيم تتضمَّن التأكيد على أنَّ العلم يجب أن يتعامل فقط مع الأحداث التي يمكن ملاحظتها وقياسها، وكان معنى ذلك بالنسبة لواطسون الاهتمام بالسلوك الظاهر، وقد دفعت نظرياته بعد ذلك إلى وضع النظرية السلوكية، والتي تنصّ على أنَّ علم النفس يجب أن يقتصر اهتمامه على السلوك الظاهر والمبادئ التي تحكم طريقة تعلمه وتعديله.
وبصفة عامة، أخذت السلوكية تشمل تدريجيًّا كل مجالات علم النفس بما في ذلك علم نفس النمو، وذلك كرد فعل للمفاهيم الأخرى الأقل ملاحظة في نظرية التحليل النفسي، والآراء النضجية المتطرفة "البيولوجية" كوجهة نظر هول وجيزل، أما واطسون، كمؤيد أساسي لوجهة النظر البيئية "التنشئة" للنمو النفسي، ذكر أن الهدف الأصلي الوحيد للدراسة كان هو السلوك الملحوظ. علاوة على ذلك فإنه كان
يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن المعالجة التجريبية، التي تلخصها الأبحاث المعملية والاصطلاحات والإجراءات المحددة التعريف، هي الطريقة الأصلية الوحيدة للدراسة العلمية، وكان واطسون يرى أن الفحص الذاتي "الاستبطان" introspection، والدراسات الإكلينيكية للحالات، والنظريات التي لا تستند إلى قاعدة عن المعلومات الاختبارية، والوسائل والخطط غير التجريبية الأخرى، كان يراها وسائل غير منتجة في مجال بحث السلوك، ذلك لأنَّها غير قصدية، ولا يمكن التحقق منها بسهولة، وهو يعتقد أن المبادئ الأساسية للتعلُّم؛ كأساليب المكافأة والعقاب reward & punishment يمكن أن تطبَّق على مسائل معينة مثل: تربية الطفل، وذلك بنجاح أكبر من أفكار فرويد عن اللاشعور، أو الهو، أو الأنا، أو الأنا العليا.
وقد كانت تجاربه الشهيرة عن تعلُّم الطفل للخوف "ارتباط شرطي conditioning "watson 1920" من بين محاولاته الأولى لتبيان أن النمو في هذه الحالة من الانفعالات، يمكن تفسيره بسهولة دون الرجوع إلى أكثر من الأحداث الممكن ملاحظتها مثل المثيرات والاستجابات، ويعد كتاب سكينر b. f. skinner "1971" في إطار التقليد السلوكي. وسكيز مثله في ذلك كمثل واطسون مؤيد قوي لمعالجة نظرية التعلُّم فيما يختص بالنمو الإنساني.
وجزئيًّا كنتيجة لتأثير واطسون، أُجْرِيَ في المعمل قدرٌ كبير من البحوث المنهجية والتجريبية عن نمو الطفل، وكان التركيز الأساسي في هذه البحوث ينصبُّ على التوصّل إلى حلول المشاكل في مجال التعلُّم، وأمراض الأطفال، والعناية بالطفل، والأهم من كل ذلك تربية الطفل "stevenson، 1968"، وهنا كان يجري التدقيق في بحث مفاهم "فرويد" بحثًا منهجيًّا بواسطة علماء النفس الأمريكيين، ووصل تأثير ذلك إلى البيت الأمريكي من خلال الصحف والمجلات الشعبية، ونتيجة لذلك صار الآباء راغبون في معرفة الطريقة الصحيحة لتنشئة أطفالهم، وابتداءً من أوائل النصف الأول من القرن العشرين، أُجْرِيَت أبحاث في إطار أعمال المدرسة السلوكية وأعمال فرويد، عن بعض المسائل مثل: آثار التغذية من ثدي الأم أو من الزجاجة، والتغذية بناءً على الحاجة، أو طبقًا لنظام محدَّد، والتدريب على الإخراج مبكرًا أو متأخرًا، ويبدو الافتقار إلى إجابات محددة عن
هذه الأسئلة من الطبيعة الدورية للنصائح التي تقدّم للآباء، مثال ذلك: نجد أن النصيحة المشددة لتغذية الطفل عن طريق ثدي الأم قد تلتها نصيحة لا تقل شدة لاستخدام الزجاجة، وبالمثل: فإن النصح بالتدريب المبكر على الإخراج قد تلاه نصح بالتأخير في هذه التدريب، ومع تزايد الأبحاث أخذ البرهان يبدو أكثر تناقضًا، ولا تزال هذه المشاكل بدون حل، وحتى اليوم ما تزال الأبحاث في هذا الصدد مستمرة.
ومن المحتمل أن يكون عجز البحث عن الإجابة عن هذه الأسئلة إجابة واضحة راجعًا ولو جزئيًّا، إلى اهتمام الباحث بالتركيز على هدف واحد، وهو سلوك الطفل ونموه، واستبعاد صفات الأبوين، وتركز الأبحاث الجارية ليس فقط على الطفل، ولكن أيضًا على صفات الوالدين، والأهم من ذلك صفات العلاقات بين الوالدين والطفل. مثال ذلك: أن ماري أينسورث mary ainsworth "1973" قد بحثت وسائل تربية الطفل، والعلاقات بين الوالدين والطفل وأثره في نمو التعلق، وثمة مثل هام آخر، هو بحث إلدر elder "1962، 1963" بشأن العلاقة بين صراعات المراهق نحو الاستقلال، والوسائل التي يتبعها الوالدان في تربية الطفل، وكنتيجة للتحسينات في استراتيجيات البحث أمكن الآن التوصل إلى دلائل أفضل لتأثيرات وسائل معينة في تربية الطفل.
وثَمَّة عقبة أخرى في سبيل تزويد الوالدين والمربين بإجابات محدَّدة وواضحة عن الأسئلة المتعلقة بتربية الطفل والتعلّم، تلك هي أن بعض المجالات النظرية المتعارضة تؤدي أحيانًا إلى نتائج متشابهة، وقد كان من الصعب القيام بتجارب حاسمة تبيِّن أن النظريات قد تكون هي الأفضل.
إن أنصار السلوكية يقولون: إن السلوك الممكن ملاحظته هو وحده الذي يجب دراسته أولًا من خلال وسائل تجريبية محكمة، دون الالتجاء إلى الآليات الداخلية غير الملحوظة لتفسير النمو، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الذين يفضِّلون المعالجة العضوية organic appoach يقولون بصحة دراسة الآليات التي لا تلاحظ مباشرة "مثال ذلك: مركبات الشخصية: كالأنا، أو مظاهر الوظيفية الفعلية مثل: التكوينات المعرفية"، وقدَّموا طرقًا للمعالجة التجريبية أكثر مرونة وتنوعًا؛ ويعكس هذا الصراع جزئيًّا موضوعًا ثانيًا هامًّا متشابك مع كل مراحل
علم نفس الطفل، ذلك هو: هل الأفضل النظر إلى الطفل كحزمة من عناصر "مثير - استجابة" s. r "معالجة نظرية التعلم"، أو كمجموعة من التكوينات المتكاملة "المعالجة المعرفية، النمائية""kersen ، 1965"؟، وهناك موضوع أساسي آخر هو: هل الأفضل اعتبار الطفل كمستطلع نشط active explorer، أو مستقبل سلبي passive receiver للمثيرات البيئية "kessen ، 1965"? وهذان الموضوعان مثلهما كمثل الجدل حول "الفطرة، التنشئة"، أو أثر الوراثة والبيئة يختصان بطبيعة الكائن الحي.
وبالرغم من الحجج التي قدَّمها واطسون، فإن تركُّز البحث في موضوع نمو الطفل لم يتحوّل عن السمة الوصفية القياسية إلى المعالجة التجريبية، ولم يتمّ التأكيد على بناء النظريات واختبارها إلّا في منتصف القرن العشرين. وكان أنصار السلوكية يعتقدون أن المعالجة التجريبية يمكن استخدامها لتحديد علاقات السبب والنتيجة بين المثيرات البيئية ونمو الطفل، وكذلك لاكتساب نظرة عميقة للعمليات النفسية التي يتضمَّنها النمو، ونتيجة لذلك فإن الكثير من الأبحاث الحالية عن الطفولة تتركَّز على اختبار النظريات التبادلية بشأن عمليات النمو النفسي، ومعنى ذلك أن عمل هذه الأبحاث هو أساس ذو اتجاه عملي "تفاعلي" أكثر مما هو وصفي قياسي بطبيعته. ويعتقد كثيرون من علماء النفس أنه باختبار مختلف النظريات الخاصَّة بالنموّ، نكتسب نظرة أعمق إلى أسباب النمو الطبيعي والشاذّ، وبالتالي التوصل إلى تفهُّم معقول لطبيعة التركيب الإنسان الحي. ويقوم علماء النفس المتخصصون في النمو بالأبحاث سواء في المعمل أو في أوضاعٍ طبيعية لاختبار فروض النظريات، ويقومون بتطوير نظريات يمكن استخدامها لوضع القرارات حول تطبيقاتها العملية بشأن النموّ، وبهذه الطريقة: فإن الأبحاث التي قد تبدو لأول وهلة معدومة الصلة بمشاكل "العالم الحقيقي" فيما يختص بالنمو، تسهم إسهامًا ذا دلالة في سبيل إسعاد الأطفال.
وهناك حدثان هامَّان آخران في مجال علم نفس النمو حَدَثَا في الولايات المتحدة خلال ربع القرن الأخير، وأولهما: هو إعادة اكتشاف نظريات بياجيه، فعندما وجد علماء النفس الأمريكيين أن المعالجة السلوكية ليست مرضية بالقدر الذي تصوروه، أي: إنهم وجدوها عاجزة عن تفسير كثير من مظاهر النمو، بدأوا
في تطبيق المعالجة التجريبية في دراسة مفاهيم بياجية. إن لبياجيه اليوم تأثير على الأبحاث وبناء النظريات من جانب علماء النفس الأمريكيين أقوى من تأثير أي فرد آخر. والحدث الثاني: هو البحث الذي قام به علماء النفس الروسيين "مثل لوريا luria 1966" والذي يعتبر أساسًا ذا طابع نفسي جسمي، والذي بدأ يضفي تأثيرًا واضحًا على الفكر الأمريكي حول نمو الطفل، ويمكن ملاحظة هذا التأثير مثلًا: في الأبحاث التي تتعلّق بالفعل المنعكس التوجيهي orienting reflex، وقد أحدث كل من هذين التأثيرين تغييرًا كبيرًا في نظرتنا للأطفال وللنمو، كما قدَّم نظرات متعمقة جديدة إلى متغيرات الوظيفية النفسية للإنسان.
وكما يتبين من هذا التاريخ المختصر لبعض النقاط الرئيسية في مجال علم نفس النمو، فإن المجال دائم التغير، ومن الصعوبة بمكان حاليًا تحديد الاتجاهات المباشرة التي سيتخذها الموضوع. غير أنه يبدو واضحًا أن ثَمَّة تأكيد ما سوف يتمثَّل في جهد قوي للجمع بين النظرية والبحث خارج حدود نظرية التعلّم.
وليس معنى ذلك أنَّ البحث من منطلق نظرية التعلُّم سوف يتوقّف، بل إن الأمر عكس ذلك، فإن التطورات المثيرة المنبثقة من بحث مثل بحث بياجيه، تعمل على توسيع آفاقنا في مجال الطفل، ونتيجة لذلك، فإن علماء النفس المهتمين بالنموّ يطرحون أسئلة جديدة مثيرة للاهتمام لم يكونوا يطرحوها من قبل، ويبدو أن طريقتي المعالجة السلوكية والعضوية لدراسة الأطفال تكمِّلان إحداهما الأخرى؛ لتكونا صورة أكثر اكتمالًا للأطفال ونموهم، مما استطاعت كلٌّ مهما أن تقدمه بمفردها.
وعلى صفحات هذا الكتاب، سوف نجري المقارنة والتقريب بين وجهتي النظر هاتين في محاولة للإجابة عن السؤال: ما هي الطريقة المثلى لعرض التكوين النفسي للطفل؟ وكيف نستطيع عرض العمليات النفسية الخاصة بالنمو أفضل عرض؟ وسوف تساعد هذه المقارنة على تحقيق هدفين، الأول: هو أنها سوف تهيئ أساسًا ذا اتساع مناسب لتفهُّم الفكر والطرق الحالية في مجال البحث في نمو الطفل، والثاني: أنها سوف تساعد على تقديم مزيد من المعلومات للرد على الموضوعات التي قدَّمناها عالية أكثر من مجرد وجهة نظر، ومع أن ذلك قد يبدو مربكًا أحيانًا، إلّا أنَّ تفهم نمو الطفل يتطلّب منَّا الإلمام بوضوحٍ بوجهات النظر المعارضة.