الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجالات ومعايير تقدير الهوية:
أولًا: المجال المهني:
سواء كان المراهق طالبًا جامعيًّا أو دخل مجال العمل، فإن ما نسعى إليه هو التعرُّف على التداخل "التشابك" النفس/ اجتماعي بين قدرات الفرد وحاجاته من جهة، ومطالب المجتمع وجزاءاته من جهة أخرى. فمن المتوقَّع أن يقيم قدراته وميوله، وأن يكشف عن الفرص الاجتماعية، وأن يحدّد اتجاهًا ملتزمًا يتصرَّف بمقتضاه، هذا الالتزام قد يتَّخذ صورًا شتَّى، منها ما هو عائلي "يتعلق بالأعمال المنزلية، وتربية الأطفال" أو مهني "سباك، سمكري، سكرتير"، أو تعليمي "تلمذة صناعية أو تدريب مهني، تخصص جامعي".. إلخ. هذه الصور قد تتداخل وتترابط معًا، ولكن الأهمَّ هو ما ينجزه الفرد، أي: ما يحوله من "طفل" متلقي في مرحلة تفتُّح، إلى "راشد" منتج، وما يصاحب ذلك من سلوكيات وانعكاس ذاتي بما يتمشَّى مع أسلوب الحياة.
وهناك مشكلة تتعلَّق بالمجال المهني كمعيار لتكوّن الهوية، فقد تعمل الظروف الاجتماعية بدرجة شديدة أحيانًا، على تحديد اختيار البدائل التعليمية والمهنية، ففي الظروف الاقتصادية الصعبة يصبح مجرَّد الحصول على وظيفة -كمهنة- "أي مهنة" شيئًا هامًّا، وبالتالي يصبح الاستكشاف والالتزام نوعًا من الرفاهية، وإذا لم يتوفَّر التنوُّع في نطاق المقابلة الشخصية "كالأيديولوجية السياسية في حكومة مستبدة محتكرة مثلًا" تجعل هذه الناحية تفقد معناها كمؤشر على تحقق الهوية، وليس كمؤشر على الهوية بمقوماتها. إن تحقق الهوية أو بناءها يستلزم وجود الاختبار في مجالات الحياة المختلفة، وإذا لم توجد هذه الاختيارات في داخل مجتمع معين، أو إذا كانت ناحية منها ضعيفة، فإن نموذج الهوية السائد في هذا المجتمع يصبح في أحسن الظروف هو إعاقة الهوية، وفي أسوأ الظروف هو تشتت الهوية.
وثَمَّةَ قضية أخرى أثيرت عن المجال المهني -وقد تثار مرة أخرى، وهي: هل احتمال الالتزام الفكري يعوق "يمنع" الالتزام المهني؟ والواقع يشير
إلى أنه في أثناء حرب فيتنام أصبح كثير من الشباب في الولايات المتحدة ملتزمين بأيدولوجية من عدم المشاركة في ثقافة الراشدين، فقد كان جزء من هذه الأيديولوجية هو أنه: لكي يشغل الفرد مكانًا مهنيًّا لائقًا في المجتمع، عليه أن يقدِّم تأييدًا لسياسة الاستيطان الذي كان يتمّ بطريقة لا أخلاقية. لذلك: فإن أي مهنة كما تحدد نموذجًا يمكن أن تكون مقبولة، لذا فإنَّ مثل هؤلاء الأفراد كانوا يسمون ذوي الإنجازات المغترب alienated achievement؛ إذ يحدث تحقق الهوية اصطلاحيًّا. فالنقطة العامة هنا: هي أنَّ المقصود بالهوية على المستوى النظري تمثل عملية ذات طبيعة تركيبية كلية gestalt - like، وأن المجالات المختلفة منها يمكن أن تقدر كلٌّ على حدة مستقبل بعضها عن بعض. وقد نتحدث هنا عن الهوية المهنية، ولكن هوية الأنا التي فضَّلها مارشيا فإنها تشير إلى كل منظم، قليلًا أو كثيرًا، مما يلزم القائمين بالمقابلة بأن يكونوا منتبهين للموضوعات المتكاملة التي تجري أثناء الحديث عن المجالات المنفردة التي تشكّل هوية الفرد. فمثلًا: هناك بعض المهن التي لا يمكن للماركسي أن يختارها قانونًا، وهناك بعض المعتقدات عن أدوار الجنس، وعن الجوانب الجنسية التي لا يجوز أن يسعى إليها الشخص المتعصّب "المتشدد"، ورغم ذلك: فكلا الشخصين يمكنه أن يحقق هويته، ومن المفيد بعد تقدير المجالات التي تتضمَّنتها المقابلة منفصلة أن تنعكس جميعًا على الفرد ككل بعد الاستماع إليه، ومحاولة استخلاص من بين رتب الهوية ما يتمشَّى مع نسيج هويته، أو المزاج الخاص به.
وفيما يلي نعرض لرتب الهوية في المجال المهني:
أ- تشتت الهوية: identity diffusion:
هناك ثلاثة أنواع من الانتشار "التشتت" في المجال المهني:
أولها: ما يسمَّى بالنوع الانتهازي opportunist: وهو الذي يقفز على كل ما يجده مربحًا بلا عناء في هذه اللحظة "اللي تغلب به إلعبيه"، فالحماس يخبو سريعًا، وسرعان ما ينكشف الالتزام في المقابلة بسهولة على يد القائم بإجراء تلك المقابلة، الفطن المدقق الذي يمكن أن يقترح بعض الاتجاهات المهنية الجذابة عالية العائد والإنجاز الأكثر سهولة.
والنوع الثاني: من التشتت المهني هو المنساق "الهوائي" drifing: وهو الذي ينتظر أن يختار له بعض المهن لا أن يسعى هو إليها، مثل هذا الفرد يميل إلى أن يسعى وراء العائد السريع، ويتميِّز بضعف الإيمان "وربما يلفُّه اليأس" من حدوث شيء ما أو أن شيئًا ما سيصادفه.
أما النوع الثالث للتشتت في المهنة: فيعكس نوعًا ما من القلق والاضطراب النفسي بدرجة ما، فالاختبار المهني يقوم على خيال وجنون العظمة، ولا يتطابق مع واقع استعدادات الفرد المهنية وإنجازاته؛ كشغف الفرد في أن يصبح أخصائيًّا نفسيًّا إكلينيكيًّا في عيادة خاصة، بعد أن يحصل على تقدير ضعيف في دراسته في علم النفس مثلًا، أو شغف فتاة أن تكون مشهورة في ممارسة الباليه في سن 21 سنة، مثل هذين المثلين يدلان على هذا النوع من الخيال المريض.
كل هذه الأنواع من الانتشار "التشتت" تشترك جميعًا في انعدام أو نقص الالتزام، أو على الأقل نقص الالتزام الواقعي "الحقيقي" الذي يؤدِّي إلى التوظيف المناسب وسلوكياته، حتَّى وإن كان الأفراد قد مروا بفترة الاستكشاف فعادة ما تكون وجيزة واصطناعية.
ب- إعاقة الهوية:
تعد إعاقة الهوية ذات أثر أكيد في التوجيه المهني للفرد، وتعد عنصرًا هامًّا في هويته لعدة سنوات. فعادة يكون هناك أثر فعَّال ومحسوس disecernible للوالدين أو أي سلطة أخرى في حدوث ذلك، وحتَّى إذا لم يتمكَّن الفرد من تحديد اتجاه ثابت، أو إذا تَمَّ تحديد الوضع المهني مبكرًا ولم ينظر في البدائل، فإن إعاقة الهوية تصبح هي الوصف المناسب للفرد. والافتراض بأن أي قرار مهني خلال المراهقة المتأخِّرة قد تأثَّر بالكبار أو بقي ولم يعدَّل خلال هذه المرحلة، فذلك يعني أن عملية بناء الهوية لم تتم أو تحدث1.
ج- توقف الهوية: moratorium:
تتداخل فترات توقف الهوية في عملية الاستكشاف، ويميل الأفراد فيها نحو عديد من التعبيرات اللفظية التي تعكس ذلك، وعلى الرغم من ذلك فإن فترات توقف الهوية وبصفة خاصَّة في المراهقة المتأخرة لا تشمل الخريطة المهنية ككل في العادة، بل إنَّ توقف الهوية يجعل الأفراد يميلون إلى أن يكونوا متلزمين داخل مجال عام، كما أنهم لا يكافحون بشدة أو بشكل مكثَّف، وأحيانًا يمكن أن ينظروا ببساطة في بدائل معقولة حتى يتمَّ الوصول إلى القرار، ورغم ذلك: فإن وصف الأفراد بأنَّهم في حالة توقف الهوية، لا بُدَّ أن يظهروا أنهم مهتمون، وأن يكون لديهم بدائل استكشافية فعالة، بهدف الوصول إلى التزام مهني.
د- تحقق الهوية: identity achivement:
الأفراد المتَّصفون بتحقق الهوية يتميِّزون بالاستكشاف الجاد، على الأقل للبحث عن البديل الحي الأوحد للمهنة التي يقع عليها اختيارهم، بما يجعلهم يفكرون في ذواتهم كشيء "مدرس، أو مهندس
…
مثلًا"، فهم تقريبًا لا يسيرون في اتجاه مجالٍ ما فحسب، ولكن اختيارهم المهني يمثل جزءًا من هويتهم، والتعريف بذاتهم، فهم يؤكدون كثيرًا على كينونتهم وليس على ما سيفعلونه. وكقاعدة: فإن ذلك يظهر -عمومًا- من نظرتهم لمجال مهنهم على أنه عمل بالفعل أو خبرة تطوعية باختيارهم.
1 إعاقة الهوية في المجال المهني لا تعني أن الفرد يكون بالضرورة أقل كفاءة في هذه المهنة من الذي اختار بنفسه تلك المهنة، فذلك يصدق فقط في مجال الفنون.