الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما يفعل بالمحتضر وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه
524 -
وندبوا توجيهَ شخصٍ محتَضَرْ
…
لقبلة، لمن هناك قد حضر
525 -
وهكذا تلقينُه، وإن قضى
…
فهاهنا يندب أن يغمَّضا
526 -
وكونه وما عليه طاهرا
…
يندب، حيث لم يكن تعذرا
527 -
والنفسا ندْبٌ لها تجنب
…
مكانه، وحائض وجنب
528 -
وفي اقترا " يس " عند المحتضر
…
من علمائنا قدَ اَرخص نفر
529 -
ومالك لم ير ذاك أمرا
…
موافقا عمل من قد مرا
قوله: وندبوا توجيه البيت، معناه أنه يندب للحاضرين عند المحتضر، وهو من بدت عليه علامات نزول الموت، توجيهه إلى القبلة، وهذا هو المشهور، قال ابن يونس -رحمه الله تعالى -: ومن الواضحة قال مالك -رحمه الله تعالى -: ولا أحب ترك توجيه الميت إلى القبلة، إن استطيع ذلك، ابن حبيب -رحمه الله تعالى -: وروي ذلك عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه -وجماعة من السلف، وقال مالك -رحمه الله تعالى -في المجموعة: وما علمته من الأمر القديم.
قال ابن بشير -رحمه الله تعالى -: ولا معنى لكراهية ذلك، إلا خوف التحديد، خوفا أن يظن أنه من الفروض، أو من السنن.
وعلى المشهور من ندب التقبيل، فالمستحب تقبيله على شقه الأيمن، ثم على الظهر، ورجلاه للقبلة.
وقوله: وهكذا تلقينه، معناه أن تلقين المحتضر مندوب، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" لقنوا موتاكم لا إله إلا الله "
(1)
ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " من كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة "
(2)
وكيفية التلقين أن يتشهد عنده بحيث يسمع، تذكيرا له بذلك، ولا يقال له قل، وإذا قالها ترك، ما لم يتكلم بعدها بكلام أجنبي، فتعاد عليه، كما تعاد عليه إذا لم يقلها بعد إمهال، ومن عجيب ما سمع هنا ما جاء عن محمد بن مسلم بن وارة الرازي أنه قال: حضرت مع أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي عند أبي زرعة الرازي وهو في النزع، فقلت لأبي حاتم: تعال حتى نلقنه الشهادة، فقال أبو حاتم: إني أستحيي من أبي زرعة أن ألقنه الشهادة، ولكن تعال حتى نتذاكر الحديث فلعله إذا سمعه يقول، فبدأت فقلت: حدثنا أبو عاصم النبيل، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، فارتج علي الحديث حتى كأني ما سمعته ولا قرأته، فبدأ أبو حاتم، فقال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عاصم النبيل، عن عبد الحميد بن جعفر، فارتج عليه كأنه ما قرأه، فبدأ أبو زرعة، فقال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عاصم النبيل، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرة، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، وخرجت روحه مع الهاء، قبل أن يقول دخل الجنة، وذلك في سنة اثنتين وستين ومائتين.
وحضور المحتضر كتمريضه فرض كفاية، يتأكد على أوليائه، قاله ابن عرفة -رحمه الله تعالى -.
(1)
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.
(2)
رواه أبو داود والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
قال في الجامع: ويستحب أن لا يجلس عنده إذا احتضر إلا أفضل أهله وأحسنهم هديا وكلاما، وأن يكثر له من الدعاء، فإن الملئكة عليهم السلام يحضرونه، ويؤمنون على دعاء الداعي له
(1)
.
قوله: وإن قضى فهاهنا البيت، معناه أنه يندب تغميضه، كما فعل صلى الله تعالى عليه وسلم بأبي سلمة -رضي الله تعالى عنه -كما في مسلم،
(2)
وقال ابن شعبان -رحمه الله تعالى -تغميضه سنة، وإنما يغمض بعد موته، قال أبو داود: قال أبو ميسرة وكان رجلا عابدا: غمضت جعفرا المعلم -وكان رجلا عابدا -في حالة الموت، فرأيته في منامي ليلة يقول: أعظم ما كان علي تغميضك لي قبل أن أموت، أو قبل الموت نقله في المواهب.
ويستحب أن تجعل على بطنه حديدة خوف انتفاخه، وأن يشد لحيه الأسفل بعصابة تربط عند رأسه، خوف دخول الهوام فاه قاله ابن عرفة -رحمه الله تعالى -.
قوله: وكونه وما عليه طاهرا البيت، معناه أنه يستحب أن يكون طاهر البدن، طاهر الثياب، طاهر الفراش، إذا لم يشق ذلك قال سيدي زروق -رحمه الله تعالى -: يعني تكرمة للملئكة، واستحب ابن حبيب -رحمه الله تعالى -الطيب والبخور عند ذلك، وسمع ابن القاسم وأشهب -رحمهما الله تعالى -ليس من العمل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1)
روى مسلم عن أم سلمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أن النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ قال: " إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون " ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.
(2)
ورواه أيضا أبو دود وابن ماجة والإمام أحمد.
قوله: والنفسا البيت، معناه أنه ينبغي تجنب الحائض والنفساء والجنب له، حيث وجد غيرهم، وذلك لما في الحديث من أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه جنب، ومثل ذلك كل ما تكرهه الملائكة، وقد روى الحاكم أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، ولا كلب، ولا جنب،
(1)
واستحب أهل العلم إحضار طيب عنده، ولعل ذلك لهذا المعنى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله: وفي اقترا البيتين أشار به إلى ما ذكره ابن حبيب - رحمه الله تعالى -من استحباب قراءة سورة يس عند المحتضر، لحديث أبي داود، وفي إسناده ضعف، وقال مالك -رحمه الله تعالى -في المجموعة والعتبية ليس القراءة عنده والإجمار من عمل الناس، قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: يعني وما لم يصحبه العمل مما ورد الترغيب فيه، فليس بمندوب عند مالك -رحمه الله تعالى -لأنهم كانوا أحرص على الخير، وأعلم بالسنة، وما تركوه إلا لأمر عندهم فيه.
530 -
لا بأس بالبكا بدمع العين
…
فقط، لدى وقت نزول الحَيْن
531 -
والاحسن التعزِّي والتصبر
…
أما النياحة فأمر منكر
(1)
وروا أبو داود والنسائي وابن حبان، ورواه الشيخان بدون ذكر الجنب، وذكر بعض أهل العلم أن المراد بالجنب، المتهاون بالغسل.
معناه أن البكاء جائز إذا لم يكن بصوت، والأحسن التعزي والتصبر، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم:" إن الله سبحانه وتعالى لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم "
(1)
قال في التاج: ابن حبيب: البكاء قبل الموت وبعده مباح، بلا رفع صوت، ولا كلام مكروه، ولا اجتماع نساء، انتهر عمر - رضي الله تعالى عنه - نساء يبكين على ميت، فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" دعهن يا ابن الخطاب، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد حديث "
(2)
ويكره اجتماعهن للبكاء ولو سرا، ونهى عمر - رضي الله تعالى عنه - في موت أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - أن يبكين، وفرق جمعهن، ونهى صلى الله تعالى عليه وسلم عن لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعوى الجاهلية،
(3)
وهي الدعاء بالويل والثبور، وقال:" أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق"
(4)
والسلق رفع الصوت بالبكاء.
532 -
وليس في تغسيل ميْتٍ حدُّ
…
عنه لدى تغسيله لا تعدو
533 -
بل نقِّه، وغسِّلنْه وترا
…
ولتجعلنْ مع المياه سدرا
534 -
ولتجعلنْ بغسله الأخير
…
معْ مائه بعضا من الكافور
535 -
وإن تجرده لغسل فاسترا
…
عورته، ولا تقلمْ ظُفُرا
536 -
وهكذا لا تحلقنَّ شعرَه
…
وبطنَه مع الترفق اعصرَه
537 -
وإن لدى تغسيله يُوَضَّا
…
فحسن، وليس أمرا فرضا
538 -
وغسله لجنبه أولى، وعن
…
طائفة إجلاسه هو الحسن
539 -
وغسْل زوج أهلَه وغسْلُ
…
الاهل له دون اضطرار حلُّ
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه النسائي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث ضعيف.
(3)
روى الشيخان أن النبي ـ صلى الله تعالى وسلم ـ قال: " ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية "
(4)
متفق عليه، واللفظ لمسلم.
قوله: وليس في تغسيل ميت، إلى قوله: الكافور، معناه أنه ليس في تغسيل الميت حد يتعين الوقوف عنده، قال ابن الحاجب -رحمه الله تعالى -: ويغسل كالجنابة، قال ابن عبد السلام: يعني الإجزاء كالإجزاء، والكمال كالكمال، إلا ما يختص به غسل الميت كالتكرار، نقله في المواهب، قال: وصرح في المدخل بأن فرائض غسل الجنابة وسننه وفضائله تأتي في هذا الباب.
قوله: وغسلنه وترا، معناه أنه يندب إيتار غسل الميت، قال ابن بشير - رحمه الله تعالى -: ولا خلاف أن الغسلة الواحدة تجزئ، لكن يستحب التكرار، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في ابنته - رضي الله تعالى عنها -: " اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن
(1)
" وكره مجاوزة السبع، والاقتصار على الواحدة، والاوتار مستحب، قال ابن حبيب - رحمه الله تعالى -: يغسل أولا بالماء القراح، ثم يخلط في الثاني السدر إن وجد، فإن لم يوجد فالغاسول، وفي الثالثة الكافور، وهذا على رواية الابتداء بالماء القراح.
وقال أبو عمر: الأولى بالماء والسدر، أو الخطمى، أو الأشنان، أو ما أشبه ذلك بعد أن يغسل ما تحته من النجاسات، ثم الثانية بالماء القراح، إن شاء باردا، وإن شاء سخنا، ثم الثالثة بمثل ذلك، ويجعل فيها كافورا، نقله في التاج.
وقال في التبصرة: ويبتدئ الغاسل بالميامن، ومواضع الوضوء، لقول النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم -في ابنته -صلى الله تعالى عليه وعليها وعلى آله أجمعين -: " ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها،
(2)
واغسلنها ثلاثا أو خمسا بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافورا،
(3)
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
متفق عليه.
وفي حديث آخر: أو سبعا "
(1)
وقد تضمن هذا الحديث البداية بالميامن، وأن يوضأ، وأن يكون وترا من الثلاث إلى ما بعد، وجواز غسله بالماء المضاف، ثم يفيض الماء على سائر جسده، ويخص بالإنقاء الفم والأنف والأرفاغ، كالإبطين وغيرهما، ولا بأس أن يفضي باليد إلى الفرج إذا كانا زوجين، أو ملك يمين، وإن كانا أجنبيين لف على يده ثوبا كثيفا لا يجد معه حس ما تمر عليه اليد، واختلف إذا كان في الموضع أذى لا يزيله إلا مباشرة اليد، فأجاز مالك - رحمه الله تعالى - في المدونة أن يباشر ذلك، ومنعه ابن حبيب - رحمه الله تعالى - وهو أحسن، ولا يكون الميت في إزالة تلك النجاسة أعلى رتبة من الحي، إذا كان لا يستطيع إزالتها لعلة، أو لغيرها، إلا بمباشرة غيره لذلك الموضع، فإنه لا يجوز أن يوكل من يمس فرجه، لإزالة ذلك، ويجوز أن يصلي على حاله، فهو في الميت أخف، ولا يكشف ويباشر ذلك منه، ولا يقتصر الغاسل على دون الثلاث، لأن الاقتصار على الواحدة لا يأتي على ما يراد من الإنقاء، والاقتصار على اثنتين خلاف ما تضمنه الحديث من أن يكون وترا، وإن أنقى في أربع زاد خامسة، وإن أنقى في ست زاد سابعة.
وما ذكره من جواز الماء المضاف هو ظاهر قوله في المدونة: وأحسن ما جاء في الغسل ثلاثا، أو خمسا، بماء وسدر، وفي الآخرة كافورا إن تيسر، قال في المواهب: تأوله بعضهم على قول ابن حبيب -رحمه الله تعالى -وأنه يريد في غير الأولى، أو يحمل على أن مراده أن يدلك الميت بالسدر، ثم يصب عليه الماء القراح، قال ابن ناجي -رحمه الله تعالى -: وهو اختيار أشياخي، والمدونة قابلة له، وعلى هذين الاحتمالين يكون ما في المدونة موافقا لابن حبيب.
(1)
متفق عليه.
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله تعالى -في شرحه لحديث أم عطية في إحكام الأحكام: قوله: بماء وسدر، أخذ منه أن الماء المتغير تجوز به الطهارة، وهذا يتوقف على أن يكون اللفظ ظاهرا في أن السدر ممزوج بالماء، وليس يبعد أن يحمل على أن يكون الغسل بالماء من غير مزج له بالسدر، بل يكون الماء والسدر مجموعين في الغسلة الواحدة من غير أن يمزجا
…
.
قوله: وإن تجرده لغسل فاسترا عورته، معناه أن غاسل الميت يجرده من الثياب ما عدا عورته، وذلك على أحوال، فالرجل الذي يغسل رجلا، يستر منه ما بين السرة والركبة، في قول ابن حبيب - رحمه الله تعالى - وقال مالك - رحمه الله تعالى - في المدونة يجرد ما سوى السوأتين، كذا فهم اللخمي، وقال عياض ليس في الكتاب ما يدل على ذلك، بل لو قيل فيه ما يدل على قول ابن حبيب لكان له وجه، لأنه قال بإثره: ويفضي بيده إلى فرجه إن احتاج، ولو كانت العورة هي نفس الفرج، لما ذكر الفرج بلفظ آخر، نقله ابن ناجي - رحمه الله تعالى ـ.
وأما المرأة مع المرأة فاستظهر اللخمي - رحمه الله تعالى - أنها كالرجل مع الرجل، وحكى اختلافا في غسل الرجل زوجته، والمرأة زوجها، قال: فقال مالك - رحمه الله تعالى - في المدونة: يستر كل واحد منهما عورة صاحبه، وأجاز ابن حبيب - رحمه الله تعالى - أن يغسل كل واحد منهما صاحبه بادي العورة، والأمر في ذلك واسع، وأما غسل الصبي فإن كان صغيرا، أو في الإثغار، فلا بأس أن يغسل مجردا، وأن يغسله النساء مع وجود الرجال، فإن ناهز الحلم جرى على حكم الرجل، فيغسله الرجال مستور السوأة، ولا يغسله النساء، وأما الصبية فإن لم تبلغ أن تشتهى، جاز أن يغسلها النساء مجردة، وستر العورة أفضل، ولا بأس أن يغسلها الرجال عند عدم النساء، وتستر سوأتها، وإن بلغت حد أن تشتهى جرت على أحكام النساء.
قوله: ولا تقلم ظفرا، وهكذا لا تحلقنّ شعره، معناه أنه ينهى عن قلم أظافره، وحلق شعر عانته، قال مالك -رحمه الله تعالى -: وأرى ذلك بدعة ممن يفعله، قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -: سحنون: ولا يفعله قبل موته -يعني ما ذكر من الحلق والتقليم -لذلك ابن حبيب وأشهب، وينقى وسخ أظافره، الشيخ عن ابن حبيب: وما سقط له من شعر وغيره، جعل في أكفانه، ونقله الباجي عن ابن حبيب.
قال ابن ناجي -رحمه الله تعالى -: وإن كان المغسول امرأة فقال ابن القاسم: يلف شعرها، وعنه يفعلون به ما شاءوا، وأما الضفر فلا، وقال ابن حبيب -رحمه الله تعالى -: لا بأس أن يضفر، واستحسنه بعض المتأخرين لحديث أم عطية -رضي الله تعالى عنها -: فنقضنا شعرها وضفرناه ثلاثة قرون، وألقيناه خلفها
(1)
.
وقال في المواهب: قال ابن رشد -رحمه الله تعالى -في قول ابن القاسم -رحمه الله تعالى -: وأما الضفر فلا أعرفه، يريد أنه لا يعرف من الأمر الواجب، وهو إن شاء الله تعالى حسن من الفعل، ثم ذكر حديث أم عطية - رضي الله تعالى عنها ـ.
قوله: وبطنه مع الترفق اعصره، معناه أنه يستحب للغاسل عصر بطن الميت برفق، ليخرج ما في بطنه من النجاسة، فيؤمن من خروج شيء بعد الفراغ من غسله، قال في المواهب: قال في الطراز: إن كان ثم نجاسة ازالها، ويكثر صب الماء لتزول الرائحة الكريهة، ولهذا استحب أن يكون بقربه مجمرة فيها بخور، ليذهب بالرائحة الكريهة.
(1)
أما ضفره ثلاثة قرون فمتفق عليه، وأما إلقاؤه خلفها فلم أقف عليه لمسلم، وإنما وقت عليه للبخاري.
قوله: وإن لدى تغسيله يوضا البيت، معناه أن توضئة الميت في أول غسله مندوبة، لحديث أم عطية -رضي الله تعالى عنها -وذهب من يرى أن الغسل تنظيف فقط إلى عدم ندبه، وعلى المشهور من ندبه قال ابن عرفة: وفي كونه في الغسلة الأولى أو الثانية نقلا المازري، وفي تكريره بتكريره غسله نقلاه عن أشهب، وإنكار سحنون، الباجي: غسلات الوضوء إن كررت مرة مرة، وإلا فثلاث، اللخمي وغيره: يبدأ بميامنه، ورواه المازري، الشيخ عن أشهب: ويدخل يده عليها خرقة نقية فاه، لتنظيف أسنانه، وينقى أنفه.
قوله: وغسله لجنبه البيت، معناه أن الأولى تغسيله لجنبه الأيمن، ثم يقلب لجنبه الأيسر، لأنه أرفق، وقيل يجلس، لأنه أمكن، وهو اختيار القاضي عبد الوهاب -رحمه الله تعالى -والأمر في ذلك واسع.
قوله: وغسل زوج البيت، معناه أن غسل كل من الزوجين للآخر جائز، بلا قيد الضرورة، وعبارة الشيخ: لا بأس، وقال ابن ناجي: لا بأس هنا لما هو خير من غيره، لقول المدونة: ويغسل أحد الزوجين صاحبه من غير ضرورة، فظاهره الأمر بذلك.
واختلف في المطلقة طلاقا رجعيا، هل يجوز لها تغسيله أو لا، الأول للمبسوط، والثاني للمدونة، قال سيدي زروق -رحمه الله تعالى -: ابن القابسي: الأصل الذي لا ينخرم هو إذا كان له النظر إلى محاسنها والاستماع بها في حياتها، تغاسلا بعد الموت، وإن كان ممنوعا من ذلك، فالغسل ممنوع.
والأصل في هذا الباب تغسيل علي فاطمة -رضي الله تعالى عنهما -وتغسيل أسماء بنت عميس أبا بكر -رضي الله تعالى عنهما -بمحضر الصحابة -رضي الله تعالى عنهم أجمعين ـ.
وجاء عن عائشة -رضي الله تعالى عنها -أنها قالت في شأن غسل رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه
(1)
بل جاء عنه ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ أنه دخل على عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ وهو آت من البقيع في أول مرضه فوجدها تقول: وارأساه، فقال:" بل أنا يا عائشة وارأساه " ثم قال: " ما ضرك لو مِتِّ قبلي، فقمت عليك، فغسلتك، وكفنتك، وصليت عليك، ودفنتك "
(2)
540 -
وحيث مرأة تموت بسفر
…
دون نسا ودون محرم ذكر
541 -
يمم الاجنبي وجهها وكف
…
وما وراء الكوع حتما عنه كف
542 -
وفي وجود محرم معْها جعل
…
ثوبا على الجسد كلا وغسل
543 -
ورجل مع نسا لا محرم
…
فيها له لمرفق ييمم
544 -
وغسَّلته محرم، ولتسترا
…
من ركبة لسرة لا أكثرا
قوله: وحيث مرأة البيتين، معناه أن المرأة إذا ماتت وليس معها امرأة، ولا رجل محرم، ومعها رجال أجانب، فإنهم ييممونها لكوعيها، وقد قال مالك -رحمه الله تعالى - في الموطإ إنه سمع ذلك من أهل العلم، واختلف إذا حضرتها كتابية، فقال مالك -رحمه الله تعالى -تغسلها، وقال أشهب -رحمه الله تعالى -تيمم، وقال سحنون تغسلها وتيمم.
(1)
رواه أبو داود وابن ماجة، وهو حديث حسن.
(2)
رواه ابن ماجة والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث حسن.
قوله: وفي وجود محرم معها البيت، معناه أنه إذا لم يكن معها نساء، وكان معها رجل محرم غسلها، قال في المدونة: يغسلها من فوق ثوب، غير مفض بيده لجسدها، وقال أشهب - رحمه الله تعالى - ييممها، وروى يصب عليها الماء لا يباشر جسدها، ولا من فوق الثوب، وقال ابن حبيب - رحمه الله تعالى - يغسلها وعليها ثوب يصب الماء بينه وبينها، خوف لصوقه بجسدها، وظاهره يباشر جسدها بيده، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: ومعناه عندي ويده ملفوفة بخرقة فيما بين سرتها وركبتها، إلا أن يضطر لذلك، نقله ابن عرفة - رحمه الله تعالى - ونقل قولا بلف اليد في كل غسلها، وقولا بالفرق بين محرم الصهر وغيره، فالأول ييممها ولا يغسلها.
والظاهر أن كغسل المرأة، مسها في الحمل، والوضع في القبر، فلا يتولاه الأجانب مع وجود النساء.
قوله: ورجل مع نسا البيت، معناه أنه إذا مات رجل بسفر مثلا، ولم يكن معه رجل، ولا امرأة محرم يممته النساء إلى مرفقيه، وإن وجد ذمي فعلى الخلاف في الذمية الذي تقدم ذكره.
قوله: وغسلته محرم البيت، معناه أنه إذا كانت معه امرأة محرم، غسلته وسترت عورته فقط على ظاهر المدونة عند التونسي، قال سيدي زروق -رحمه الله تعالى -: الباجي: وقال ابن القاسم وسحنون من فوق ثوب، وتأولها اللخمي عليه، سحنون: تيممه أحب إلي، وظاهر كلام الشيخ كانت من محارم النسب والصهر، وهو المنصوص.
545 -
والوتر في أكفان ميْتٍ من ثلا
…
ثة إلى سبعة أيضا فضلا
546 -
وذلك العدد يحسب القميـ
…
ـصُ فيه معْ الازار والعمائم
547 -
وسيدي شفيعنا كُفِّن في
…
ثلاثةٍ بيضٍ من اللفائف
548 -
صلى وسلم عليه الله
…
والال والصحب ومن تلاه
549 -
لا بأس أن يقمَّص الميْت، كما
…
بأس عندهم بأن يعمما
550 -
وجعْلك الحنوط من بين الكفن
…
والكفن الذي يلي أمر حسن
551 -
وهكذا جعلكه بالجسد
…
وجعله بالاعظم المساجد
قوله: والوتر في أكفان ميت البيت، معناه أن الوتر في أكفان الميت مندوب إلى سبعة، وأما أصله فواجب، قال ابن بشير -رحمه الله تعالى -: لا خلاف في وجوب ستر الميت، ولا يختص الوجوب بعورته، كما يختص بالحي، وهذا معلوم من دين الأمة ضرورة، فقد نقل قولا وفعلا.
وقال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -: أبو عمر وابن رشد -رحمهما الله تعالى -: الفرض من الكفن ساتر العورة، والزائد لستر غيرها سنة.
وقال ابن بشير أيضا: وأما عدده فله أقل وأكثر، فأقله ثوب ساتر لسائر الجسد، وأكثره سبعة أثواب، والزيادة سرف، لكن لا يظهر من المذهب أنه ممنوع، بل مكروه، ولا يقتصر على الأقل إلا مع الفقر، أو مع وصية الميت بالاقتصار.
إلى أن قال: في شرح ابن مزين: ويكفن مع الوجود في ثلاثة أثواب، وإن نازع الغرماء، وقاس ذلك على كسوته التي لا تباع، وينبغي أن يختلف في ذلك حال الناس، كما يختلف حالهم في حال الحياة، وإذا لم ينقص من الثلاثة للغرماء، فأحرى أن لا ينقص لحق الورثة، وكذلك قال في الرواية إن طلب الغرماء تكفينه في خشن لم يمكنوا من ذلك، وهذا ينبغي أن يختلف في حق الموتى كما أشرنا إليه في العدد.
وقال في التبصرة: يستحب أن يكون وترا، ثلاثا إلى ما فوق ذلك، سبع أو خمس، ولا يكفن في واحد، إلا أن لا يوجد غيره، والاثنان -وإن كانا شفعا -أولى من واحد، وإن كان وترا، لأن الواحد يصف، والاثنان أستر، وثلاثة أولى من أربعة، وخمسة أولى من ستة، ولا أرى أن يجاوز السبعة، لأنه في معنى السرف.
قوله: وذلك العدد يحسب البيت، معناه أن عدد أكفان الميت المذكور تحسب فيه العمامة، أو الخمار، والقميص، والمئزر، قال في الجواهر: إذا كفن في خمسة، فعمامة وقميص ومئزر ولفافتان سابغتان، وإن كفن في ثلاثة، فثلاث لفائف، قاله ابن القاسم، قال بعض المتأخرين: يجيء على قول مالك -رحمه الله تعالى -قميص وعمامة ولفافة، وإن كفنت في خمسة، فإزار وخمار ودرع ولفافتان، واستحب أن يشد على المئزر بعصائب من حقويها إلى ركبتيها، وإن كفنت في ثلاثة، فكالرجل.
قوله: وسيدي شفيعنا البيت، أشار به إلى أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، كما جاء في الصحيح،
(1)
وروي غير ذلك، وما ذكر هو الصحيح، والسحولية: منسوبة إلى سحولى: قرية باليمن، وهذا يقتضي استحباب البياض في الكفن، وفي الحديث " البسوا البُياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم "
(2)
قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: ومنع اللخمي الأزرق، والأخضر، والأسود، وقيل يكره في الجميع، قاله ابن عات، وفي المعصفر ثلاثة أقوال، الكراهة والجواز، وكلاهما لمالك، والجواز للنساء، قاله ابن حبيب.
وأما المورس والمزعفر فجائزان، لأنهما طيب، قال في الجامع: قال ابن حبيب -رحمه الله تعالى -: والقصد في الكفن أحب إلينا من المغالاة فيه، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما -أشهب: والكفن الخلق والجديد سواء.
وقال في الطراز: يجوز أن يخفف في أكفان الصغار، قال مالك في المجموعة: إذا لم تجد المرأة إلا ثوبين، لفت فيهما، وكذلك من لم يبلغ من صبي أو صبية، قال أشهب وسحنون: هذا في من راهق، فأما الصغير فالخرقة تكفيه.
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه الترمذي والنسائي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
قوله: لا بأس أن يقمص الميت البيت، يعني به أنه يستحب تقميص الميت، كما في الموطإ والواضحة، وتعميمه كما في المدونة، وقال ابن القاسم -رحمه الله تعالى -في العتبية: أحب الكفن إلي ما كفن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم -فيه، ثلاثة أثواب بيض، لا يكون فيها قميص، ولا عمامة، ولا مئزر.
قوله: وجعلك الحنوط من بين الكفن البيتين، معناه أنه يستحب تحنيط الميت، وقيل يسن، فتحنط أكفانه، وموضع السجود منه، ومراقه، وعامة جسده، إن كان في الطيب سعة، قال في التاج: المازري: قال مالك - رحمه الله تعالى -: ولا بأس أن يحنط بالمسك والعنبر، وما تطيب به الحي، أشهب - رحمه الله تعالى -: يبسط أوسع أكفانه، فتذري على باطنه الحنوط، ثم يبسط ما يليه، ويذرى أيضا على باطنه الحنوط، وهكذا إلى جسده، فيذرى عليه أيضا، ابن بشير - رحمه الله تعالى -: ومحل الحنوط مواضع السجود، وهي المقدمة، ومغابن البدن ومراقه، كالآباط والأفخاذ، مما يرق جلده، ويكون محلا للأوساخ، والحواس، كالعينين والأنف والفم والأذنين، وسائر الجسد، وبين الكفن وبينه، وبين الأكفان، ولا يجعل على ظاهر الكفن، لأنه زينة، ولا معنى لها هاهنا، أشهب: وإن جعل الحنوط في لحيته ورأسه والكافور فواسع، ابن حبيب - رحمه الله تعالى -: ويجعل على القطن الذي يجعل بين فخذيه، لئلا يسيل منه شيء، ويشد بخرقة إلى حجزة مئزره، سحنون - رحمه الله تعالى -: يسد دبره بقطنة، ويبالغ فيه برفق، ابن حبيب: ويسد أذنيه ومنخريه بقطنة فيها الكافور، ثم يعطف الثوب الذي على بدنه، يضم الأيسر إلى الأيمن، ثم الأيمن عليه، كما يلتحف في حياته، يفعل هكذا في كل ثوب، ثم يشد الثوب عند رأسه، وعند رجليه، ويحل عند لحده، ابن شعبان - رحمه الله تعالى -: يخاط عليه كفنه، أبو عمر - رحمه الله تعالى -: أجمعوا أن لا تخاط اللفائف.
552 -
ولا تغسِّلنْ شهيد المعترَكْ
…
وادفِنْه في الثوب الذي فيه هلك
553 -
ولا تكن عليه ذا صلاة
…
فهْو من الأحياء لا الأموات
554 -
ومن يكن لنفسه عمدا قتل
…
فخلفَه كسائر الفساق صل
555 -
وهكذا من الإمام في قَوَد
…
قتله أيضا، كمقتول بحدْ
556 -
لكن هنالك الامام ينهى
…
عنَ اَن يصلي عليه كرها
557 -
أما اتباع ميِّتٍ بمِجمَر
…
فليس مشروعا، ففعلَه ذر
558 -
والمشي قُدامَ الجنازة استُحب
…
وليتأخرنْ مشيع ركب
559 -
وإن تضع ميْتا بقبر فعلى
…
شقه الايمن خصوصا اجعلا
560 -
وانصب عليه لبِنا، وادع هنا
…
للميت ضارعا بأن يؤمَّنا
قوله: ولا تغسلن شهيد المعترك البيتين، يعني به أن الشهيد في المعركة لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يكفن، كما حصل في شهداء أحد، كما في الصحيح،
(1)
واختلف إذا لم يمت فورا، فقال مالك - رحمه الله تعالى - إن حيي حياة بينة، غسل وكفن وصلي عليه، وإن كان به رمق، وهو في غمرات الموت، فلا يغسل ولا يصلى عليه، وقال أشهب يغسل في كل ذلك ويصلى عليه، وقال سحنون - رحمه الله تعالى - إذا بقي في المعترك، وكانت له حياة بينة، حتى لا يقتل قاتله إلا بقسامة، غسل وصلي عليه، وقال ابن القصار - رحمه الله تعالى -: إذا عاش يوما أو أكثر، فأكل أو شرب، غسل وصلي عليه، قال اللخمي - رحمه الله تعالى -: فأما قول أشهب فليس بالبين، لأن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لم يصل على قتلى أحد، وهم سبعون، والغالب أن موتهم مختلف، فلم يفرق، وقد قيل إن ترك الصلاة عليهم، لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فعلى هذا يكون قول سحنون - رحمه الله تعالى - حسنا، لأنه مات بقتل العدو، فدخل بذلك في عموم الآية، بخلاف من لم تنفذ مقاتله، لإمكان أن يكون مات من غير ذلك، ولأنه لو كان ذلك القتل من مسلم، لم يقتل قاتله إلا بقسامة.
(1)
روى البخاري من حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ أمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلهم، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة.
وقال في الجامع: ابن وهب: وقد صلى الرسول -صلى الله تعالى عليه وسلم -على شماس بن عثمان يوم أحد، بعد أن عاش يوما وليلة.
ولا فرق بين أن يكون استشهاد الشهيد في بلاد الإسلام، كما في شهداء أحد -رضي الله تعالى عنهم أجمعين -أو بدار الحرب كما هو ظاهر المدونة، وعن ابن القاسم -رحمه الله تعالى -اختصاص ذلك بالثاني، قال ابن ناجي: وظاهر كلامه -يعني الشيخ أبا محمد -ولو كان الشهيد قتل نائما، وهو قول سحنون وأصبغ، وقال أشهب: هو كغيره، لأن هذا يشبه ما فعل بعمر -رضي الله تعالى عنه -استغفله العلج وطعنه، وقد غسل وصلي عليه.
وأما المبطون، والغرق، وصاحب ذات الجنب، والمطعون، والحرق، وذو الهدم، وذات الحمل، فهم كغيرهم، يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم، وإن كانوا شهداء
(1)
.
(1)
روى الإمام مالك في الموطإ أن رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ قال: " الشهداء سوى القتل في سبيل الله، المطعون شهيد، والغرِق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرِق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمع شهيد " ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
واختلف في المراد بالمرأة تموت بجمع، فقيل التي تموت بالولادة، وقيل التي تموت بكرا.
قوله: وادفنه في الثوب الذي فيه هلك، معناه أنه يدفن في ثوبه الذي استشهد فيه، إن ستره، وإلا زيد، والأصل في ذلك خبر مصعب بن عمير - رضي الله تعالى عنه - يوم أحد،
(1)
قال ابن بشير - رحمه الله تعالى -: واختلف هل يزال عنه الدرع، والخفاف، والقلنسوة، والمنطقة، في المذهب قولان، أحدهما إزالتها، والثاني تركها، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم " زملوهم بثيابهم
(2)
" فلهذا لم يختلف في اللباس المعتاد، والدرع، وإن سمي ثوبا لغة فلا يسمى عرفا، وبين الأصوليين خلاف في تخصيص الألفاظ، وتنزيلها على العرف، ومن يقول: لا ينتزع عنه شيء، يفهم من اللفظ دفنهم على هيئتهم من غير نقص لزيهم، حتى يجيء يوم الحشر على الحالة التي استشهد عليها، وهذا مفهوم من الحديث قطعا، ومن عول على اللفظ قال: لا يدفن إلا في الثياب خاصة.
قوله: ومن يكن لنفسه عمدا البيت، معناه أن من قتل نفسه عمدا -عياذا بالله تعالى -يغسل ويصلى عليه، كسائر أصحاب الكبائر، قال ابن يونس -رحمه الله تعالى -: قال مالك -رحمه الله تعالى -: ويصلى على قاتل نفسه، ويصنع به ما يصنع بموتى المسلمين، ويورث، وإثمه على نفسه.
(1)
روى البخاري من حديث خباب ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن مصعب بن عمير ـ رضي الله تعالى عنه ـ ترك نمرة، قال: فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئا من إذخِر، ورواه النسائي.
(2)
رواه النسائي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
وقال القاضي عبد الوهاب في الإشراف: لأنه ميت من أهل الإسلام، مات في غير معترك، كمن مات حتف أنفه، ولأن أحدا لا تتأتى له محض الطاعات، ولا يخلص من المعاصي، فلو منعنا الصلاة على راكب كبيرة، أو مقترف معصية، لأدى ذلك إلى أن لا يصلى على أكثر الناس من المسلمين، ولأن الصلاة على الميت إنما هي دعاء، وطلب الرحمة والمغفرة، وأحوج أهل الملة إلى الدعاء والاستغفار هذا الميت.
ويمكن أن يحتج لهذا بما اقتضاه ظاهر الآية من تعليل النهي عن الصلاة على المنافقين بالكفر، في قوله سبحانه وتعالى:(ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)
وهكذا الكلام في المقتول حدا أو قصاصا، ولكن لا ينبغي للإمام وأهل الفضل أن يصلوا عليه، وكذلك أهل المعاصي المتجاهرون بها، أو المشتهرون بها، غيرة لله سبحانه وتعالى، وردعا لأمثالهم، ما لم تظهر توبتهم وإنابتهم، والأصل في ذلك خبر الجهنية المرجومة، فظاهر الخبر تقرير عمر - رضي الله تعالى عنه - على ما اقتضاه كلامه من عدم صلاته صلى الله تعالى عليه وسلم على أهل الكبائر، حيث أجابه صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله:" لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم " الحديث،
(1)
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال ابن عبد الحكم يصلي عليهم الإمام، واحتج بصلاته صلى الله تعالى عليه وسلم على ماعز والغامدية،
(2)
وإلى هذا الإشارة بقوله: وهكذا من الإمام البيتين.
قوله: أما اتباع ميت البيت، معناه أنه يكره اتباع الميت بمجمر، وقد روى مالك -رحمه الله تعالى - في الموطإ النهي عن ذلك عن أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهم أجمعين ـ.
(1)
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والدارمي والإمام أحمد.
(2)
أما صلاته على الغامدية فرواها مسلم وأبو داود، وأما صلاته على ماعز فرواها البخاري.
قوله: والمشي قدام الجنازة البيت، معناه أن مشي مشيع الجنازة أمامها أفضل كما قال مالك - رحمه الله تعالى - في المجموعة، وقال أشهب في مدونته: هو السنة، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبا بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - كانوا يمشون أمام الجنازة، وهذا في حق الماشي، وأما الراكب فالمشهور أن تأخره أولى، واستحب أشهب في مدونته تقدمه، ونقل في التوضيح قولا باستحباب التأخر مطلقا، وقال أبو مصعب - رحمه الله تعالى - باستواء التقدم والتأخر، قال: وكل ذلك فعله الصالحون، وهو ظاهر المدونة، وأما النساء المشيعات، فإنهن يتأخرن مطلقا.
قوله: وإن تضع ميتا بقبر البيت، معناه أن الميت يستحب أن يوضع في قبره على شقه الأيمن، موجها جهة القبلة، وتمد يمناه على جسده، ويعدل رأسه بالتراب، ورجلاه برفق، وسمع موسى: إن ذكروا بعد أن ألقوا عليه يسير التراب، أن وضعه على شقه الأيسر لغير القبلة، حول لها، وبعد فراغ دفنه لم ينبش، ابن رشد: لأن وضعه للقبلة مطلوب غير واجب، الشيخ: وقاله أشهب وسحنون، وقال أشهب: إذا وضع في لحده، قال: بسم الله وعلى ملة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - اللهم تقبله بأحسن قبول، وإن دعى بغيره فحسن، والترك واسع، وإن أدخل من القبلة أو سل من جهة رأسه من الشق الأيسر منك، وأنت في القبر فواسع، ابن حبيب - رحمه الله تعالى -: من جهة القبلة أحب إلي، نقله ابن عرفة - رحمه الله تعالى -.
قوله: وانصب عليه لبنا، أشار به إلى أنه يندب سد القبر على الميت قبل أن يهال عليه التراب بلبن ونحوه، قال في التاج: ابن رشد: الأفضل في ما يجعل على الميت في قبره، اللبن، ثم الألواح، ثم القراميد، ثم الآجر، ثم الحجارة، ثم القصب، ثم سَن التراب، وسَن التراب خير من التابوت، قال ذلك ابن حبيب.
وقال في المواهب: قال في النوادر: ويستحب سد الخلل الذي بين اللبن.
561 -
ويكره البنا على القبر معا
…
تجصيصه، وإن يباه منعا
562 -
ولا يغسِّلْ مسلم من قد كفر
…
وهكذا إدخاله بالقبر ذر
563 -
وإن تخف ضيعتَه فواري
…
فتركُه يضيع ذو انحظار
564 -
واللحد أفضل، وهو الحفر في
…
ألحائط القبلي تحت الجُرُف
565 -
فيوضع الميت هناك، حيث كانْ
…
لشدة لا يتهيل المكان
566 -
وهْو الذي قد كان ذا اختيار
…
من عالم الأسرار للمختار
567 -
صلى وسلم عليه الله
…
والال والصحب ومن تلاه
قوله: ويكره البنا البيت، معناه أن البناء على القبور مكروه، وكذلك تجصيصها، والتجصيص قال المازري - رحمه الله تعالى -: أن تبيض بالجير، أو التراب الأبيض، قال في التبصرة: كره مالك - رحمه الله تعالى - تجصيص القبور، لأن ذلك من المباهاة وزينة الحياة الدنيا، وتلك منازل الآخرة، وليس بموضع المباهاة، وإنما يزين الميت عمله، واختلف في تسنيمها والحجارة التي تبنى عليها، فكره ذلك مالك في المدونة، وقال ابن القاسم في العتبية: لا بأس بالحجر والعود، يعرف به الرجل قبر وليه، ما لم يكتب فيه، وقال أشهب في مدونته: تسنيم القبور أحب إلي، فإن رفع فلا بأس، يريد إن زيد على التسنيم، وقال محمد بن مسلمة: لا بأس بذلك، قال: وقبر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - مسنمة، وهو أحسن، وفي البخاري ومسلم أن قبر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - مسنم، وقال خارجة بن زيد في البخاري: رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان - رضي الله تعالى عنه - وإن أشدنا وثبة، الذي يثِب قبر عثمان بن مظعون - رضي الله تعالى عنه - حتى يجاوزه، وهذا الذي أراد أشهب بقوله: إن رفع، ويمنع من بناء البيوت على الموتى لأن ذلك مباهاة، ولا يؤمن ما يكون فيها من فساد، وقيل لمحمد بن عبد الحكم - رحمه الله تعالى - في الرجل يوصي أن يبنى على قبره، فقال: لا، ولا كرامة، يريد بناء البيوت، ولا بأس بالحائط اليسير الارتفاع، ليكون حاجزا بين القبور، لئلا يختلط على الإنسان موتاه مع غيرهم، ليترحم عليهم، ويجمع إليهم غيرهم.
قوله: ولا يغسل مسلم من قد كفر البيتين معناه أن المسلم لا يغسل وليه الكافر، ولا يصلي عليه، ولا يدخله قبره، إلا أن يخاف ضيعته فليواره، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: سمع ابن القاسم معها: لا يغسل المسلم أباه الكافر ولا يتبعه، إلا أن يخاف ضياعه فيواريه، الشيخ عن أشهب: ولا يتعمد به قبلة أحد، وروى ابن حبيب - رحمه الله تعالى -: لا بأس أن يقوم بأمر أمه الكافرة، ويكفنها، ثم يسلمها لأهل دينها، ولا يصحبها، إلا أن يخشى ضياعها، فيتقدم إلى قبرها، ولا يدخلها فيه إلا أن لا يجد كافيا، وقاله ابن حبيب في الأب والأخ وشبهه، وزاد: إن لم يخش ضياعه، وأحب حضور دفنه، فليتقدمه معتزلا عنه وعن حامله، الشيخ: روى علي: إن مات ذمي ليس معه أحد من أهل دينه، وُوري لذمته، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: مفهومه لو كان حربيا فلا، وفيها: إن خيف ضياع الكفار ووروا.
قوله: واللحد أفضل الأبيات، معناه أن اللحد أفضل من الشق، والشق جائز، قال ابن بشير - رحمه الله تعالى -: ويجوز في صفة حفر القبر، اللحد والشق، وهو مساواة اتساع أعلاه لأسفله، واللحد هو الحفر في أحد الجانبين للقبر من أسفله، واللحد أفضل، لأنه صفة قبر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وقد كان صاحبان أحدهما يلحد، وآخر يشق، فلما توفي رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - اتفق الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - على أن يحفر له السابق منهما، فسبق الذي يلحد، ففعل كل واحد منهما ما يختص به يدل على الجواز، لأنه لا يكاد يخفى هذا من حالهما على الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - وما اختار الله سبحانه وتعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم لا شك أنه الأفضل، لكن قد لا يتفق اللحد في كل تربة، فإن اتفق فهو أفضل.
ومقتضاه أن كل ما فعل به صلى الله تعالى عليه وسلم راجح، ولا يجوز أن يكون مساويا، وانظر ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد جاء في الحديث " اللحد لنا، والشق لغيرنا " رواه أبو داود والترمذي والنسائي
(1)
.
وظاهر كلام الشيخ أبي الطاهر في اللحد استواء جانبي القبر، وما ذكره الشيخ أبو محمد من تعيين جهة القبلة، هو الذي وقفت عليه في كلام غير واحد، كابن يونس، وابن شاس، وابن عرفة، وغيرهم، رحمهم الله تعالى جميعا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1)
وهو حديث صحيح.