الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأنماط النظرية في النمو
مدخل
…
الأنماط النظرية في النمو:
توجد بعض الأنماط التي كان لها أعظم الأثر في دراسة علم نفس النمو، وتعتبر الأنماط تصويرًا للنمو، وأكثر الأنماط شيوعًا هي النظم الفلسفية التي تصف طبيعة الواقع.
- فالنمط الآلي mechanistic model مثلًا يقول: بأنه يمكن اعتبار الكون يعمل كما لو كان آلة، وهذا النمط لا يذكر أن الكون هو في الواقع آلة، بل إن الأفضل هو النظر إليه كأنه يعمل كالآلة.
- وثَمَّة بديل لذلك هو: نمط التركيب العضوي organismic model الذي ينص على أن الأفضل لنا أن ننظر إلى الكون على أنه يعمل كما لو كان تركيبًا بيولوجيًّا حيًّا، وكما هو واقع في حالة النمط الآلي، فإن النمط التركيبي لا يذكر أن الكون وحدة بيولوجية متكاملة، بل إنه يعمل بطريقة مماثلة للتركيب العضوي البيولوجي "verton & reese، 1973، rese & verton، 1970".
هذان النمطان اللذان يتسمان بالعمومية يؤديان إلى وجود أنماط أخرى أكثر تحديدًا، وهي ما نسميه بالأنماط النظرية theoretical "reese & overt 1971" أو النظريات. وعلماء النفس يبنون النظريات لتفسير أسباب السلوك، ويهتم علماء نفس الطفل بصفة خاصة بتفسير النمو في السنوات الأولى من الحياة.
وسوف نناقش الأنماط النظرية المفسرة للنمو في ضوء هذين النمطين.
1-
نمط نظرية التعلم:
تستند معالجة نظرية التعلم في فحص وتفسير النمو على النمط الآلي، وفي هذا النمط يعتبر الكون كأنه يعمل كما لو كان آلة، ويتوقّف سلوك الآلة على نوعها، وعلى القوى التي تؤثر فيها، مثال ذلك: إن الكهرباء كقوة تؤثر على الآلة وتجعل الآلة تعمل، ولكن أجزاء الآلة هي التي تحدد نوع العمل الذي تؤديه الآلة، فمثلًا جهاز تنظيف الملابس "الغسالة"، أو جهاز التليفزيون، فإن الكهرباء تجعل كلا الجهازين يعملان، ولكن أجزاء كلٍّ منهما هي التي تحدد نوع العمل الذي يؤديه كل جهاز، وعلى ذلك فإن لسلوك الآلة سببين:
أولهما: هو القوة التي تؤثر عليهما، أو السبب الفعَّال Efficient cause.
الثاني: هو تركيب الآلة ويسمَّى السبب المادي material، وهو يجعل أو يكون السبب في أن الآلة تؤدي وظائفها المحدَّدة مثل غسل الملابس، أو ترجمة موجات الراديو إلى صوت وصورة، وكل سلوك الآلة هو نتيجة هذين السببين فقط؛ فالآلة لا تستطيع أن تتخذ أن سلوك قصدي، أي: إنها لا تستطيع عمل أي شيء لم يؤخذ في الحسبان عند تصميمها، كما أنها لا تستطيع أن تبتكر سلوكًا من تلقاء نفسها.
ومن واقع هذه الرؤية فإن التركيب هو مجمل عناصر بسيطة، والآلات المركبة "المعقَّدة" تعتبر مجملًا لآلات أبسط، وانطلاقًا من المثال السابق فإن جهاز التليفزيون ليس إلّا مجموع عدد من الآلات "الأجهزة" الأبسط: صمامات، مستقبلًا، ضوابط الصوت.. إلخ، ولتفهُّم عمل جهاز التليفزيون فإننا نحتاج لفهم عمل الأجزاء البسيطة التي يتركَّب منها، ونفس التعليق يمكن تطبيقه على جهاز تنظيف الملابس "الغسالة"، فهو أيضًا يتركب من آلات أبسط، كلٍّ منها يؤدي عملًا محددًّا "سبب مادي" وتعمل فقط عندما تؤثر عليها قوة معينة "سبب فعال"، وفي كلتا الحالتين فإن الآلة لا تزيد أو تنقص عن كونها مجموع أجزائها الفردية، علاوة على ذلك فإن التغيّرات في الآلة ذات طابع كمي، فإذا أضفنا لها أجزاء أخرى فإنها تؤدي عملًا أكثر، ولذلك: فإن التغيُّر في سلوك الآلة يعتبر تغيرًا كميًّا، فعندما نضيف أجزاء إلى الآلة تصبح قادرة على عمل أكثر وأقوى.
وأخيرًا: فإذا التنبؤ بسلوك الآلة يصبح ممكنًا إذا عرفنا نوع الآلة، والقوى التي تؤثر عليها؛ فإذا استخدمنا الكهرباء للتأثير على جهاز تنظيف الملابس "الغسالة" أو جهاز التليفزيون، فإنك تتوقع "تتنبأ" نوعًا من السلوك من الجهاز.
وفي مجال علم النفس psychology نجد أن النمط الآلي automatic type يمثله تصور التركيب العضوي المتفاعل reactive organism، وهو تركيب يتحدد سلوكه بقوى تؤثر عليه "السبب الفعّال"، وبتركيبه الوراثي "السبب المادي"، وبعبارة أخرى: فإن الكائن البشري ينظر إليه باعتباره يعمل وكأنه آلة، ويتفاعل
مع المثير "قوى داخلية أو خارجية" بطريقة يمكن التنبؤ بها من معرفة القوى المؤثرة على الكائن البشري، ومن معرفة تركيبه الوراثي. إن مختلف طرق معالجة علم النفس ونمو الطفل ينبثق من النمط الآلي.
ومع أن العديد من أصحاب نظريات التعلّم مثل: جثري gutherie "1935"، هل hall "1943" وسكنر skinner "1966، 1969"K، وسبنس spence "1956"، وطولمن tolmen "1932"، قد يختلفون حول بعض الخصائص عن الكيفية التي يتم بها التعلّم وعن كيفية تطبيق مبادئ التعلم لمساعدتنا على فهم النمو، إلّا أنهم يقومون بالأبحاث للتغلُّب على هذه الاختلافات، وعلى ذلك فإن كل نظريات التعلُّم تنتمي إلى نفس المجموعة من النظريات.
أما نمط التركيب العضوي المتفاعل the reactive organism فيتخذ شكل اللوح الأملس "blank slate" tabula rasa أو التركيب الخاوي empty organism، وبعبارة أخرى فإن كل ما يفترض في الفرد أن يملكه عند ولادته هو بعض الانعكاسات الأساسية basic reflexes، مثل: القبص، المص، وليس لديه أي قدرات نفسية أخرى. أما الوظيفة النفسية الأكثر تقدمًا، والنمو مثل: تعلم اللغة أو اكتساب أنماط سلوك اجتماعية social behavior، يفترض أنها تتعلم خلال عمليات التعزيز أو "التدعيم" reinforcement التي تتم على مرِّ الحياة في البيئة نتيجة لتفاعلها معها. وهذه التفاعلات البيئية "تكتب على اللوح الأملس، وتحدد صفات التركيب العضوي"، والتعلم نتيجة التفاعل البيئي environmental reaction: هوالعملية التي تكتسب من خلالها كل الوظائف النفسية، بسيطة كانت أو معقدة. وإذا عدنا إلى تشبيه الآلة: فإن التركيب العضوي لا يستطيع أن يؤدي سوى الأعمال التي طبعتها البيئة "تمامًا كما لا تستطيع الآلة أن تؤدي سوى الأعمال التي صممت من أجلها"، وهذا النمط من التركيب العضوي الإنساني هو أساسًا الذي قدَّمه التجريبيون البريطانيون أمثال: جون لوك john locke، دافيد هيوم david hume، وجميس ميل james mill، جون ستيوارت john stuart، ولا يزال معمولًا به بواسطة العلماء السلوكيين الحاليين.
إن للتركيب العضوي الفعال عددًا من التضمينات لفهم السلوك والنمو الإنسانيين، ويفرض أن دافعية السلوك أو تنشيطه ترجع إلى القوى المؤثِّرة على التركيب العضوي، وكما أن الآلة لا تنشط إلّا عند استخدام قوى خارجية تؤثّر عليها مثل الكهرباء أو مصدر قوة أخرى، فإن السلوك الإنسان لا يحدث إلّا عند
استخدام قوة تؤثر على التركيب العضوي، وقد تكون هذه القوة أمرًا صادرًا من أحد الأبوين، أو دافعًا داخليًّا مثل الجوع، أو أي: حادث بيئي يتسبَّب في قيام التركيب العضوي بنشاطٍ ما "شكل: 42". ومثل هذه القوى يمكن اعتبارها كبواعث على السلوك أو كأسباب فعَّالة، هذا والحدود الجسمية التي تفرضها المادة الوراثية للكائن الحي "سبب مادي" تحدد أنماط السلوك التي تستطيع تأديتها، وكنتيجة لهذه الافتراضات عن الكيفية التي يمكن بها تنسيط التركيب العضوي، يرى أصحاب نظرية التعلم أن التركيب العضوي يكون أساسًا في حالة سكون، وتمامًا كما تكون الآلة عاطلة، إلى أن تتعرض لقوة، يعتبر التركيب العضوي عاطلًا إلى أن تدفعه قوة ما للسلوك، وهذه الافتراضات الأساسية تؤدي بقدر كبير من أبحاث نظرية
التعلم، للتركيز على "الظروف المحيطة"، أو بمعنى آخر الإشارات أو البواعث البيئية المحددة التي يحتمل أن يجري فيها نوعٌ ما من السلوك، وهذه المعالجة تقودنا إلى محاولة التعرُّف على القوى الدافعية الداخلية والخارجية، التي تؤدي بالتركيب العضوي للقيام بسلوك محدد.
وفي النمط الآلي تعتبر الآلات المعقَّدة قابلة للاختصار إلى آلات أبسط، وبالتالي إذا جمعنا آلات بسيطة، نستطيع أن نبني آلات تؤدي أنشطة أكثر تعقيدًا، وينطبق نفس هذا التصور على السلوك الإنساني، فهو يعتبر مجموعة من الأنماط السلوكية الأبسط، وبالتالي فلكي نفهم سلوكًا معقَّدًا فما علينا إلّا أن نفهم الأنماط السلوكية الأبسط التي يتكوّن منها، وكمثال في مجال علم النفس: فلننظر إلى تعلّم الأدار الجنسية، فطبقًا لأصحاب نظرية التعلّم يبدأ تعلّم الدور الجنسي بتعلّم الطفل أنماط سلوك جنسي بسيطة، ويستمر التعليم بتجميع هذه الأدوار إلى أنماط سلوكية مطَّردة التعقيد تؤدي إلى سلوك الفرد بطريقة نعرفها بالاصطلاح "ذكر وأنثى"، ويفترض أن يتعلّم الطفل هذه الأنماط السلوكية الجنسية المناسبة من خلال التعزيز "التدعيم"، ومثال ذلك يقوم الوالدان بتعليم أطفالهما المؤشرات الجنسية "ولد وبنت"، وفيما بعد ألعابًا وأنماطًا سلوكية ومستويات ذات طابع جنسي أكثر تعقيدًا تتجمَّع وتمتد لتكون دورًا جنسيًّا مجسمًا، والنتيجة السلوكية المعقَّدة تدخل في إطار الاصطلاح "ذكر"، "أنثى"، ومن نتائج الافتراض بأن العمليات المعقدة يمكن تقنينها إلى عمليات بسيطة، فإن التنبؤ الكامل بالسلوك يصبح ممكنًا أساسًا، وبعبارة أخرى: يجب أن نتمكَّن من أن نحدد بدقة الظروف التي يمكن أن يحدث فيها سلوك بسيط إذا عرفنا القوى المؤثرة على الشخص "السلوك الفعال"، وإذا عرفنا التاريخ التعلمي السابق لهذا الشخص، كما أن حدوث سلوك معقَّد يجب أن يكون بالإمكان التنبؤ به إذا عرفنا العوامل التي تحدّق أنماط السلوك البسيط التي يتكوّن منها. وبالطبع فإن ذلك يتطلب معرفة الظروف البيئية المحددة التي تحيط بالتركيب العضوي، والحالة الخاصة التي يوجد عليها في وقت معين، والنتيجة الحتمية لهذه الافتراضات، هي أن السلوك يمكن تقدير كمَّه بحيث نستطيع أن ننتبأ باحتمال حدوثه.
ومعنى ذلك: أنه يجب أن يكون باستطاعتنا أن نكتب معادلات تحدد أسباب السلوك، وبالتالي نتنبأ بحدوث هذا السلوك إذا توافرت مجموعة محددة من الظروف، وكانت أكثر المحاولات طموحًا في سبيل تحقيق ذلك، هي التي قام بها "كلارك هل" hall "1943"، الذي أمضى معظم سنوات عمله المهني في دراسة التعلم، وكان يعتقد أن التعلم دالة لسلوك سبق تعلمه، ودافع لأداء سلوك معين، وغير ذلك من البدائل، وقد عبَّر ذلك في المعادلة:
sEr = sHr × Dx
حيث:
- sHr هي احتمالية الاستجابة the probability of response.
- sHr هي قوة العادة habit strength - مقياس تعلم سابق measure of previous learning.
- D هي الدافع Drive.
ويعتقد "هل" أنه بإحلال قيم مناسبة في المعادلة "مثلًا: عدد محاولات الممارسة السابقة previous practice محل sHr، وعدد ساعات الحرمان من الطعام محل D يمكن تقدير احتمالات "تنبؤ" حدوث استجابة معينة.
وثَمَّة محاولات أحدث لكتابة معادلات دالية للتنبؤ بالسلوك نجدها في أنماط رياضية مختلفة تحاول وصف العوامل العديدة التي تؤثر على التعليم "atkinson، bower & crothers، 1965"، ومن الناحية الافتراضية فإن المعادلات التالية تسمح ليس فقط بالتنبؤ بالسلوك عندما نعرف القيم التي نضعها في المعادلة، ولكن أيضًا بتفسير أسباب السلوك، ذلك لأنَّها تبيِّن الظروف الي تحيط بحدث السلوك، وقد لقيت هذه المحاولة بعض النجاح بالنسبة للمهام البسيطة، ولكنها كانت أكثر صعوبة بالنسبة للمهام المعقدة، وكل من المثيرات الخارجية مثل: أوامر الوالدين، والداخلية مثل: الجوع، تجعل الفرد يقوم بالسلوك.
وأصحاب نظرية النمط الآلي يفسرون النموّ بأنه مجرد تغير مع الزمن من سلوك بسيط إلى سلوك أكثر تعقيدًا "white 1970، bijon & baer 1961"،
وعلى ذلك فالنمو هو اصطلاح وصفي يميّز الظاهرة التي تفسرها النظرية، ونظريات الآلية تختص بنوعية أساسية من التغيّر السلوكي:
- أحدهما: تغيّر وراثي ontogenetic change، وتمثله التغيرات في السلوك على مدى فترة حياة الفرد، وأنماط السلوك الوراثي هي التي يمكن أن تُتَعلّم أو تعلم الأفراد نوعًا واحدًا.
- والثاني: وهو التغيُّر السلوكي behavioral change الذي يحدث في النمو، وهو التغير التطوري phylogenetic change الذي يحدث في أثناء التطور، فمع تطوّر التركيب العضوي، نجد أن قدراته المتزايدة أو المتناقصة على التكيف بالبيئة تعكس من التغير النمائي developmental change.
ومن وجهة نظر الآلية: يتمثَّل النمو النفسي في التغيرات في السلوك التي تحدث في دقائق أو أيام أو سنين "zigler، 1963"، ويفسّر النمو بامتدادات وتهذيبات على درجات متفاوتة من التعقيد لأنماط سلوكية أكثر بساطة، ويطرد تفسير التغيُّر في السلوك بتحديد التغيرات التي قد تكون من أسباب السلوك أو تغيرات السلوك. ومحاولة تحديد أسباب النمو داخل النمط الآلي تقتصر على تحديد الأسباب المادية أو الفاعلية "overton & reese، 1973"، والأسباب المادية للسلوك تشير إلى أسسها العصبية أو الجسمانية أو الوراثية، أمَّا الأسباب الفاعلية فهي ظروف إثارية تولّد السلوك، وتمثلها معالجة المتغيرات المستقلة independent variables في تجربة، والأبحاث تعالج المتغيرات التي تعتقد أنها تمثل أسباب السلوك؛ لكي نحدد ما إذا كانت تغيرات السلوك مواكبة لتلك المتغيرات، وإذا كان المتغير المستقل independent variable وهو السلوك: كالذاكرة مثلًا يتغير كدالة للمعالجة التجريبية. ومقدار ووقت التدريب يفترض أنه المتغير التجريبي "وقت التدريب"، وهو سبب للسلوك "ذاكرة".
وعلى ذلك: فإن المعالجة الآلية لعلم النفس تستخدم نظرية التعلّم لتحديد تغيرات كمية السلوك، وبهذه الطريقة فإن أصحاب النظريات الذين يميلون للآلية يحاولون وصف كيفية ملء "التركيب العضوي الفارغ" في أثناء سير النمو.
وطبقًا لهؤلاء، فإن الطفل يستجيب لكلٍّ من أنواع الاستجابات التقليدية والفعّالة أو العاملة "white، 1970، bijo & bear، 1961"، وبعبارة أخرى: فإن سلوك الطفل يتمّ السيطرة عليه باستخراج المثيرات "تكيّف تقليدي" classical adapation، أو بمثيرات تعزز أو تقوي استجابة سابقة مباشرة "تكيُّف فعَّال أو عامل" dfective adaptation، وعلى ذلك: فإن واجب الباحث من خلال نظرية التعلُّم هو أن يحلل بيئة الطفل؛ ليحدد أي المثيرات تستخرج السلوك أو أيها تعززه، بعد ذلك عليه أن يوضِّح كيف يتحكَّم التقليدي والفعال أو العامل في تعلّم الطفل، كيف يسلك في بيئته، وهذا الضرب من التحليل يستخدم لتفسير النمو الإنفعالي emotional deueopmnt، ونمو اللغة language development، والفروق الثقافية في السلوك، والنمو الإدراكي: الحسي الحركي، وما شابه ذلك في إطار نظرية التعلم.
ويعتبر كل سلوك مكتسبًا من خلال شكل أو آخر من أشكال التعلّم، والقليل جدًّا من السلوك النظري هو الذي يعزى للتركيب العضوي، ومن خلال مفاهيم التفرقة في الاستجابات: التعلم للاستجابة لمثير محدد، التعميم generalization "التعلم للاستجابة لمجموعات من مثيرات متشابهة"، يحاول أصحاب نظرية التعلم تفسير اتساع وعمق السلوك الإنساني human behavior بين مثيرات الاستجابة نتيجة للتعزيز، وهو المفهوم المستخدم لتعليل المظاهر الكبرى للنمو.
ومع أن نظرية التعلم كانت هي القوة المسيطرة في مجال علم النفس خلال الثلاثينات والأربعينات، فإن عددًا من علماء النفس اليوم ينتقدونها بشدة، ومن بين هذه الانتقادات: الاعتقاد بأنَّ السلوك الإنساني ليس كله متعلمًا، وسوف نناقش في هذا الكتاب أمثلة عديدة لسلوك ظاهري غير متعلّم؛ حيث إن أصحاب نظرية التعلّم يجدون أنه من الصعب تفسير ذلك السلوك، وثَمَّة انتقاد آخر كثيرًا ما يوجَّه لأصحاب نظرية التعلُّم، هو أنهم ينظرون إلى الإنسان كمجرَّد ابتكار آلي بحت، ومع ذلك: فإن هذا الانتقاد ليس سلبيًّا تمامًا، ولنتذكر أن النمط الآلي هو "كما لو كان آلة".
وأصحاب نظرية التعلُّم لا يقولون أن الإنسان ليس سوى آلة، بل إن مجرَّد تشبيهه بالآلة يساعدنا على فهم السلوك، فهو ليس إلّا.. ومهما يكن من أمر، فإن هذه الاعتراضات أدت إلى تجدد الاهتمام بإمكانية تطبيق أنماط أخرى على مشكلة تفسير النمو.
2-
النمط النمائي المعرفي Cognitive - Develpmental Model:
النمط الثاني في الكون الذي كان له أثر بالغ على أبحاث علم النفس هو النمط العضوي "Oveton & Reese، 1973" Organic Model وريس وأوفرتون "Reese & Overton، 1970" وهذا النمط يفترض أن الكون يعمل أشبه بتركيب عضوي حي وليس كآلة، ويعتبر من المؤكد حدوث التغير في تركيب المجموع "الكل"، وأن هذا التغير يكون في شكل أو حالة الكون، ولذلك فإنه تغير نوعي وليس كمي، ونتيجة لذلك يفهم التغير بأنه يحدث في مراحل متتابعة، تختلف كل منها اختلافًا نوعيًّا عن الآخرى، وأكثر منها تعقيدًا، ولكنها لا تختصر فيما بينها، والأهمية الكبرى هي في اكتشاف قواعد الانتقال من مرحلة إلى مرحلة ثانية.
وفي هذا النمط نجد أن المجموع أكبر من مجموع أجزائه، ذلك لأنه يضفي معنى على الأجزاء، بمعنى: إن معرفة الأجزاء لا تعني بالضرورة كما هو الحال في النمط الآلي أنها تسمح لجزء واحد بمعرفة شيء عن المجموع، وأخيرًا: فإن أسباب السلوك وتغيراته في هذا النمط نمائي أو قصدي بطبيتعه، يسير متقدمًا إلى الأمام. والتغير لا يحدث فقط عن أسباب فعالة، ولو أن هذه الأسباب قد تسهل أو تعوق التغير، والسبب في ذلك هو أن النَّمط يفترض أن المجموع نشط، وفي حالة انتقال متواصلة، ومن هنا يجب تحديد موضع السبب في المجموع، ويسمَّى ذلك بالسبب الشكلي frmal cause. والسبب الشكلي بالنسبة لمفهوم "كون" نشط تخضع لتغير نوعي تحول دون وجود كون قابل للتنبؤ به، ويمكن تحديد كمَّه، ذلك لأنَّ الأسباب الغائبة لا تسمح بالتنبؤ الكامل، والتغيرات النوعية لا يمكن أن تكون كمية تمامًا. وثَمَّة مثال شائع في الحياة اليومية قد يساعد على إيضاح هذا النمط، فلننظر إلى التركيب الكيميائي للماء، ونفحص خواص الأكسجين والأيدروجين كلًّا على حدة، فمن الواضح أن أيًّا منهما ليس له خواص الماء، ولكن
عندما يتحد الاثنان اتحادًا كيميائيًّا تبرز خواص الماء "البلل مثلًا"، وفي مجال الكيمياء يعتبر هذا مثلًا للمجموع الذي يزيد على أجزائه كل على حدة، وبمعنى آخر: فإن المجموع "أكسجين + أيدروجين" أكبر، وله صفات مختلفة عن أيٍّ من الجزئيين كل على حدة، كما أن التغير نوعي ويرجع إلى طبيعة العناصر المشتركة في التفاعل "سبب شكلي"، وهذا التغير لا يشبه إضافة أجزاء إلى آلة ما، ذلك لأن الخواص الجديدة الناتجة لا يمكن اختصارها إلى العناصر الأبسط، غير أنها في الآلة ممكنة "فالترانزيستور" يعمل بنفس الطريقة في آلة بسيطة. وثَمَّةَ مثال يشمل عدة مراحل نوعية يبدو لنا في تتابع التغيرات التي تبرز منها الفراشة: البيضة، اليرقة، الشرنقة، الفراشة، فهذه التغيرات نوعية، ومن نوع غير قابل للانعكاس "reese & overton، 1970"، وكما تدل على هذه الأمثلة فإن المجموع يضفي معنى على الأجزاء.
وفي مجال علم النفس يترجم النمط العضوي للكون إلى نمط التركيب العضوي النشط active - organism model للسلوك الإنساني "reese & overton 1973"، فالإنسان يعتبر "نشطًا بالفطرة وتلقائيًّا"، وهو "مصدر لأفعال، ولا يتقصر على النشاط بأسباب فاعلة، ويعتبر الإنسان مصدرًا للسلوك، وقادرًا على توليد أنماط سلوكية جديدة، ليس فقط كمستودع لأفعال متعلمة تصدر تبعًا لأسباب فاعلة، إن مختلف نظريات التركيب العضوي النشط في النمو مثل: نظرية بياجية piaget's Theory "1952" عن النمو المعرفي cognitive development ونظرية فرويد freud's theory "1930، 1935" عن تكوين الشخصية تستندان على النمط العضوي، ونظريات النمو المنبثقة عن النمط العضوي مثلها في ذلك كمثل مختلف نظريات الآلية بها بعض الاختلافات الأساسية، ومهما يكن من أمر: فإن العموميات التي تضم هذه النظريات تضعها في "أسرة واحدة، وكل نظرية في هذه الأسرة تشارك الأخريات مبدأ أساسيًّا فيما يختص بطبيعة التركيب العضوي للإنسان.
ومن داخل النمط العضوي للنمو، يعتبر التغير واقعًا مقبولًا، وبعبارة أخرى: فإن النمط العضوي قابل للنمو والتغير "reese & overton 1973". إن طبيعة
التغير النمائي طبيعة نوعية "تغير في النوع"، أكثر مما هو تغير كمِّي "تغير في الكمية"، والتغير يكون من مرحلة نموٍ ما أقل تعقيدًا إذا تَمَّ الانتقال إلى مرحلة أكثر تعقيدًا، ونتيجة لذلك: فإن هذا النمط لا يفترض التنبؤ الكامل بالسلوك، كما أنه لا يشدد في إيجاد علاقة بين السلوك وأسباب فاعلة محددة. وفي كل مستوى جديد من مستويات النمو تبرز خواص تركيبية جديدة للجسم، لا يمكن اختصارها مباشرة إلى خواص المستوى الأدنى، ومع نمو التركيب العضوي، ونضجه، ونموه، يكتسب أشكالًا جديدة مختلفة نوعيًّا للتفاعل مع البيئة، وذلك بسبب التغيرات التي تجعل التنبؤ بالسلوك في منتهى الصعوبة. والتصور الأساسي طبقًا لـ" rees & overton، 1970، 126" هو أنه "يوجد تركيب عضوي منظم يعرض بعض الوظائف، وأن التركيب يتغيّر في تنظيمه أو شكله مع تغيرات تالية في الوظيفة، وبالنسبة لكثير من علماء النفس، خاصَّة أولئك الذين أطلق عليهم اسم "علماء نفس النمو"، فإن التغيّرات ليست إتجاهية أو قابلة للانعكاس، وهي موجهة نحو حالات أو أهداف معينة، ولذلك فإن الأبحاث التي تقوم على نمط التركيب العضوي النشط تؤكّد التغيرات النوعية التي يتقدّم فيها الإنسان في أثناء النمو، وفي مناقشتنا لنظرية بياجيه المعرفية سوف نناقش مراحل متعددة تتطور فيها عمليات التفكير. إن الطفل الوليد يفكّر مع الأفعال، والشخص البالغ يمكنه أن يفكّر برموز تجريدية، وتعتبر هذه طرقًا نوعية مختلفة للتفكير، وهي نتيجة الانتقال من مراحل نمو مبكرة إلى مراحل تالية أكثر نضجًا وتعقيدًا. وهذه التغيرات، وتغيرات أخرى أكثر دقة تحدث مواكبة تنكشف في السلوك. إن قدرات الفرد البالغ على التفكير تسمح بأنواع مختلفة من السلوك أكثر مما في حالة الطفل، وأن السلوك الظاهر phenomeno behavior، بدلًا من أن يعتبر نتيجة النمو فحسب، فإنه يمثل أيضًا النمو ويفهرسه، وذلك أنه يعكس تغيرات في تكوين التركيب العضوي.
ولذلك فإن وجهة النظر الخاصَّة بالنمو المعرفي، تنظر إلى النمو كمتغير أساسي يحدث داخل تركيب عقل أو شخصية "التركيب العضوي" نفسه، وطبيعة هذا التغيُّر يتجه دائمًا نحو تعقيدات أكبر في النمو " rees & overton، 1970". ووجهة النظر هذه ذات عدة دلالات، نرى أنه من المناسب عرضها الآن، وهي:
أ- الاستمرارية/ التوقف "عدم الاستمرارية" continuity/ dizontinnity:
ثمة موضوع يثار عمَّا إذا كان النمو يحدث بطريقة مستمرة أو أنه يتوقف، ويرى أصحاب نظرية "التركيب العضوي النشط" أن النمو يحدث خلال سلسلة من المراحل، كل منها يمثل نمطًا نوعيًّا مختلفًا من التفاعل مع البيئة. إن نظرية "بياجية" عن النمو المعرفي "1952" تقدم سلسلة من المراحل في نمو الذكاء، وكل مرحلة أكثر تعقيدًا من المرحلة السابقة لها، وتضم تقدمًا نمائيًّا عن المراحل السابقة.
ومع أن النمو قد يبدو كمجوعة من مراحل غير مستمرة، فإن هذه المراحل تمثل رؤية أساسية للنمو، ولا تدل على توقف حقيقي، وينظر إلى النمو كعملية تغيّر مستمرة وبطيئة، وفي كل مرحلة يحدّد مستوى النمو من واقع مكونات التركيب العضوي، أي: إن السلوك يدل على النمو البنائي للتركيب العضوي، وهو الطريقة التي يمكن بها أن نعرف مرحلة النمو لهذا التركيب، والتكوينات بدورها يفترض أن تنعكس في السلوك، ومن هنا فإنَّ التسلسل المنطقي هو أنَّ السلوك يتحدَّد بتكوينات تعكس بدورها مراحل النمو، ويفترض أن تضم كل مرحلة القدرات "التكوينات" الخاصة بالمراحل السابقة، ولكن يفترض فيها أيضًا أن تكون أكثر من ذلك، ومن ثَمَّ فإنه من المستحيل تخفيض سلوك معقَّد إلى مجموعة من الأنماط السلوكية الأبسط، وهي الأنماط التي تكوّنه "شكل: 43"، كما يحاول ذلك أصحاب نظرية التعليم. وينظر إلى الطفل باعتباره قادرًا على توليد تكوينات
جديدة، وبالتالي أنماط سلوكية من مجموعة عقلية من عناصر موجودة فعلًا، ولكن تمثّل أنماطًا جديدة أكثر تعقيدًا من الوظيفية، ولنتذكر المثل الذي قدَّمناه عن مزج الأيدروجين والأكسجين ليكون لهما خاصية البلل "الماء" الذي يتمّ الحصول عليه من مزجهما. إن التغيّر الذي يحدث للعناصر عند مزجها تغيّر نوعي، وتبرز خاصة جديدة "الماء" لا يمكن اختفاءها مباشرة إلى العناصر الأبسط، وكذلك السلوك الناتج من العناصر الممتزجة يختلف عن سلوك أيّ عنصر منفرد، ويفترض نمط التركيب العضوي أن السلوك الإنساني "الذكاء بصفة خاصة" هو أيضًا نتيجة لتغيرات نوعية، وخواص السلوك العقلي المعقَّد لا يمكن اختصارها إلى خواص السلوك العقلي البسيط الذي انبثقت منه.
وتعتبر كل مرحلة أن لها صفاتها الخاصّة، علاوةً على صفات كل المراحل السابقة، مثال ذلك: ما اقترحه بياجية "1952" من أنَّ القدرات العقلية الخاصة بكل مرحلة تندرج في قدرات المرحلة التالية، وهكذا فإن التفكير الإجرائي المحسوس concrete operational thinking "المرحلة الثالثة" يندرج في التفكير الإجرائي الشكلي frmal operational thinking "القدرات التجريدية للفكير في المرحلة الرابعة"، ولكن التفكير التجريدي يختلف في النوع عن التفكير المحسوس، كما أن التفكير الإجرائي الشكلي لا يمكن اختصاره مباشرة إلى تفكير محسوس، ولذلك فإن مجموع نمط التركيب العضوي في وقت معين أكبر من إجمالي الأجزاء.
ب- الكفاءة والأداء competence / porformance:
وثمة موضوع هام آخر يبرز من نمط التركيب العضوي النشط، وهو التفرقة بين الكفاءة "الجدارة"، والأداء، ويمكن تعريف الكفاءة competence بأنها مدى إمكانات "قدرات" التركيب البشري في إطار معيّن من السلوك. أما الأداء performance فيمكن أن يعرَّف بأنه: السلوك العملي "الفعلى" للفرد في وقت معين وظرف معين، وفي داخل رؤية التركيب العضوي المتفاعل، فإن سلوك الفرد أي أداءه يدل على ما يستطيع الفرد عمله بالفعل، ولا يسري ذلك بالنسبة لنمط التركيب العنصري. إن السلوك في أيّ وقت معيّن يفترض أن يعكس الأداء فقط، وليس كل أجزاء الكفاءة "الاقتدار".
والأداء ليس سوى قياس غير كامل الاقتدار "الكفاءة"، وعلى ذلك: فإن سلوك الفرد يعكس جزئيًّا اقتدار الفرد، وكمثال لتأمّل نمو اللغة: إن طفلًا في الثالثة من عمره قد يستطيع استخدام جملة من ثلاث أو أربع كلمات للاتصال بوالديه أو من هم أكبر منه، ولكن هل هذا هو أقصى إمكانيات potentials الطفل؟ الواضح أن الإجابة عن هذا التساؤل هي النفي، والمؤكد أن الطفل يستطيع أن ينتج جملًا أطول، وحتَّى لو اعتبرنا عينة من الأداء أكثر اتساعًا، فمن المحتمل ألَّا نحصل على مقياس دقيق لاقتدار "كفاءة" الطفل، والسبب في ذلك أن الأداء يتأثَّر بعدد من العوامل مثل: التعب.
وإذا نحن غيرنا هذه العوامل: فإن الأداء لا بُدَّ وأن يتغيِّر، ولكنه لا يحتمل أن يضاهي الاقتدار "الكفاءة" مباشرة، ويبدو لنا ذلك شديد الوضوح إذا سألنا الطفل أن يقلد مجموعة من الكلمات لا معنى لها، فهو قد يتمكَّن من محاكاتها "أداء"، ولكن لا يحتمل أن نستنتج من ذلك أن اقتدار الطفل يعكس كفاءته على تقديم كلمات لا معنى لها بطريقة مباشرة، ولما كان المفترض أن الاقتدارات "الكفاءة أو الجدارة أو الأهلية" تتغيّر مع مستوى النمو للفرد، وحيث إن النمو يتغيّر باستمرار، فإن الاقتدرات "الكفاءات" تتغير باستمرار.
والآن يجب أن يكون بالإمكان فهم معنى مصطلح "تركيب عضوي نشط" active prganism، والمفترض أن التركيب العضوي النشط في حالة تغير مستمر، وهذا التغير نوعي؛ لأن التركيب العضوي -بطريقة ما- يضيف إلى خبراته، ويكون طرقًا جديدة مختلفة للتفاعل مع البيئة، وهذه الطرق لا يمكن اختصارها مباشرة إلى خبرات بيئية محددة، كما لا يمكن تفسيرها بأسباب فعالة، وبعبارة أخرى: يبدو التركيب العضوي نشطًا بطريقة غريزية وتلقائية، كمصدر للسلوك ولتغيرات السلوك، وهو يقوم بدور نشط في تغيير كفاءته "جدارته"، الأمر الذي لا تستطيع أي آلة أن تفعله، وهذه التغيرات تعكس اختلاقات نوعية في النمو؛ فاليافع ذو الخمسة عشر ربيعًا مثلًا يستطيع أو لديه الكفاءة على إنتاج أنواع مختلفة من الحلول للمسائل أكثر مما يستطيعه طفل في الخامسة، وسواء قلنا أن الشاب ذو الخمسة عشر ربيعًا أفضل من طفل الخامسة بمقدار عشر مرات أو ثلاث مرات
في حل المسائل، فإن ذلك خارج عن الموضوع. إنَّ ما يتعلق بالموضوع هو أنَّ الاقتدارات أو الكفاءات والجدارة أو المستوى الوظيفي للشاب ذي الخمسة عشر ربيعًا تختلف عن اقتدارات أو كفاءات طفل الخامسة.
وقد يكون من المناسب الآن أن تسأل كيف تحدث هذه الاختلافات في الاقتدار أو الكفاءات، وما هي الدوافع خلف هذا النوع من التغير؟ إن السبب الأساسي للتغيّر في النمط العضوي كما سبق وذكرنا "سبب نمائي موجَّه نحو حالة محددة"، وفي داخل النمط العضوي يوجد نوعان من الأسباب الغائبة الهادفة:"شكلي formal، نهائي final".
- والسبب الشكلي formal cause:
يشير إلى تنظيم الفرد، أي: التكوينات النفسية التي يتكوّن منها التركيب العضوي؛ وحيث إن هذه التكوينات تتَّجه دائمًا نحو مستويات وظيفية متزايدة في التعقيد، فإن السبب الشكلي يكون غائيًّا "هادفًا" في طبيعته، هو يقود التركيب العضوي للأداء بطرق متزايدة في التعقيد نحو مستويات وظيفية متزايدة.
- والسبب النهائي "الختامي" final cause:
يشير إلى محاولة الفرد تتميز نفسه وبيئته "peese & overton 1970"، وبعبارة أخرى فإن الفرد والبيئة بينهما علاقة فعل متبادل، يغيِّر كلّ منهما في الآخر، وعملية التمييز هذه تعتبر ضرورية كشرط دافع "سبب" للنمو motivating condition، وطبقًا لنموّ التركيب العضوي النشط فإن الأسباب الفعّالة "تفاعل بيئي أو تعلم" ليست هي الطرق الوحيدة التي يحدث بها التغيير.
وتفسيرات النمو هذا تختلف تمامًا عن تفسيرات التركيب العضوي النشط، أو النمط الآلي، ونتيجة لذلك: فإن المتخصصين في النمو المعرفي يطرحون أسئلة مختلفة عمَّا يطرحه أصحاب نظرية التعلم حول طبيعة النمو. فمثلًَا يهتم أصحاب نظرية النمو المعرفي بصفة أولية بعمليات النمو، واهتمامهم أقل بنتائجها، "أي: بأنماط السلوك" التي تلقى اهتمامًا بالغًا من أصحاب نظرية التعلّم، فمثلًا عندما يعزز سلوكًا مقبولًا من الطفل حتى يتغير حسبما نريد، فإن هذا التغير في سلوك
الطفل الذي هو "نتاج" هذا التغير يعتبره أصحاب نظرية التعلم نموًّا، في حين أنه قد لا يكون نموًّا في رأي علماء النفس المعرفيين. ذلك لأنه قد لا يؤدي إلى تغيُّر تركيبي في الطفل، مثلًا ذلك: إننا قد نعرض على طفل في الثالثة كوبين متساويين مليئين بالماء، فإذا سكبنا محتويات أحد الكوبين من الماء في طبق، وسألنا الطفل ما إذا كان الطبق أو الكوب الآخر به ماء أكثر، أو أنهما مستويان، فإنه من المحتمل جدًّا أن يقول بأن أحدهما به ماء أكثر من الآخر. الطبق أن الكوب مثلًا، لأنه أوسع، لأن مستوى سطح الماء فيه أعلى، والواقع أننا نعرف أن كلًّا منهما به نفس المقدار من الماء، وباستخدام مبادئ التعزيز "التدعيم" نستطيع أن نعلِّم الطفل أن يقول بأن الطبق والكوب كلًّا منهما يحتوي على نفس المقدار من الماء، ولكن من غير المحتمل أن يتعلّم الطفل القاعدة العامة، وهي أنه إذا كان لدينا كمية من شيء ما، ولم نضف إليها أو نأخذ منها، فإن الكمية تظل كما هي. إنَّ ما تعلمه الطفل هو استجابة محددة لموقف محدد. وعلى ذلك فإن التعزيز "سبب فعَّال" يمكن أن يغيّر الأداء دون أن يقتضي ذلك تغيير الصفات التكوينية للطفل، أي: الطريقة التي يفهم بها العالم.
ج- التكوينات النفسية:
ويجدر بنا هنا أن نقول كلمة عن التكوينات النفسية: إن هذه التكوينات تركيبات افتراضية، هي مفاهيم تصف العمليات التي تشاهد مباشرة، وأصحاب نظرية النمو المعرفي لا يقولون بأن الإنسان لديه هذه التكوينات، بل هو يعمل كما لو أنه يمتلكها، وهذه التكوينات ليست واقعية، ولا تتواجد منفصلة عن النظريات التي تضمها. إننا لا نستطيع أن نفتح رؤسنا ونختبر هذه التكوينات منها، ولذلك فعندما نتكلم عن التغير التكويني فإننا نتكلم عن نمط من التغيرات في الطريقة التي يتعامل بها التركيب العضوي مع البيئة، وسواء كان الإنسان يمتلك هذه التكوينات حقيقة أم لا، فالأمر لا علاقة له بجدوى المفهوم كأداة لفهم السلوك الإنساني.
وتعتبر الأبحاث التي توضح العلاقات بين مختلف موضوعات النمو محاولة هامة في نظرية النمو المعرفي. وقد بذلت مجهودات كبيرة في البحث لإيضاح العلاقات بين الذكاء والنمو الأخلاقي "kohberg، 1969، 1973" moral development وبين
الذكاء ونمو اللغة، وبين النمو المعرفي والنمو الاجتماعي social develpment "shantz، 1975"، وبين النمو الأخلاقي والسلوك الأخلاقي moral behavior "محمد مراد 1988، hogan، 1973"، وبين النمو المعرفي والنمو الأخلاقي "عادل عبد الله 1985"، وبين النمو النفسي الاجتماعي والنمو الأخلاقي "حسن مصطفى: 1991".. إلخ.
وهكذا فإن مثل هذه العلاقات حاسمة بالنسبة "للمذهب الكلي"1 التِّي يرتكز عليها نمط النمو المعرفي "overton، reese، 1970".
- ومن هذا يتَّضح أن النمط المعرفي يشير إلى أن التنبؤ بالسلوك وتفسيره موضوعان منفصلان، فالتنبؤ على أحسن الفروض ضئيل؛ لأنَّنَا لا نستطيع كتابة معادلات دالية تربط السلوك بأسباب فاعلة محددة. إن فهم أو تفسير السلوك يعكس معرفتنا بنمو الطفل عبر مرحلة سن معينة، وهذا حقيقي حتى ولو لم نتمكن من تحديد كيفية تفاعل البيئة، والصفات والتغيرات في تكوين الطفل لتنتج هذا السلوك المعين.
إن النمطين اللذان ناقشناها لهما وجهتا نظر متميزتان بالنسبة للتركيب العضوي الإنساني، ونتيجة لذلك فإنهما يمثلان وجهتي نظر مختلفتين تمام الواحدة عن الأخرى بالنسبة لطبيعة نمو الطفل، وهما يقدمان إجابات مختلفة على المسائل المتعلقة بالنمو، وإذا نظرنا إلى الأسئلة الثلاثة التي طرحناها في بداية هذا الفصل نجد:
- إن أصحاب نظرية التعلّم: يعتبرون الطفل سلبيًّا نتاجًا للبيئة ومجموعة من عناصر الإثارة والاستجابة. إنهم يعتبرونه وقد وُلِدَ أشبه باللوح الأملس أو الصفحة البيضاء، وكل أشكال النمو تحدث بسبب التدخّل البيئي "التعلم"، ولذلك فإن الطفل يعتبر مستودعًا لأنماط متعلمة "عناصر الإثارة والاستجابة"، ويرجع النمو إلى تجمعات تعليمية من أنماط سلوكية أبسط، مما يجعل بالإمكان قياس النمو.
- ويعتبر أصحاب نظرية النمو المعرفي أن الطفل مستكشف نشط للبيئة، وأن له صفات متوارثة "مثال ذلك، آليات بياجيه الاستعابية التلاؤمية"، وأنه قد استكمل تكوينات معرفية، ويعتبر النمو تغيرًا نوعيًّا في تكوينات التركيب العضوي ناتجًا عن استكشافه النشط للبيئة.
ومن استطراد القارئ لفصول الكتاب سيجد أن الطرق التي أثَّر بها هذان النمطان في البحث في مجال نمو الطفل قد أصبحت واضحة، وفي كثير من الحالات سيتاح لنا أن نناقش مجال بحث مثل: اكتساب الدور الجنسي، ومن كلٍّ من هذين المنظورين، ومع ملاحظة أن وجهتي النظر في النمو تولِّدان مسائل مختلفة للبحث، فإن القارئ سرعان ما يتبين أن البحث مستندًا إلى كل نمط يسهم بقدر كبير من تفهمنا للموضع الجاري بحثه، علاوة على ذلك: فإن المسائل المختلفة التي تطرحها كل معالجة عن المفهوم تصبح أكثر وضوحًا، ولذلك فإننا نعتقد أنه من المهم أن نلمّ بهذين النمطين العامين للنمو.
1 المذهب الكلي holism. wholism: المذهب الكلي محاولة للظر إلى الإنسان ككل، يجمع الجسم والعقل في وحدة متآزرة غير منعزلة وليس كأجزاء.