الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دور النظرية في تفسير نمو الطفل:
سوف نقدِّم في الفصول التالية عدة نظريات عن نمو الطفل، وكما ذكرنا فإنَّ النظريات تستمد من نمط أكثر عمومية للعالم، وأنها تؤدي عددًا من الوظائف تختلف في مستويات تحديداتها، مثال ذلك: أن البعض منها مثل نظرية "فرويد" مثلًا عن نمو الشخصية لها مجال واسع، في حيث أنَّ معظم النظريات تبحث في نواحي محددة نسبيًّا عن نمو الطفل مثل: نظرية بياجيه في النمو المعرفي، ونظرية إريكسون في النمو الاجتماعي، ونظرية كولبرج في النمو الخلقي.. إلخ. ولذلك فإن كلًّا منها أضيق مجالًا.
وإذا كانت النظرية هي مجرَّد بيان أو بيانات نحاول به أن نفسر حدثًا ما، فإننا في علم النفس نجد أن هذا الحدث هو السلوك، واهتمامنا هو بالسلوك الإنساني، ويمكن القول بأنَّ النظرية هي نموذج لما يحدث من سلوك معين، وتمييزه عن سلوك آخر، وبمعنى آخر أن النظرية تصف العوامل التي تحدث أو تسبب السلوك، ومجموعة من النظريات يجب أن تعطينا صورة سليمة ومعقولة للعوامل
التي تسبب سلوك الطفل ونموه، ومن هذه الوظائف تتكامل المعلومات عن السلوك integrate information about behavior، ومن ثَمَّ: فإن النظرية إذا كانت بالغة الاتساع، أو كان لها نصوص غير محددة تمامًا، فقد تتضمَّن قدرًا كبيرًا من المعلومات، ولكنها لن تقدم تفسيرًا مناسبًا للسلوك كالذي تقدمه نظرية ليست بهذا القدر من الاتساع، وإنما تركّز على مجالات سلوكية أكثر تعقيدًا. ومعظم النظريات تميل إلى أن تكون ضيقة المجال نسبيًّا، فلا تعطي سوى أشكال محددة من السلوك، مثال ذلك: التعلّم الشفوي، أو تأثيرات مختلف وسائل تربية الأطفال على تعلمهم الاعتمادية dependency أو العدوانية agression.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: كيف إذن يمكننا أن نحصل على صورة معقولة لأسباب نمو الطفل؟
والجواب الواضح: هو أنه بانتقاء واختيار نظريات لمختلف خواص نمو الطفل، نستطيع تجميع صورة أكثر شمولًا، ولكن ليست هذه معالجة حاسمة على كل حال، فهناك بعض النظريات شاملة، مثل نظرية بياجيه "1952" للنمو العقلي mental development. وبعض النظريات تعطي وصفًا مناسبًا تمامًا لنواحي بالغة الاتساع من النمو، في حيث أنَّ نظريات أخرى أقل شمولًا ليست ذات فائدة. ولذلك فإن مجرد إمكان تجميع قدر كبير من المعلومات ليس بالضرورة معيارًا لصالحية النظرية، بل إن صلاحية النظرية سواء كانت شاملة أو أقل شمولًا يمكن تحديدها فقط بنتائج الاختبارات التجريبية للافتراضات المنبثقة عنها، ويؤدي بنا ذلك إلى الوظيفة الثانية للنظريات: التنبؤ بأحداث جديدة predict new events وتوليد افتراضات يمكن إثباتها، أي: إننا بفحص نظرية، واستنباط افتراضات منها، يمكننا التنبؤ بأن سلوكًا معينًا سوف يحدث إذا ما توافرت مجموعة معينة من الظروف، وقد يكون هذا السلوك "جديد"، أي: أنه لم تسبق ملاحظته، وهذه الظروف تقودنا إلى نوع أنماط سلوكية معينة. والوظيفة النهائية للنظرية هي تفسير السلوك أو النمو explain behavior development: إن تفسير سلوك ما يعني أننا نستطيع حصر أسبابه، أي: نستطيع ذكر السبب في حدوث السلوك، وحصر الظروف التي تؤدي إلى حدوثه، فإذا كانت النظرية تتنبأ بأن الظروف
"س، ص، ع"، يجب أن تحدث سلوكًا معينًا، وإذا استطعنا أن نمثل "س، ص، ع"، في تجربة وحدث السلوك المتنبأ به، استطعنا القول بأن "س، ص، ع" هي التي تحدد "أسباب" السلوك، وتفسير السلوك هو ببساطة عكس التنبؤ، ويتضمّن حصر الظروف "الأسباب" التي يحدث فيها السلوك، وعلى ذلك: فإن التفسير يشمل ذكر الظروف التي وراء حدوث حدثٍ ما، وعندما نعرف هذه الظروف نستطيع تفسير السلوك.
إن النظريات تبني وتقيِّم بنفس الطريقة في كل مجالات العلم، وبالتَّالي فإن كل النظريات التي تعالج نمو اللغة، أو الرياضيات، أو الجسيمات النووية، أو نمو الشخصية، أو النمو المعرفي، أو النمو الانفعالي، أو النمو الاجتماعي لها نفس الأسس الصياغية، وهي كلها محاولات لتفسير السبب أو الكيفية التي يحدث بها سلوكٌ ما، وفي كل مجالات العلم يجري تقييم النظرية بالبحث.
علاقة النظرية بالبحث في النمو:
ثمة علاقة حاسمة لأي نظرية، وهي إمكانية اختبارها. إن النظرية لا نستطيع اختبارها لا قيمة لها، لأننا لا نستطيع التأكّد من صحتها، ولكن إذا أمكن اختبار النظرية، وإذا كانت الافتراضات المستقاة منها معززة بالبحث، أصبحنا أكثر ثقة في أن النظرية تمثّل وصفًا دقيقًا للعوامل الكامنة وراء السلوك الجاري بحثه، وبالعكس إذا قدمت النظرية افتراضات لا يعززها البحث، فإننا نفقد الثقة بهذه النظرية كتفسير ملائم للسلوك، وفي مثل هذا الحالات على الباحثين إما أن يعدلوا النظرية، أو أن يطرحوها جانبًا سعيًا لبناء نظرية بديلة. وعن طريق البحث يمكننا أيضًا اختبار نظريات تبادلية عن نمو الطفل، وذلك للتأكد من أيها أصح، ولذا: فإن البحث الذي يسترشد بالنظرية يعبتر هامًّا لكي نفهم نمو الطفل، وذلك لأنه هو الطريقة التي نثبت بها صحة النظريات عن النمو أو عدم صحتها.
وعلى الرغم من وجود عدد كبير من النظريات السيكولوجية التي تتعلق بدراسة الشخصية الإنسانية، فإن معظم هذه النظريات تتناول الإنسان كنتاج كامل تمامًا، ولم يتعرض منها لدراسة نمو الشخصية من الولادة حتى النضج سوى عدد
قليل من النظريات، كما أنها لم تقدِّم سوى القليل من المعلومات عن إجمالي النمو؛ لذلك: تتضمَّن الفصول التالية تلك النظريات التي تناولت ظاهرة النمو الإنساني، أو نمو الشخصية كعملية مستمرة ومتتابعة بدءًا من حالة الطفل كرضيع، وتستعرض كل مرحلة لاحقة من مراحل النمو النفسي: الطفولة المبكرة، والطفولة المتوسطة والمتأخرة، والمراهقة، والرشد.. إلخ. علاوة على ذلك: فإن النظريات التي تَمَّ انتقائها يكمّل بعضها ببعضًا؛ كي تقدِّم تفسيرًا متكاملًا لنمو الشخصية الإنسانية من الناحية الجسمية، والحركية والعقلية المعرفية، والنفسية، والاجتماعية، والخلقية.
إذ نجد أنّ:
- نظرية آرنولد جيزل تتناول النضج والنمو الجسمي الحركي والمعرفي في سلالم نمائية متدرجة.
- ونظرية روبرت ر. سيرز تتناول النمو الجسمي والبيولوجي للفرد في علاقته بالتعلم الاجتماعي.
- ونظرية التحليل النفسي "ليسجموند فرويد" تتناول النمو الجنسي الذي يعتبر جانبًا من جوانب النمو البيولوجي، ولكنه يرتبط بالنمو النفسي للفرد.
- ثم نجد نظرية "إريك هـ. إريكسون" كامتداد لنظرية فرويد تركّز على الجانب النفسي الاجتماعي في النمو الإنساني، وتركز نظرية جيمس مارشيا على نمو الهوية في المراهقة التي هي إحدى مراحل النمو في نظرية إريكسون.
- أما نظريات "فارنر وبرونر وجان بياجيه، فإنها تعنى بدراسة النمو العقلي والمعرفي في تطوره ونضجه.
- وتعنى النظرية السلوكية ونظرية "جان بياجيه" و"فيجو تسكي" بتناول النمو اللغوي.
- ثم تأتي نظرية "كولبرج" لترتكز على أعمال بياجيه، وتعنى بدراسة النمو الخلقي والاجتماعي.
ومن الملاحظ أن كل نظرية من هذه النظريات تتناول بحوثًا مستقلة تمامًا في مجال نمو الشخصية، ومع ذلك تعتبر كل واحدة منها مكمِّلة للنظريات الأخرى،
وتقدم جزءًا نحو تفهُّم الفرد ككل لا يتجزأ، دون أن يؤثر ذلك على المراحل التتابعية للنمو داخل الإطار التصوري لكلٍّ منها. فإذا نظرنا إليها طوليًّا يمكن القول بأن كل نظرية لها كيانها الداخلي المتماسك في تصوير استمرارية النمو، وفي نفس الوقت لا تتعارض مع النظريات الأخرى، وكأنَّ كلًّا منها كان ينسج نفس ثوب النمو مستخدمًا خيوطًا مختلفة عن الأخرى.
وإذا نظرنا إليها عرضيًّا نجد أن كل نظرية يمكن أن تتناول في أيّ مرحلة حلقة بارزة إلى حل ما يمكن تحديدها بمفهوم أيّ نظرية أخرى، فعلى الرغم من الاختلافات المنهجية لكلٍّ منها، فإن المناهج المختلفة لكل نظرية يمكن أن يكمّل كل منها الآخر لتقديم صورة متكاملة لعملية النمو؛ إذ أنَّ كلًّا منها يقدم معلومات في مجالات أهملها الآخر؛ لذلك فإننا إذا نظرنا إلى هذه النظريات من الناحية التطبيقية، فإن تطبيق كل نظرية تحدده طبيعة النشاط الإنساني الذي ندرسه.