الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: الالتزام commitment
يعد الالتزام من الأهمية بمكان في المراهقة المتأخِّرة أكثر من أي فترة آخرى سابقة، فقبل أن يغدو الفرد رجلًا راشدًا عليه أن يتمثَّل الدور والسلوكيات المصاحبة للرشد: فدخول هذا الدور، أو الاستعداد لمهنةٍ ما، واعتناق أو تبنِّي وجهة نظر متَّسعة عن الذات في العالم الذي يعيش فيه الفرد، وهي ما يطلق عليها "فلسفة الحياة"، وتقرير الفرد لعلاقاته الجنسية كراشد، كلها تتَّحد في تلك الفترة، ولا يمكن لفرد أن يدَّعي أن ذلك هو نهاية المطاف نحو الرشد؛ إذ أنَّ النضج مسألة أعقد مما هو تحت السطح، ولكن على المرء أن يبدأ من مكانٍ ما، وأن مجموعة الالتزامات المهنية والفكرية والعلاقات الشخصية للفرد في المراهقة المتأخِّرة هي مجرَّد نقطة بداية.
ماذا نعنى بالالتزام إذن كما وصفه إريكسون drikson كخاصية نفسية اجتماعية مميزة لهذه المرحلة؟ يشير الالتزام بحقٍّ إلى: الاختيار المحدَّد بين الممكنات، والتثبّت في الاتجاه المختار في مواجهة بدائل جذَّابة ومميزة، وذلك لا يعني عدم التطرُّق إلى التغيير، ولكنَّه يعني الإحجام عن هجر طريق ممهَّد بسهولة.
وفيما يلي بعض المعايير لتقيم مدى وجود أو غياب الالتزام، ودرجة كلٍّ منها:
1-
القدرة المعرفية:
من المعروف أنَّ المراهق الملتزم يعرف ما هو مقبل عليه، وهذه المعرفة تقوم على تأثير الفرد في نتائج السلوك المتَّسقة مع التزاماته، فقد لا يثق المرء في التزام الفرد الذي يعلن عن رغبته في دخول العمل التجاري، وهو لم يحصل على أيَّة دراسات تجارية، كما لم يلتحق بأيَّة مؤسسات اقتصادية. ولما كانت الرغبة في "جمع المال" لا تكفي لتبرير الالتزام، فقد وجب على الفرد أن يترجم الكيفية التي يحقق بها تلك الرغبة، وكذا السبب. فالقدرة المعرفية تتَّصل بالإعلام عن الالتزام عمليًّا، وقد يجد الفرد عادة صعوبة في التعبير بوضوحٍ عن شيءٍ ما لا يعرف عنه الكثير، أو لم يفكِّر فيه بعمق، وثَمَّة افتراض آخر: وهو أنه إذا كان الفرد يعرف ويفكّر في مجال معين، فإنه سوف يستطيع التحدث عنه في مقابلة شخصية تتصل بتحديد الهوية، فهل ثَمَّة ادَّعاء هنا بأنَّ هناك ارتباطًا بين تحقيق الهوية
والقدرة التعبيرية للفرد؟ في الواقع: الإجابة بنعم، وقد يكون لدى الفرد إعاقة للهوية بدون أن يكون قادرًا على التعبير عنها وعن تفاصيل تكونها، ورغم ذلك، فإن تحقّق الهوية يعني البحث بعمق في جوانب حياة الفرد؛ بحث يمكن التعبير عن نتائج هذا الفكر في إطار المقابلة الخاصّة بتحديد الهوية.
2-
النشاط:
لمعرفة النشاط الذي يكون الفرد مقبلًا عليه، لا بُدَّ وأن يكسب خبرات مناسبة. فثَمَّة ما يمكن أن يصفه الفرد في رأسه، لذا كان أحد جوانب الالتزام يتضمّن السلوك الكائن في نطاقات الالتزام المترابطة. فمثلًا: قد يؤدي الفرد أدوار الجنس Sex roles غير التقليدية، ولكن ما لم يحاول بالفعل أن يسلك بطرق غير تقليدية، فإن مثل هذا الالتزام يكون موضع شك. وبالمثل: فقد يدَّعي شخص ما ارتباطه بفلسفة سياسية ما، سواء كانت يمينية أو يسارية؛ بحيث تتطلَّب نوعًا ما من النشاط، ورغم ذلك إذا لم يظهر الدليل على وجود النشاط السياسي المباشر، فالالتزام هنا لا يُعْتَدُّ به.
إن تقييم جانب النشاط في الالتزام يقوم على تمييز أساليب الفرد في تحولها إلى حقيقة، وكلما تأكَّد النشاط فإنه يمكن تصنيف الفرد في إحدى مراتب الهوية، وفي الغالب: فإنَّ كثيرًا من عمل الهوية يتم داخليًّا مع وجود القليل من العلامات الظاهرة. ومن المعلوم أنَّ قاعدة التقدير العامَّة تشير إلى أنه إذا كان معظم النشاط داخليًّا تقريبًا، فذلك يعني أن الفرد يتَّجه نحو توقُّف الهوية، فإذا ظهر ثَمَّة دليل خارجي على الاستكشاف والالتزام، فعنذئذ يتجه الفرد إلى تحقق الهوية، وإذا ظهرت مؤشرات سلوكية واضحة على الالتزام، وكان الاستكشاف موضع شك أو تساؤل، فيمكن عندئذ تحديد إعاقة الهوية كتصنيف. وبعبارة أخرى: إذا كانت الدلائل السلوكية هامَّة، فإن التعبير الجيِّد عن المعتقدات وما يجري في النفس يُعَدُّ دليلًا كافيًا ولو كبداية لعملية تحقق الهوية.
3-
المزاج الانفعالي:
هناك خمسة أمزجة مؤثرة وسائدة في تمييز الهوية هي: تأكيد الذات الصلب solid self - assuredness الخاصِّ بتحقق الهوية، مقارنة النفس الصلبة
inflexible self righteousness لإعاقة الهوية، والكفاح، والشدَّة، والسلوك القلق إلى حدٍّ ما الخاص بتوقّف الهوية، واللامبالاة الخفيفة المتعلِّقة بالانتشار الجنسي، والحزن والكآبة، أو النوع الطفيف من الانتشارات المنعزلة.
وأيًّا من الخصائص السابقة "القدرة المعرفية، والالتزام" لا تشير بمفردها إلى وجود أو غياب، أو درجة الالتزام والمزاد الانفعالي، كذلك قد تبدو بعض مظاهر تحقق الهوية صلبة تمامًا، كما أنَّ بعض مظاهر توقُّف الهوية لا يعني المعاناة في الواقع، ولكن بصفة عامَّة، فإن وجود الالتزام يبدو أنه قد يحقّق نوعًا من التوازن في الثفة بالنفس، كما أن غايةً قد يؤدي إلى التشكك أو الاهتزاز في الثقة بالنفس إلى حدٍّ يبلغ الثرثرة أو الصمت المطبق.
4-
التوحُّد بالشخصيات المتميزة:
إن وجود نماذج الدور المتميز كالصور المثالية أقلّ أهمية في المراهقة المتأخِّرة عنه في المراهقة المبكرة؛ لأنه في هذه المرحلة الأنا المثالي ego ideal يكون قد حقَّق إطاره الرئيسي بالفعل. لذا: فإن الشخصيات المتميزة تلعب دورًا مباشرًا وواقعيًّا، في المراهقة المتأخرة مثل المعلمين، والمصلحين، والنماذج التي لها تأثير محتمل في القرارات المهنية أو الفكرية، وبعبارة أخرى: فإن ما يتركه الآخرون ذوي الأهمية في نفس المراهق في المرحلة المتأخِّرة، في الحقيقة هو أكثر أهميةً من هؤلاء الأشخاص أنفسهم أو ما يمثلونه بشكل مثالي، وكل ما يفعله المراهق لتحقيق هويته ينعكس في عدم رغبته في أن يكون محاكاةً للدور المثالي أو النموذج، وبالتالي تزيد قدرته على التمييز بين الجوانب الإيجابية والسلبية للأشخاص المتميزين، والعكس صحيح، أي: إنه إذا قلَّ جهد الفرد لتحقيق الهوية، زادت رغبته في أن يكون نسخة من الشخص موضع الإعجاب، أو ربما يعتريه اليأس من بلوغ هذا النموذج. وباختصار: فإن التوحُّد في مرحلة المراهقة المتأخِّرة يعبِّر عن نقطة مثالية تتعلّق بالتقييم الحقيقي للذات.
5-
تقدير احتمالات مستقبل الفرد:
كما سبق أن أشرنا: فإن التأكيد ينصبُّ على التقدير الحقيقي لمستقبل الفرد، فمن المعايير الافتراضية لنمو الهوية في المراهقة المبكرة هو "القدرة على
تفسير بدائل المستقبل" دون التأكيد على الجانب الواقعي لتلك البدائل "marcia، j.، 1983"، ورغم ذلك: فإن الاستمرار في الاستكشاف الدقيق والالتزام الجادّ في المراهقة المتأخِّرة ينتج عنه شيء يشبه ما نسميه بالخطَّة الخمسية المتوازنة، ولذا: فإنَّ أحد جوانب المقابلة الخاصَّة بتقدير الهوية يُعَدُّ ذا حساسية خاصَّة لهذه المسألة المتعلّقة بأدوار الجنس sex roles؛ حيث يتعامل الفرد مع أسئلة خاصَّة بأسبقيات المهنة في مقابل الزواج career vs. marriage proirities وقيم تربية الأطفال childbearing، والتقسيم الزوجي للعمل spousal division of labor وعلى هذا، فإنَّ التقدير الحقيقي لاحتمالات المستقبل يتَّصل مباشرة بالالتزام. فالالتزام الجاد باتجاه معين يجب أن يؤدي إلى سلوك مطابق لهذا الاتجاه، ومع تراكم الخبرة تنشأ بعض الأفكار عمَّا هو محتمل وما غير ممكن، أما نقص الالتزام فيؤدي إلى الخبرة المبتورة أو المشوَّشة غير المكتملة.
6-
مقاومة النفوذ والتسلط:
ماذا يحدث إذا وجد شيئًا أفضل؟ يتساءل القائم بالمقابلة الشخصية، فيرد المفحوص: ماذا تقصد بشيء أفضل أو أحسن؟ وماذا يعني الأحسن في رأيك؟ وتتكرر هذه الاستفسارات غالبًا في المقابلات الشخصية المتعلِّقة بالهوية، ويتضارب مدى الإجابات ما بين قبول الدخول في أيِّ مجال، مثل: الرأي في أي عقيدة، التبصُّر في أي بدائل للعلاقة مع الجنس الآخر، إلى الإصرار المتصلّب على وظيفة واحدة، أو نظام اعتقاد ثابت، أو وضع واحد للمعايير في العلاقات مع الجنس الآخر.. إلخ وما بين التذبذب المرن في حالات انتشار الهوية، وإعاقة الهوية الصلبة "المعاندة" تقع حالات تحقق الهوية، وبجانبها حالات توقف الهوية المميزة.
إن الاستجابة التي تشير إلى التشكيل المتقدِّم للهوية، لها في العادة ثلاثة جوانب هي: الاعتراف بإمكانية التغيُّر، ارتباط التغير المحتمل بقدرات الفرد، والفرص الاجتماعية المتاحة، ثم الإحجام عن التغيُّر إلّا تحت ضغط ظروف معتدلة، وكقاعدة: فإن المفحوص الذي يرتفع في مستوى الهوية يعبِّر عن بعض الشروط التي يحدث التغير بموجبها.
وباختصار: فإن الالتزام يعد عنصرًا حسّاسًا لتكوين الهوية في المراهقة المتأخرة؛ لأن المشكلة عند المراهقين في هذه المرحلة ليست في الإجابة "بنعم" في اتجاهٍ ما، ولكن في الإجابة بـ"لا" في الاتجاهات الأخرى، وثَمَّة حكمة إيطالية مؤدَّاها:"إن ذلك الذي يهجر حياته القديمة إلى شيء جديد، فإنه يعرف ما يتركه ولكنه لا يعرف ما هو مقبل عليه، "وذلك ينطبق إلى حدٍّ ما على التزام المراهق؛ حيث نجد أن كثيرًا من حالات إعاقة الهوية foreclosures وتشتتها dirrusuions يمكن أن تميِّز "تحمُّل المراهقين لتلك العلل بدلًا من السعي إلى أمور أخرى لا يعرفون عنها الكثير. "
…
ولأنَّ ذوي الهوية المعاقة يكونون ملتزمين فيبدو أنَّهم لا يمكن أن يشملهم التعليق السابق بطريقة مناسبة، ومهما يكن: فإن ذوي الهوية المعاقة لا يقومون بالتزام بعد ذلك أكثر مما يفعله ذوي الهوية المشتَّتة، ففي حالات إعاقة الهوية يجد المراهقون أنفسهم ملتزمين تقريبًا بسياق حركة متَّصلبة من الماضي إلى الحاضر.