الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب جمل من الفرائض والسنن الواجبة والرغائب
2014 -
تكبير الاحرام أخو تحتم
…
وغيره للاستنان ينتمي
2015 -
كذا يسن رفعك اليدينِ
…
بوقت الاحرام لدى الأذْنين
2016 -
وقصده فرض الصلاة لزما
…
أيضا كتركه بها التكلما
2017 -
كذا الركوع والسجود والقيام
…
سلامه توجه البيت الحرام
2018 -
فاتحة لغير ذي ائتمام
…
وهكذا الجلوس للسلام
2019 -
وسن الاول، كذا التشهدان
…
والحكم في السورة أيضا الاستنان
2020 -
وجعلوا القنوت في الصبح حسن
…
وليس راقيا لرتبة السنن
قوله: تكبير الإحرام البيت، معناه أن تكبيرة الإحرام واجبة، وأن ما سواهما من تكبير الصلاة مسنون، قيل يسن مجموعه، وقيل آحاده، وقد تقدم الكلام على ذلك في الصلاة مفصلا، والحمد لله رب العالمين.
قوله: كذا يسن رفعك اليدين البيت، معناه أن رفع اليدين عند الإحرام سنة، وظاهر ابن رشد - رحمه الله تعالى - أن هذا هو المشهور حيث صدر به، ثم قال: وقد قيل في رفع اليدين إنه استحباب.
وقد تقدم ذكر الخلاف فيه، وفي كيفيته.
قوله: وقصده فرض الصلاة لزما، معناه أن نية الصلاة واجبة وقد أجمعأهل العلم على ذلك، وقد جاء في الحديث الشريف " إنما الأعمال بالنيات "
(1)
والنية الواجبة في الفريضة نية عين الصلاة، وكذلك ركعتا الفجر والسنن، وأما الأنفال فيكفي فيها مطلق نية الصلاة، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: ومن صفة النية على الكمال أن يستشعر الناوي الإيمان بقلبه، فيقرن بذلك اعتقاد القربة إلى الله سبحانه وتعالى بأداء ما افترض من تلك الصلاة بعينها، وذلك يحتوي على أربع نيات، وهي اعتقاد القربة، واعتقاد الوجوب، واعتقاد القصد إلى الأداء، وتعيين الصلاة، واستشعار الإيمان شرط في صحة ذلك كله، فإذا أحرم ونيته على هذه الصفة فقد أتى بإحرامه على أكمل أحواله، فإن سها في وقت إحرامه عن استشعار الإيمان، لم يفسد عليه إحرامه، لتقدم علمه به واعتقاده له، لأنه موصوف به في حال الذكر له والغفلة عنه، وكذا إذا سها عن أن ينوي مع الإحرام بها وجوب الصلاة عليه، والقصد إلى أدائها، والتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، لم يفسد عليه إحرامه، إذا عين الصلاة، لأن التعيين لها يقتضي الوجوب، والقربة، والأداء، لتقدم علمه بوجوب تلك الصلاة التي عينها عليه، وأما إن لم يعين الصلاة فليس بمحرم لها.
قوله: كتركه بها التكلما، معناه أن ترك الكلام في الصلاة واجب، فإن تكلم عامدا لغير إصلاح، ولو بحرف واحد، بطلت صلاته، ولو كان الكلام واجبا، كالواقع لإنقاذ أعمى ونحوه، وجعل اللخمي - رحمه الله تعالى - الواجب غير مبطل، إذا ضاق الوقت، اعتبارا بصلاة المسايفة، وقد كنت قلت:
إن يكن الكلام حتما معَ ضيق
…
وقتٍ فنَفْيُ البطل إذ ذاك خليق
حسب ما اللخم رأى والمازري
…
ليس لما الشيخ رأى بناصر
والخلف في إشارة منَ اَبكما
…
ثالثها إن قصد التكلما
(1)
متفق عليه.
قوله: كذا الركوع والسجود والقيام البيت، معناه أن الركوع واجب من واجبات الصلاة - فريضة كانت أو نافلة - وكذلك السجود، وقد تقدم الكلام على حدهما، وما يستحب فيهما، وأما القيام فإنما يجب في الصلاة المفروضة خاصة، ومن الواجبات كذلك السلام، لا فرق فيه بين الفرض والنفل، وتوجه القبلة من حين الإحرام إلى حين السلام شرط في صحة الصلاة كلها، لمن قدر عليه وتذكره، بخلاف العاجز فلا يعيد، وكذلك الناسي والمخطئ في القبلة الاجتهادية خاصة، على ما تقدم بيانه، ويستثنى من ذلك نفل المسافر على دابته سفر قصر كما تقدم، والحمد لله رب العالمين.
قوله: فاتحة لغير ذي ائتمام، معناه أن قراءة الفاتحة في الصلاة المكتوبة خاصة على الخلاف فريضة في حق الإمام والفذ، وأما المأموم فتندب له في السر، ويسن له الإنصات في الجهر على ما تقدم بيانه.
قوله: وهكذا الجلوس للسلام، وسن الأول، معناه أن الجلوس الأخير يفرض منه ما يقع فيه السلام، ويسن باقيه، والجلوس الأول سنة كله على المشهور.
قوله: كذا التشهدان البيت، معناه أن كلا من التشهدين سنة على المشهور أيضا، وقيل هما فضيلتان.
قوله: وجعلوا القنوت البيت، معناه أن القنوت في الصبح مستحب، وليس بسنة، وفي الصحيح عن ابن سيرين أنه قال: قلت: لأنس - رضي الله سبحانه وتعالى عنهما - قنت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في الصبح؟ قال: نعم بعد الركوع يسيرا،
(1)
وقد تقدم الكلام على الخلاف فيه.
2021 -
وغسل من أسلم مما وجبا
…
على الشهير حيث قبلُ أجنبا
2022 -
صلاة ميْت وكذاك الدفنُ
…
فريضة، وغسله يُسَنُّ
2023 -
والاستنان الحتمي حكم الوتر
…
كذا رغيبة ركوع الفجر
2034 -
والاستنان جاء عن أقوام
…
وسنة صلاة الالتحام
2025 -
وهكذا سنة أن يقصرا
…
على الذي أسلفته من سافرا
2026 -
أما الضحى فمن أكيد النفل
…
وهكذا أيضا قيام الليل
(1)
متفق عليه.
قوله: وغسل من أسلم البيت، معناه أن الكافر إذا أسلم، وجب عليه الاغتسال، إن تقدم حصول سبب من الأسباب الموجبة للغسل، وقيل يجب مطلقا، وقيل لا يجب مطلقا، لأن الإسلام يجب ما قبله، والمشهور الأول، ولا يجزئ الغسل قبل الإسلام، أو العزم عليه.
قوله: صلاة ميت البيت، معناه أن الصلاة على الميت واجبة كفاية، وقيل سنة كفائية، وتغسيله سنة كفائية على ما شهره المغاربة، وشهر العراقيون الوجوب، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: واحتج من نص على ذلك بقول النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في ابنته - رضي الله تعالى عنها - " اغسلنها ثلاثا "
(1)
وبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في المحرم: " اغسلوه "
(2)
لأن الأمر على الوجوب، وليس ذلك بحجة ظاهرة، لأن أمر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بغسل ابنته خرج مخرج التعليم بصفة الغسل الذي قد كان قبل معلوما معمولا به، وكذلك أمره بغسل المحرم خرج مخرج التعليم بما يجوز أن يعمل بالمحرم من غسله، وترك تحنيطه، وتخمير رأسه، فالقول بأن الغسل سنة أظهر، وهو قول ابن أبي زيد - رحمه الله تعالى -.
قوله: والاستنان الحتمي حكم الوتر، معناه أن الوتر سنة مؤكدة، وهو آكد السنن، وخُرج وجوبه من جرح تاركه، وقال ابن عبد البر - رحمه الله تعالى -: ضارع مالك وجوبه من قوله: تقطع صلاة الصبح، نقله ابن ناجي.
قوله: كذا رغيبة ركوع الفجر والاستنان جاء عن أقوام، معناه أن ركعتي الفجر رغيبة، أي: فضيلة، وقيل سنة غير مؤكدة، وقد تقدم الكلام في ذلك.
قوله: وسنة صلاة الالتحام، معناه أن الجمع للصلاة في المعارك على الوصف المتقدم ذكره، سنة مؤكدة، كما هو حكم صلاة الجماعة.
قوله: وهكذا سنة أن يقصرا البيت، معناه أن القصر في السفر سنة مؤكدة على المشهور، وقيل فريضة، وقيل مستحب، وقيل غير مشروع في الأمن.
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
قوله: أما الضحى فمن أكيد النفل، معناه أن صلاة الضحى نافلة مؤكدة، لتواتر الخبر بها عنه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولإيصائه بها،
(1)
قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: عياض: واختلفت الروايات فيها من اثنتين إلى اثنتي عشرة، ومنتهاها عند أهل المذهب ثمان، وأقلها ركعتان، وأوسطها ستة، ووقتها حل النافلة.
قوله: وهكذا أيضا قيام الليل، معناه أن قيام اليل من النوافل المؤكدة، فقد أدامه صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر أنه دأب الصالحين،
(2)
وقد تقدم الكلام عليه أيضا.
2027 -
والنفل بالصيام فيه رغبوا
…
وبالاخص عاشورا ورجب
2028 -
وشهر شعْبان كذاك يومُ
…
عرفةٍ أُكِّدَ فيه الصوم
2029 -
لغير ذي الحج كذا ما قبله
…
فصومه أيضا يرون فضله
2030 -
وطلب العلم سوى ما يلزم
…
بنفسه كفاية ينحتم
قوله: والنفل بالصيام الأبيات الثلاثة، معناه أن التطوع بالصوم مرغب فيه، وفي الحديث الشريف أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال:" والذي نفسي بيده لخُلوف فم الصائم أطيب عند الله سبحانه وتعالى من ريح المسك، إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، فالصيام لي، وأنا أجزي به، كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي، وأنا أجزي به "
(3)
.
(1)
كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه " أوصاني خليلي صلى الله تعالى عليه وسلم " إلخ.
(2)
رواه الترمذي، وهو حديث حسن صحيح.
(3)
متفق عليه، واللفظ للإمام مالك في الموطإ.
ومما يتأكد منه صوم يوم عاشوراء، وشهر رجب، وشهر شعبان، ويوم عرفة، ويوم التروية، وكذلك السبعة التي قبله، لغير الحاج، ويكره ذلك في حق الحاج بالنسبة ليومي عرفة والتروية، ليتقوى على أعمال الحج، وقد روى مالك عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أنها قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة، وتُرِك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه.
وقد جاء في الصحيح أن صومه يكفر سنة قبله، وقد جاء أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال في صيام عرفة:" إني أحتسب على الله سبحانه وتعالى أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده "
(1)
.
وجاء " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام " يعني عشر ذي الحجة
(2)
.
وأما رجب فذكروا أنه لم يجئ في خصوصه شيء صحيح صريح.
وأما شعبان فقد قالت عائشة - رضي الله تعالى عنها - كان رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان،
(3)
وفي رواية مسلم كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا.
(1)
رواه مسلم وأبو دود والترمذي.
(2)
رواه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد.
(3)
متفق عليه.
وأما ستة شوال فالخبر فيها محتمل، وذلك أن من، في قوله:" من شوال " كما تحتمل البيان، تحتمل ابتداء الغاية في الزمان، والأصل أن تعيين الزمن في الصوم، إنما يكون لتخصيصه بذلك فعلا في عمل النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كما في الثلاث من كل شهر، أو لقول يقتضي ذلك، كالخبر عن صيامه بأجر خاص، كما في عاشوراء مثلا، وعرفة، كما تقدم، أو لعظمة الزمان، وفضل القربات كلها فيه، عليها في غيره، كما في عشر ذي الحجة، ولم يأت شيء من هذا في ست شوال، والعلة المذكورة في الحديث ـ وهي أن رمضان بمثابة عشر أشهر من السنة، والستة بمثابة شهرين، فإذا فعل كان كمن صام السنة كلها ـ تقتضي عدم الاختصاص، لحصول هذه المضاعفة في كل أشهر السنة، كما تقتضيه عمومات نصوص التضعيف، وهو صريح أيضا في حديث الأمر بصيام ثلاثة من كل شهر، وقد قال مالك ـ رحمه الله تعالى ـ في الموطإ إنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها، قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم كانوا يكرهون ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله: وطلب العلم البيت، معناه أن طلب العلم فريضة على الكفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، إلا ما يلزم الإنسان في خاصة نفسه فتعلمه واجب عليه عينا، وفي الحديث الشريف " طلب العلم فريضة على كل مسلم "
(1)
.
قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: وفرض العين منه ما لا يؤمن الهلاك مع جهله دينا ودنيا، وفرض الكفاية ما لا تعلق له به في الحال، مع تعلق الغير به، أو توقعه في المآل، وقد أجمعوا على أنه لا يجوز لأحد أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله سبحانه وتعالى فيه، ولا يلزمه التوسع إلا قدر ما تعلق به فقط.
(1)
رواه أبو داود، وهو حديث صحيح.
وقال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: طلب العلم والتفقه في الدين من فروض الكفاية، كالجهاد، أوجبه الله سبحانه وتعالى على الجملة، فقال سبحانه وتعالى:(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) ومن للتبعيض، فإذا قام بعض الناس سقط الفرض عن سائرهم، إلا ما لا يسع الإنسان جهله، من صفة وضوئه، وصلاته، وصومه، وزكاته إن كان ممن تجب عليه الزكاة، فإن ذلك واجب عليه، لا يسقط عنه الفرض فيه معرفة غيره به، وكذلك من كان فيه موضع للإمامة والاجتهاد، فطلب العلم عليه واجب، قاله مالك رحمه الله سبحانه وتعالى.
إلى أن قال: وكما يجب على المتعلم التعلم، فكذلك يجب على العالم التعليم، قال الله عز وجل:(بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) ويقرأ تعلمون - يعني بالتشديد مع ضم التاء - وتعلمون - يعني بفتح التاء وتشديد اللام - بمعنى تتعلمون، فتجمع القراآت الثلاث العلم والتعلم والتعليم، وقال الله عز وجل:(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وقال سبحانه وتعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) وقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم: " بلغوا عني ولو آية "
(1)
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " ألا ليبلغ الشاهد الغائب "
(2)
وروي عن أبي ذر - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: لو وضعتم الصمصامة على هذه - وأشار إلى قفاه - ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها
(3)
.
(1)
رواه البخاري والترمذي والدارمي والإمام أحمد.
(2)
متفق عليه.
(3)
رواه البخاري معلقا جزما، ورواه الدارمي.
ثم قال: ويجب على طالب العلم أن يخلص النية لله سبحانه وتعالى في طلبه، فإنه لا ينفع عمل لا نية لفاعله، قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى "
(1)
وقال عليه الصلاة والسلام: " نية المؤمن خير من عمله "
(2)
وقال: " فمن كانت هجرته إلى الله سبحانه وتعالى ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه "
(3)
.
ثم ذكر بعض ما ورد من الوعيد الشديد في المراءي بعلمه، وذكر حديث الصحيح في الثلاثة الذين هم أول من تسعر به النار يوم القيامة،
(4)
ثم قال: وهذا الوعيد - والله سبحانه وتعالى أعلم - إنما هو لمن كان أصل عمله الرياء والسمعة، فأما من كان أصل عمله لله سبحانه وتعالى، وعلى ذلك عقد نيته، فلا تضره إن شاء الله سبحانه وتعالى الخطرات التي تقع بالقلب ولا تملك، وقد سئل مالك وربيعة - رحمهما الله سبحانه وتعالى عن الرجل يحب أن يلقى في طريق المسجد، ويكره أن يلقى في طريق السوق، فأما ربيعة فكره ذلك، وأما مالك فقال: إذا كان أول ذلك وأصله لله سبحانه وتعالى فلا بأس بذلك، إن شاء الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل:(وألقيت عليك محبة مني) وقال عز وجل: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين).
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه الطبراني، وهو حديث ضعيف.
(3)
متفق عليه.
(4)
رواه مسلم والترمذي والنسائي والإمام أحمد.
وقال عمر بن الخطاب لابنه - رضي الله تعالى عنهما -: لأن كنت قلتها أحب إلي من كذا وكذا، إذ أخبره بما وقع في نفسه، من أن الشجرة التي مثلها رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بالرجل المسلم، وسأل أصحابه عنها، فوقعوا في شجر البوادي، هي النخلة،
(1)
قال: فأي شيء هذا إلا هذا؟ فإنما هذا أمر يكون في القلب لا يملك، فهذا إنما يكون من الشيطان، ليمنعه من العمل، فمن وجد ذلك فلا يكسل عن التمادي في فعل الخير، ولا يؤيسه من الأجر، وليدفع الشيطان عن نفسه ما استطاع، ويجدد النية لذلك، وقد روي عن بعض المتقدمين أنه قال: طلبنا العلم لغير الله سبحانه وتعالى، فردنا لله سبحانه وتعالى، وقد روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما يؤيد ما ذهب إليه مالك - رحمه الله تعالى - وقع في جامع المستخرجة في سماع ابن القاسم من رواية معاذ بن جبل - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل، فمنهم من القتال طبيعته، ومنهم من يقاتل رياء، ومنهم من يقاتل احتسابا، فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة؟
فقال: يا معاذ من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله سبحانه وتعالى هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة
(2)
.
وروي أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - الرجل يعمل العمل فيخفيه فيطلع عليه الناس فيسره؟
فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: " له أجر السر وأجر العلانية "
(3)
.
2031 -
طواف قادم مع الإفاضة
…
والسعي والنية قد فرضت
2032 -
لكن الافاضة من القدوم
…
أشد في تأكد اللزوم
2033 -
ويلزم الوقوف عند عرفه
…
وسُنَّ أن يبيت بالمزدلفه
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه، بلفظ " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ".
(3)
رواه الترمذي وابن ماجة، وهو حديث ضعيف.
2034 -
وهكذا المبيت أيضا بمنى
…
عند مجيئه إليها الثامنا
2035 -
تلبيةٌ والحلق معْ رمي الجما
…
ر كلها سنت به تحتما
2036 -
والغسل للوقوف أيضا سُنَّا
…
تقبيله لدى الطواف الركنا
2037 -
وغسل الاحرام كذا، والمشعر
…
لديه بالوقوف أيضا يؤمر
معنى الأبيات أن طواف القدوم وطواف الإفاضة واجبان، لكن طواف الإفاضة ركن لا ينجبر بالدم، ووجوب طواف القدوم محله إذا لم يكن الحاج مراهقا، ولا مردفا بالحرم، وقد تقدم الكلام على ذلك، وأما طواف الوداع فمندوب، وأن السعي بين الصفا والمروة على الوصف الذي قدمناه ركن في الحج والعمرة، وأن الإحرام ركن فيهما أيضا، وأن الوقوف بعرفة ركن في الحج، وقد تقدم ذكر حديث " الحج عرفة " وأن البيات بالمزدلفة ليلة النحر سنة، وحط الرحل بها واجب يجب من تركه الدم، وأن المبيت بمنى ليلة تسع سنة، وأن التلبية والحلق أو التقصير ورمي الجمار واجبة كلها، يجب على تاركها أو تارك بعضها الدم، وقد قيل في رمي العقبة يوم النحر إنه ركن، وقيل بذلك أيضا في الحلق أو التقصير في العمرة، وأن الاغتسال لوقوف عرفة سنة، وأن تقبيل الحجر سنة، والمشهور اختصاص الاستنان بالشوط الأول، وأنه في ما بعده مستحب، وأن الغسل للإحرام سنة، وأن الوقوف بالمشعر الحرام مأمور به، والمشهور أنه مندوب، وقيل يجب لتركه الدم، وقيل إنه ركن لا ينجبر، وقد تقدم الكلام على صفة الحج مفصلا، ولله سبحانه وتعالى الحمد.
2038 -
إيقاعك الصلاة في جمع على
…
إيقاعها على انفراد فضلا
2039 -
بدرجات قدرها سبع معا
…
عشرين في الصحيح ذاك وقعا
معناه أن صلاة الرجل في جماعة أفضل من صلاته فذا بسبع وعشرين درجة، كما في الحديث الصحيح،
(1)
وفيه " صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا "
(2)
ووفق بينهما بوجوه، منها كون الأكثر في الجماعة بالمسجد، وغيره في الجماعة بغيره، والمراد بالدرجة أو الجزء الصلاة، لحديث الصحيح " صلاة مع إمام خير من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده "
(3)
.
وتتفاضل الجماعة بالكثرة لحديث " صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله سبحانه وتعالى "
(4)
.
وتتفاضل بتفاضل الجماعة، فليس المصلي مع أهل الفضل والصلاح كمن صلى مع غيرهم، وفي الصحيح " هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم "
(5)
.
ويحصل فضل الجماعة بإدراك ركعة لا أقل على المشهور لحديث الصحيح " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة "
(6)
وحكم الصلاة في الجماعة الاستنان على المشهور وقد تقدم ذكر الاختلاف في ذلك والحمد لله رب العالمين.
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
رواه مسلم والإمام أحمد.
(4)
رواه أبو داود والنسائي والإمام أحمد، وهو حديث حسن.
(5)
متفق عليه، واللفظ للبخاري، ولفظ مسلم " هم القوم ".
(6)
متفق عليه.
ويختص الفضل في الخروج إليها بالرجال، وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل، لحديث " صلاة المرأة في بيتها، خير من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها، خير من صلاتها في بيتها "
(1)
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم لامرأة أبي حميد الساعدي ـ رضي الله تعالى عنهما ـ: " قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك، خير لك من صلاتك في مسجدي " فأمرت فبني لها مسجد في أقصا شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه، حتى لقيت الله عز وجل
(2)
.
وقال عياض - رحمه الله تعالى - في حديث " لا تمنعوا إماء الله تعالى مساجد الله سبحانه وتعالى "
(3)
: هو إباحة لخروجهن، وحض أن لا يمنعن، ودليل أن لا يخرجن إلا بإذن.
2040 -
والمسجد الحرام فيه أيضا
…
قد فضلوا على سواه الفرضا
2041 -
إلا بمسجد النبي المصطفى
…
ففضله عليه فيه اختلفا
2042 -
وكون مسجد النبي أفضلا
…
عن علماء طيبة قد نقلا
2043 -
لكن بدون الالف واتفاقا
…
بالالف غيرَه جميعا فاقا
2044 -
والمسجد الحرام فاق غيرَه
…
بوفقهم مائة ألف مره
2045 -
والنفل بالبيت ولو بالحُرُم
…
على نوافل المساجد اعتمي
(1)
رواه أبو داود، وهو حديث صحيح.
(2)
رواه الإمام أحمد، وهو حديث حسن.
(3)
متفق عليه.
قوله: والمسجد الحرام الأبيات الخمسة، معناه أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في ما سواه من المساجد مائة ألف مرة إلا المسجد النبوي، فقد اختلف في الصلاة فيه مع الصلاة في المسجد الحرام، فذهب علماء المدينة المنورة إلى أن الصلاة في المسجد النبوي أفضل، ولكن بدون ألف، وأن ذلك هو المراد بالاستثناء في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في ما سواه إلا المسجد الحرام "
(1)
وهو خلاف المتبادر، وقد جاء التصريح في بعض الأحاديث الصحيحة بأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في المسجد النبوي مائة مرة،
(2)
وجاء أن الصلاة في المسجد الأقصى أفضل من الصلاة في ما سواه من المساجد بخمسمائة مرة،
(3)
ولا فرق في هذا التضعيف بين أصل المسجد وما استحدث من التوسعة كما اقتضاه عمل الخلفاء الراشدين حيث زادوا في المسجد من جهة القبلة، واختلف في المراد بالمسجد الحرام، فمنهم من قال المراد الحرم كله، واحتج بآية الإسراء (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) الآية وقد جاء أنه كان في بيت أم هانئ - رضي الله تعالى عنها - وقيل المراد خصوص المسجد، وإن كان الحرم كله أفضل مما سواه، وذلك أن المسجد الحرام إنما هو حقيقة عند الإطلاق في خصوص البناء المكتنف الكعبة الشريفة عرفا، وهو ظاهر، وشرعا إذ لا تجري على البيوت وبقية الحرم أحكام المساجد التي تختص بها، وأما الآية الكريمة فهي جارية على المعهود في كلام العرب، من إضافة ما حول العظيم من الأمكنة إليه، لا سيما في بيان ابتداء المسافة البعيدة.
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه الإمام أحمد وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما، وهو حديث صحيح.
(3)
رواه البزار، وقال: إسناده حسن.
وظاهر الحديث الشريف أن هذا التضعيف في مطلق أصل الصلاة، فينضاف إليه التضعيف المتقدم في الجماعة، فتكون الصلاة في المسجد الحرام أفضل منها فذا في بقاع الأرض غير الحرمات بألفي ألف مرة وسبعين ألف مرة، وينضاف إلى ذلك في بعض الأوقات ما جاء من التضعيف في خصوصه كالعشرة الأولى من ذي الحجة، ورمضان خصوصا العشرة الأخيرة منه، وليلة القدر وغير ذلك، وظاهر كلام بعض الأئمة اختلاف التضعيف أيضا باختلاف الأشخاص، فيحصل للفاضل من التضعيف ما لا يحصل لغيره، وهو بين، ويختلف التضعيف في حق الشخص الواحد باختلاف الأحوال القلبية وغيرها (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم).
وتتفاضل المساجد في ما بينها، فالجامع الذي تصلى فيه الجمعة أفضل من غيره، والأقدم أفضل من غيره، وذو الجماعة الفاضلة أفضل من غيره، لقوله سبحانه وتعالى:(فيه رجال يحبون أن يتطهروا) وذلك لعموم دعائهم وبركة مجالسهم، وقد جاء في الصحيح أن بعض الصحابة طلب من النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لما كبر أن يصلي له في مكان من بيته يتخذه مصلى، ففعل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -
(1)
.
وقد ذكر أهل التفسير نحو ذلك في قصة مسجد الضرار، ويستحب عندنا التنفل بمصلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -.
قوله: والنفل بالبيت البيت، معناه أن النفل في البيوت أفضل منه في المساجد ولو المساجد الثلاثة، لحديث " أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة "
(2)
وتستثنى من ذلك عندهم الرواتب التي مع الفرائض، وذلك للسنة العملية إلا بعد الجمعة والمغرب.
2046 -
ومَن يكن مِنَ اَهل مكة على
…
طوافه قد فضلوا التنفلا
2047 -
بعكس الافاقي فالتنفل
…
تكثيره الطواف منه أفضل
(1)
كما في قصة عتبان بن مالك ـ رضي الله تعالى عنه ـ في الصحيحين وغيرهما.
(2)
متفق عليه.
معناه أن من كان من أهل مكة المكرمة فالإكثار من الصلوات أفضل في حقه، وأما الآفاقي فالإكثار من الطواف أفضل في حقه، لعدم تمكنه منه أكثر زمانه.
2048 -
وواجب عليك غضك البصر
…
عن التي بها التمتع انحظر
2049 -
لا إثم في نظر فجأة، ولا
…
نظر من تجلت أيضا مسجلا
2050 -
ونظر الفتاة أيضا لضرو
…
رة بقدرها فقطـ لا يحظر
2051 -
وهكذا نظرها لمن خطب
…
فهو جائز وبعض استحب
قوله: وواجب عليك غضك البصر البيت، معناه أنه يجب على المكلف غض بصره عما حرم الله سبحانه وتعالى النظر إليه، قال سبحانه وتعالى:(قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم).
والأجنبية الحرة عورة، إلا الوجه والكفين، ويجوز النظر إلى ذلك من غير كراهة في المتجالة، وفي معناها من لا يلتذ به لقبح كما نقل الحطاب في حاشيته عن القلشاني.
ويجوز مع الكراهة لغير حاجة في غيرهما ما لم يقصد التلذذ، أو تكون فاتنة، قال في التاج: أبو عمر: وجه المرأة وكفاها غير عورة، وجائز أن ينظر ذلك منها كل من نظر إليها بغير ريبة، ولا مكروه، وأما النظر بشهوة فحرام، ولو من فوق ثيابها فكيف بالنظر إلى وجهها.
وقال عياض - رحمه الله تعالى -: وقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: " العين تزني "
(1)
قال العلماء وفي هذا حجة ألا يجب على المرأة ستر وجهها في الطريق، وإنما هو مستحب، ويجب على الرجل أن يغض بصره عنها إلا لغرض صحيح شرعي، من شهادة، أو مداواة، أو خطبة، أو شراء جارية، وإنما يجوز في جميع ذلك قدر الحاجة، واختلف في قوله سبحانه وتعالى:(ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) فقال مالك وجماعة من السلف إنه الوجه والكفان، قال إسماعيل القاضي: وهو الظاهر، لأنه يجب عليها في الصلاة أن تستر ما سواهما، فدل أنه يجوز للأجنبي أن يراهما، قالوا: والمراد بالزينة: مواضع الزينة، وقيل المراد الثياب، ولا خلاف أن فرض ستر الوجه مما اختص به أزواجه - صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي عنهن - منذ نزل الحجاب، ونقل الحطاب عن الفاكهاني أنه لا يجوز النظر إلى الشابة لتعلم قرآن ولا غيره من العلوم.
والمرأة المحرم يجوز نظر ذراعيها، وشعرها، وفوق نحرها، وقدميها ما لم تخش من ذلك فتنة، فإذا خشيت الفتنة في شيء من ذلك امتنع، حتى بين الرجل وابنته، ومن هذا المعنى قول المدونة: إذا أبت الرجل امرأته وجحدها لا يرى وجهها إن قدرت على ذلك.
ومنه أيضا قول بعضهم إنه يجوز أن تبدي من ذلك لأبيها وابنها ما لا يجوز أن تبدي لغيرهما، وممن نص على ذلك القرطبي - رحمه الله تعالى - في تفسير سورة النور.
وقد كنت قلت:
وبعض ما إبداؤه لمحرم
…
كالابن والوالد لم يُحرَّم
إبداؤه لإخوة الرضاع
…
وولد الأزواج ذو امتناع
وذاك أمر بين الظهور
…
والقرطبي ساقه في النور
وموجب المنع هنا إمكان
…
أن للبعيد يقعَ افتتان
فإن تك المرأة ذي عجوزا
…
يكن كمثل نجلها تجويزا
(1)
رواه الإمام أحمد، وأصله في الصحيحين.
وقال ابن عبد البر - رحمه الله تعالى - في كتاب الجامع من الكافي: ولا بأس أن ينظر إلى وجه أم امرأته، وشعرها، وكفيها، وكذلك زوجة أبيه، ولا ينظر منهن إلى معصم، ولا ساق، ولا جسد، ولا يجوز ترداد النظر، وإدامته، لامرأة شابة من ذوي المحارم أو غيرهن، إلا عند الحاجة إليه، أو الضرورة في الشهادة، ونحوها، وإنما يباح النظر إلى النساء القواعد التي لا يرجون نكاحا، والسلامة من ذلك أفضل.
ونظر المرأة إلى الرجل أوسع من نظره إليها، فتنظر من محرمها ما عدا ما بين سرته وركبته، ومن الأجنبي ما تقدم أنه يجوز لمحرمها نظره منها، قال في التاج: وفي صحيح البخاري باب نظر المرأة إلى الحبش وغيرهم في غير ريبة، ابن بطال: فيه حجة لمن أجاز النظر إلى اللعب في الوليمة وغيرها، وفيه جواز نظر النساء إلى اللهو واللعب، وفيه أنه لا بأس بنظر المرأة إلى الرجل من غير ريبة، وإنما أراد البخاري - رحمه الله تعالى - بهذا الحديث الرد على ما ورد من الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم الأعمى، وهذا الحديث أصح.
ولقد أحسن من قال:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا
…
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر
…
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
قوله: لا إثم في نظر فجأة، معناه أنه إذا وقعت عينه على ما لا يحل له نظره إما لكونه عورة، وإما لكونه فتنة من غير قصد فغضها فلا إثم عليه في ما حصل من غير علم، ويسمى هذا بنظر الفجأة، فإن كان نظره أولا عن علم وعمد، كان آثما به.
قوله: وهكذا نظرها لمن خطب البيت، معناه أن نظر وجه الشابة وكفيها للخاطب من غير قصد تلذذ جائز، ويكون ذلك بعلمها، فاستغفالها مكروه عند مالك - رحمه الله تعالى - والمشهور كماقال سيدي زروق - رحمه الله تعالى - في النظر المذكور الندب للأمر بذلك في الحديث
(1)
.
2052 -
والصون للسان عن زور كذب
…
وغيبة فُحش نميمة يجب
2053 -
وسائر الباطل كيف كانا
…
يلزم عنه صونك اللسانا
معناه أن من الفرائض حفظ المرء لسانه عن الكذب، والزور، والفحشاء، والغيبة، والنميمة، والباطل كله، والكذب: الإخبار على خلاف ما عندك في الأمر الذي تخبر عنه، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ عن صفوان بن سليم أنه قال: قيل لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ فقال: نعم، فقيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ فقال: لا.
وفي الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: " عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله سبحانه وتعالى صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله سبحانه وتعالى كذابا "
(2)
.
(1)
كما في حديث المغيرة بن شعبة ـ رضي الله تعالى عنه ـ " انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(2)
متفق عليه.
ويعظم الإثم في الكذب بعظم ما يترتب عليه من فساد، وقد جاء في معنى الكلمة في حديث " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله سبحانه وتعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله سبحانه وتعالى له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن المرء ليتكلم بالكلمة من سخط الله سبحانه وتعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله سبحانه وتعالى له بها سخطه إلى يوم يلقاه "
(1)
أن المراد بها الكلمة عند السلطان، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: هي الكلمة عند السلطان يرده بها عن جور أو إثم، أو يعينه بها على خلاف ذلك، لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك، لما جاء فيه مما يدل عليه وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
لأن ذلك من الكذب على الله عز وجل، وعلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد قال الله سبحانه وتعالى:(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "
(2)
.
وربما جاز الكذب لعارض، كالإصلاح، وتألف الولد والزوجة، ونحو ذلك، وفي الحديث " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا "
(3)
قالت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط - رضي الله تعالى عنها -: ولم أسمعه - تعني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم - يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها
(4)
.
(1)
رواه الترمذي وابن ماجة والإمام مالك والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(2)
متفق عليه.
(3)
متفق عليه.
(4)
رواه الإمام أحمد، ورواه مسلم من كلام الزهري، وهو الصواب.
وروى مالك عن صفوان بن سليم أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: أكذب امرأتي يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -؟ فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: لا خير في الكذب، فقال الرجل: يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أعدها وأقول لها، فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" لا جناح عليك ".
قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: وقد قيل إنه لا يباح فيه إلا بتعريض الكلام، لا بنص الكذب، والأول أصح أن التصريح بالكذب في ذلك جائز.
إلى أن قال: وقد قيل إن معاريض القول جائزة في كل موضع، لما جاء عن بعض السلف أن فيها مندوحة عن الكذب، والذي أقول به أن ذلك مكروه، لما فيه من الإلغاز على المخاطب، فيظن أنه كذب، فيعرض نفسه بذلك إلى أن ينسب إليه الكذب، فتركه أحسن.
والزور يعني به شهادة الزور، وقد عدها صلى الله تعالى عليه وسلم من أكبر الكبائر، وما زال يكررها حتى قالوا: ليته سكت،
(1)
قال مالك - رحمه الله تعالى -: وإذا ظهر الإمام على شاهد الزور ضربه بقدر رأيه، ويطاف به في المجالس، والفحشاء: الكلام القبيح، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ عن يحيى بن سعيد أن عيسى ابن مريم - على نبينا وعليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم - لقي خنزيرا بالطريق، فقال له: انفذ بسلام، فقيل له: تقول هذا لخنزير؟
فقال: إني أخاف أن أعود لساني المنطق بالسوء.
وذكر مالك - رحمه الله تعالى - أنه بلغه أن عيسى ابن مريم - على نبينا وعليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم - كان يقول: " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله سبحانه وتعالى فتقسوَ قلوبُكم، فإن القلبَ القاسيَ بعيدٌ من الله سبحانه وتعالى ولكن لا تعلمون، ولا تتظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله سبحانه وتعالى على العافية ".
(1)
متفق عليه.
وأما الغيبة فهي " ذكرك أخاك بما يكره " كما في الحديث الشريف، قال رجل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته "
(1)
.
سميت غيبة لأنها أكثر ما تقع في غيبة المقول فيه، وسواء كان ما ذكره في دينه، أو خلقته كالعرج، أو خلقه كالبخل، أو حسبه، ويختلف إثمها بحسب المقول فيه، فليست غيبة الشرفاء والصلحاء والعلماء كغيبة غيرهم، وذكر القرطبي - رحمه الله تعالى - أنه لا اختلاف في كونها كبيرة، وهو أقعد بخبث ما ضربه القرآن الكريم لها مثلا، وبحديث " لقد قلتِ كلمة لو مُزِج بها البحر لمزجته "
(2)
وبحديث " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر "
(3)
.
واختلف هل يلزم أن يستحل المغتاب منها، وهو المعول، لحديث " من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثَم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه "
(4)
أو يكفيه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى من ذلك، أو يكفيه أن يستغفر للمغتاب.
واختلف كذلك هل يجوز للمغتاب إذا استحل من الغيبة أن يحلل منها، وهو المعول للحديث السابق، أو لا يجوز له ذلك، ونقل عن سعيد بن المسيب وابن سيرين - رضي الله تعالى عنهم - وفرق مالك بين الحقوق المالية فأجاز التحليل فيها، ومنعه في غيرها.
(1)
رواه مسلم وابو داود والترمذي والدارمي والإمام أحمد.
(2)
رواه أبو داود والترمذي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(3)
متفق عليه.
(4)
رواه البخاري والترمذي والإمام أحمد.
وأما النميمة فهي نقل الحديث للمقول فيه على جهة الإفساد، وفي الحديث " لا يدخل الجنة قتات "
(1)
وهو النمام، وفيه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر على قبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله "
(2)
ويعظم إثمها بعظم ما يترتب عليها من فساد، وأما الباطل فقال سيدي زروق - رحمه الله تعالى - مراده به ما لا يهدي إلى حق، ولا يعين على خير، ولا يهدي إليه، وأنواعه لا تنحصر ولا تحصى.
وقد ساق الشيخ هنا حديثين يشهدان لذلك، وهما حديث " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت "
(3)
وحديث " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "
(4)
وسيأتي الكلام عليهما إن شاء الله سبحانه وتعالى.
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
متفق عليه.
(4)
رواه الترمذي وابن ماجة والإمام مالك والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
وروى مالك في الموطإ عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -قال: " إن الله تبارك وتعالى يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله تعالى جميعا، وأن تُناصحوا من ولاه الله سبحانه وتعالى أمركم، ويسخط لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال "
(1)
وروى عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: " من وقاه الله سبحانه وتعالى شر اثنين ولج الجنة، فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ألا تخبرنا، فسكت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ثم عاد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال مثل مقالته الأولى، فقال له الرجل: لا تخبرنا يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فسكت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وتكرر ذلك ثلاثا، فأسكت الرجلَ رجلٌ إلى جنبه، فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: " من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة، ما بين لحييه وما بين رجليه، ما بين لحييه وما بين رجليه، ما بين لحييه وما بين رجليه "
(2)
.
وروى عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنهم - وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مه، غفر الله تعالى لك، فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد، والأخبار الصحيحة في خطر اللسان كثيرة جدا، والله المستعان.
2054 -
والله جل وعلا قد حرما
…
دمَ ومالَ كلِّ شخص اَسلما
2055 -
وعرضَه إلا بحقها كما
…
جاء به الحديث نصا محكما
2056 -
وقتله بالارتداد والقود
…
مجوَّز كذاك بالحد فقد
(1)
ورواه مسلم والإمام أحمد، وروى البخاري الجزء الثاني منه.
(2)
وروى البخاري " من يضمنْ ما بين لحييه وما بين رجليه أضمَنْ له الجنة " وفي لفظ له " من توكل لي ما بين رجليه وما بين لحييه توكلت له بالجنة "ورواه بهذا اللفظ أيضا الترمذي.
أشار بالبيتين الأولين إلى حرمة دم المسلم وماله وعرضه إلا بحقها، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم في حجة الوداع " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه "
(1)
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله سبحانه وتعالى " ثم قرأ (إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)
(2)
والمراد بحقها ما يجوز من تلك الأمور لأسباب معينة، كتعاطي سبب الحد، وكالزكاة في المال، ونحو ذلك، وأشار بالبيت الثالث، إلى أن قتل المسلم لا يجوز إلا بواحد من ثلاثة أمور: الردة، لحديث " من بدل دينه فاقتلوه "
(3)
والقصاص كما في الآية الكريمة، والحد، كحد الزنا والحرابة، كما في القرآن الكريم.
2057 -
وكُفَّ عن كل حرام اليدا
…
مالا يكون أو دما أو جسدا
2058 -
وكفَّ رجلَك عن السعي إلى
…
ما الله مشيَك إليه حظلا
2059 -
ولا تباشرنَّ ما لم يُبَح
…
لك بفرجك أو الجوارح
2060 -
وحرم الله علا وجلا
…
فعلَ فواحش الامور كلا
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.
قوله: وكف عن كل حرام البيت، معناه أنه يجب على المكلف كف يده عما حرم الله سبحانه وتعالى عليه، مالا، أو دما، أو جسدا، فلا يحل أكل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، والمراد بالأكل الاستعمال على أي وجه كان، ولا مفهوم للمسلم، فالذمي معصوم المال أيضا، وكذلك أهل الحرب إن دخل بلادهم بأمان، أو دخلوا بلادنا بأمان، وكذلك القول في الدم أيضا، وأما الجسد فلا تجوز الجناية عليه أيضا بضرب مثلا أو غيره، من كل مؤذ، إلا ما استثناه الشرع كتعزير السلطان العاصي، وتأديب الولي والسيد والزوج على ما تقدم بيانه في موضعه.
قوله: وكف رجلك البيت، معناه أنه يجب على المكلف ترك السعي إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى، ومثل الحرام وسيلته، وفي الحديث " والرجل تزني وزناها المشي "
(1)
وقال جل من قائل: (ولا تمش في الأرض مرحا).
قوله: ولا تباشرن البيت، معناه أنه يجب على المكلف كذلك أن يكف فرجه وسائر جسده من عين، وأذن، وبدن، عن الاستمتاع بما لم يجز له سبحانه وتعالى الاستمتاع به، ولم يجز له سبحانه وتعالى الاستمتاع إلا بزوجته وأمته على التفاصيل المتقدمة في باب النكاح، قال سبحانه وتعالى:(والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون).
قوله: وحرم الله علا وجلا البيت، معناه أن الله سبحانه وتعالى حرم فواحش الأمور، ما أسر منها، وما جهر به، والفواحش: الأمور المفرطة في القبح كالزنى، واللواط، والمساحقة، قال سبحانه وتعالى:(ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وقال سبحانه وتعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن).
2061 -
كذاك إتيان النسا معَ دم
…
نفاس أو حيض من المحرم
(1)
جزء من حديث الإمام أحمد وغيره المتقدم.
معناه أن وطء الحائض والنفساء في الفرج حرام إجماعا، لقوله سبحانه وتعالى:(فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) والمشهور من المذهب امتناع الاستمتاع بما بين السرة والركبة إلا من فوق حائل، وقد صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان يأمر الحائض من نسائه أن تأتزر ويباشرها من فوق الإزار،
(1)
وهو الأشد ملكا لإربه، وقال:" لتشد مئزرها وشأنك بأعلاها "
(2)
وقيل يجوز لعموم حديث " اصنعوا كل شيء إلا النكاح "
(3)
والمشهور أيضا امتناع الوطء بعد انقطاع الدم ولو تيممت، لظاهر الآية الكريمة:(فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله).
2062 -
وأكل ما طاب به قدَ اَمرا
…
سبحانه وبالحلال فسرا
2063 -
فلا يحل الانتفاع مسجلا
…
إلا بما الله تعالى حللا
2064 -
وبينه وبين ما قد حرما
…
مشتبهات من يذرْها سلما
2065 -
وواقع بها كمثل من رتع
…
حول الحمى يوشك أن فيه يقع
2066 -
والاكل بالباطل للأموال
…
مما بنص الذكر ذو انحظال
2067 -
مثل خيانة وأن يغتصبا
…
وغرر خلابة سحت ربا
2068 -
غش قمار وكذا التعدي
…
خديعة فكل ذا ذو حرد
قوله: وأكل ما طاب البيتين، أشار به إلى ما جاء في القرآن الكريم من الأمر بأكل الطيبات، قال سبحانه وتعالى:(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) وقال جل من قائل: (يا أيها الذين آمنوا كلوا مما في الأرض حلالا طيبا).
والمراد بالطيب الحلال، والمراد بالأكل الانتفاع بأي وجه كان، من أكل، أو شرب، أو لبس، أو شم، أو تبرد، أو تدف، أو غير ذلك.
(1)
متفق عليه من حديث عائشة وميمونة ـ رضي الله تعالى عنهما ـ.
(2)
رواه الإمام مالك والدارمي، وهو حديث صحيح.
(3)
رواه مسلم والإمام أحمد.
قوله: وبينه وبين ما قد حرما البيتين، معناه أن بين الحلال والحرام أمورا مشتبهة كما في حديث الصحيح " الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه "
(1)
.
والمشتبهات: الأمور التي يطرق حليتها الاحتمال، من الاشتباه، وهو الاختلاط والالتباس، ولا خلاف في الأمر بالتنزه عنها، كما اقتضاه الحديث الشريف، واختلف هل ذلك على سبيل الوجوب، أو الاحتياط، وهو مذهبنا كما هو مقتضى ابن رشد - رحمه الله تعالى -.
قال ابن ناجي: قال الفاكهاني - رحمهما الله سبحنه وتعالى -: لا ينبغي اليوم أن يسأل عن أصل شيء، فإن الأصول فيه فسدت، واستحكم فسادها، بل يأخذ الشيء على ظاهر الشرع أولى له، من أن يسأل عن شيء فيتعين له تحريمه، ثم هو الأرفق بالناس، لا قول من قال: الحلال ما علم أصله، والذي عندي في هذا الزمان أن من أخذ قدر الضرورة لنفسه وعياله، من غير سرف ولا زيادة على ما يحتاج إليه، لم يأكل حراما، ولا شبهة، وقد قال القاسم بن محمد - رضي الله تعالى عنهما -: لو كانت الدنيا حراما لما كان بد من العيش، ألا ترى أنه يحل أكل الميتة، ومال الغير للمضطر على تفصيل تقدم، فما ظنك بما ظاهره الإباحة؟ هذا ما لا يكاد يختلف فيه اليوم والله سبحانه وتعالى أعلم.
والأولى للمرء في خاصة نفسه أن يتورع عما لا تتبين عنده حليته، لحديث " دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك "
(2)
وإنما يعتبر الشك المستند إلى علامة، وغيره وسوسة، والوقوف معه تنطع.
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه الترمذي والنسائي والدارمي والإمام أحمد.
قوله: والأكل بالباطل الأبيات، معناه أنه لا يجوز أكل أموال الناس بالباطل، كما قال سبحانه وتعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل).
وأوجه أكل المال بالباطل كثيرة، منها الربا، وهو كل بيع فاسد، وقيل ربا الجاهلية، وقيل ربا الفضل، ومنها السحت، والقمار، والخيانة، والخداع، والخلابة، والغصب، والتعدي، وجحد الحق، والغرر، والغش، والرشوة، والمكس، والمأخوذ عن حياء من أربابه، أو عن سؤال استكثارا، وحلوان الكاهن، ومهر البغي، وثمن ما لا يحل، كالخمر، والخنزير، وآلات الملاهي، ونحو ذلك.
2069 -
والنهي عن شرب الخليطين الخبر
…
به مصحح لدى أهل الاثر
2070 -
وذاك بالخلط في الانتباذ أو
…
من قبل الاحتسا فعن كل نهوا
2071 -
كذاك الانتباذ في إناء
…
مُزَفَّتٍ، والشبه كالدُّبَّاء
2072 -
كذا عن السباع ذات الناب
…
كالنمر والسبع والذئاب
2073 -
كأهلي الحمير لا الوحشي
…
والخيلُ والبغالُ كالأهلي
2074 -
فبركوب الكلِّ الامتنانُ
…
لا أكله قد ورد القرآن
2075 -
والاكل أعظم فلو أبيحا
…
لجاء ذكره هنا صريحا
قوله: والنهي عن شرب البيتين، أشار به إلى ما ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من أنه نهى عن شرب الخليطين، وقد جاءت في ذلك ألفاظ متعددة، منها نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعا، ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعا،
(1)
وذلك لما يحتمل من حصول الشدة المسكرة، ولا فرق في ذلك بين أن يخلطا في الانتباذ، وأن ينبذ كل منهما على حدته ثم يخلطا عند الشرب، لحديث الصحيح " من شرب النبيذ منكم فليشربه زبيبا فردا، أو تمرا فردا، أو بسرا فردا "
(2)
وقد اختلف في النهي في ذلك هل هو نهي تحريم فيعاقب فاعله، أو نهي كراهة، قال في التبصرة: قال محمد في كتاب الحدود: إنا لنرى في ما نهى عنه رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - من الخليطين وغيره من الأنبذة الأدب الموجع لمن عرف ذلك، وارتكب النهي تعمدا، وقال أبو محمد عبد الوهاب وغيره: إن خلط فقد أساء، وإن لم تحدث الشدة المطربة جاز شربه.
وأما الأشربة التي يؤمن السكر منها مخلوطة فلا بأس بخلطها، وقد اختار بعض أهل العلم ترك ذلك كله.
قوله: كذاك الانتباذ في إناء البيت، أشار به إلى أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - نهى عن الانتباذ في الآنية التي تسرع بالشدة، فنهى عن الانتباذ في الدباء، والنقير، والمزفت، والمُقَيَّر
(3)
.
(1)
متفق عليه، واللفظ لمسلم.
(2)
رواه مسلم والنسائي.
(3)
كما في حديث وفد عبد القيس في الصحيحين وغيرهما بألفاظه المختلفة.
والدباء: القرعة اليابسة، والنقير: خشبة من قعر النخلة تنقر وتجعل آنية، والمزفت: ما عمل ما داخله بالزفت، والمقير: ما عمل بالقار، وقد اختلف في النهي عن ذلك هل هو نهي تحريم أو نهي كراهة، قال في التاج: من المدونة: لا ينبذ في الدباء والمزفت، ولا أكره غير ذلك كالفخار وغيره من الظروف، وأكره كل ظرف مزفت، فخارا كان أو زقا أو غيره، ابن حبيب - رحمه الله تعالى -: إنما نهى عن الانتباذ في الدباء والمزفت لئلا يعجل ما ينبذ فيه، فكره ذلك مالك، والتحليل أحب إلي، وبه أقول.
وقد رأى ابن حبيب - رحمه الله تعالى - أن حديث النهي عن ذلك نسخ بحديث " نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وادخروا، ونهيتكم عن الانتباذ، فانتبذوا، وكل مسكر حرام، ونهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا هُجرا "
(1)
قال ما كان بين نهيه ورخصته فيها إلا جمعة، نقله عنه في التبصرة.
قوله: كذا عن السباع البيت، معناه أنه جاء في الحديث أيضا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى يوم خيبر عن كل ذي ناب من السباع،
(2)
وقد اختلف في المذهب عن النهي عنها هل هو نهي تحريم أو كراهة، فروى العراقيون الكراهة فيها من غير تفصيل ولا تمييز، وهو ظاهر المدونة، ونصها: ولا أحب أكل الضبع، والثعلب، والذئب، والهر الوحشي والإنسي، ولا شيء من السباع.
وظاهر الموطإ أنها حرام، قال في التاج: وقال ابن حبيب - رحمه الله تعالى -: لم يختلف المدنيون في تحريم لحوم السباع العادية، الأسد، والنمر، والذئب، والكلب، فأما غير العادية، كالدب، والثعلب، والضبع، والهر الوحشي، والإنسي، فمكروهة دون تحريم، قاله مالك وابن الماجشون، ونحو هذا في كتاب ابن المواز - رحمهم الله تعالى جميعا -.
(1)
رواه مسلم وأبو داود والإمام مالك والإمام أحمد، وهذا لفظ الإمام مالك.
(2)
متفق عليه.
وقال أبو عمر - رحمه الله تعالى -: إدخال مالك - رحمه الله تعالى - حديث أبي هريرة وأبي ثعلبة يدل أن مذهبه في النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع نهي تحريم، وأصل النهي أن تنظر إلى ما ورد منه، فما كان منه واردا على ما في ملكك، فهو نهي أدب وإرشاد، كالأكل من رأس الصحفة، والاستنجاء باليمين، والأكل بالشمال، وما طرأ على غير ملكك، فهو على التحريم كالشغار، وعن قليل ما أسكر كثيره، واستباحة الحيوان من هذا القسم، ولا حجة لمن تعلق بقوله سبحانه وتعالى:(قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه) الآية الكريمة، لأن سورة الأنعام مكية، وقد نزل بعدها نهي عن أشياء محرمات، وبإجماع أن النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع إنما كان بالمدينة المنورة.
قوله: كأهلي الحمير، معناه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن الحمر الأهلية، وكان ذلك يوم خيبر، وعبارة جابر - رضي الله تعالى عنه - في بعض الروايات حرم لحوم الحمر الإنسية،
(1)
وألحقت بها الخيل والبغال، لقوله سبحانه وتعالى:(والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) فقد امتن سبحانه وتعالى بالركوب والزينة بها، والأكل أعظم منة، فاقتضى عدم ذكره عدم مشروعيته، إذ مقتضى البلاغة أن يمتن بالأعظم في الانتفاع، ولقوله سبحانه وتعالى:(ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) فالبيان ببهيمة الأنعام مؤذن بخروج غيرها، وإلى هذا الإشارة بقوله: والخيل والبغال كالأهلي إلخ، وفي بعض روايات حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حرم لحوم البغال أيضا يوم خيبر
(2)
.
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه أبو داود والترمذي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
قال في التاج: وفي التلقين: الخيل مكروهة دون كراهية السباع، وما حكى المازري خلاف هذا، وما عزى الباجي لمالك - رحمهما الله تعالى - في الخيل إلا الكراهة خاصة، ونقل عن ابن حبيب - رحمه الله تعالى - إباحتها، وظاهر الموطإ حرمتها.
قوله: لا الوحشي، معناه أن حمار الوحش مباح الأكل، وهو مفهوم الصفة في حديث النهي عن الحمر الأهلية، وقد جاء في الصحيح أن أبا قتادة كان في قوم محرمين - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - فاصطادوا حمار وحش، فلقوا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فسألوه عنه، فقال: هل أشار إليه إنسان منكم؟ فقالوا: لا، فقال: كلوا
(1)
.
2076 -
والطير في مشهور قول المذهب
…
يجوز لو سبعا اَو ذا مِخلب
معناه أن المشهور من المذهب جواز الطير كله، حتى السباع منه، وذوات المخلب، قال في التوضيح: وروى ابن أبي أويس عن مالك - رحمهما الله تعالى - أنه لا يؤكل كل ذي مخلب من الطير، هكذا حكى بعضهم هذا القول، وقال في الإكمال: وحكي عن أبي أويس كراهة أكل كل ذي مخلب، وفي مسلم وأبي داوود أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، والمخلب كمنبر: الظفر من السبع والطير.
2077 -
وبر الاباء والامهاتِ
…
وجوبه من الضروريات
2078 -
لو فسقا أو كفرا فلْتقلِ
…
لدى الخطاب قولَ ذي تذلل
2079 -
وعاشرنْهما بمعروف ولا
…
تطعهما بما عليك حُظلا
2080 -
وهكذا يجب أن تستغفرا
…
أيضا لهم إلا إذا ما كفرا
(1)
متفق عليه.
وبر الآباء البيت، معناه أن وجوب بر الأبوين مما علم من الدين ضرورة، وهو امتثال أمرهما، وموافقتهما في ما لم ينه عنه الشرع، والإحسان إليهما، وتطلب رضاهما، قال في الكافي: وبرهما خفض الجناح، ولين الكلام، وألا ينظر إليهما إلا بعين المحبة والإجلال، ولا يعلو عليهما في مقال، إلا أن يريد إسماعهما، ويبسط أيديهما في نعمته، ولا يستأثر عليهما في مطعمه ولا مشربه، ولا يتقدم أحد أباه إذا مشى معه، ولا يتقدمه في القول في مجلسه، في ما يعلم أنه أولى به منه، ويتوقى سخطهما بجهده، ويسعى في مسرتهما بمبلغ طاقته، وإدخال الفرح عليهما من أفضل أعمال البر، وعليه أن يسرع إجابتهما إذا دعواه، أو أحدهما، فإن كان في الصلاة النافلة خففها، وتجوز فيها، وأسرع إجابتهما، ولا يقل لهما إلا قولا كريما، وحق عليهما أن يعيناه على برهما، بلين جانبهما، وإرفاقه بذات أيديهما، فما وصل العباد إلى طاعة الله سبحانه وتعالى وأداء فرائضه إلا بعونه لهم على ذلك.
وقد قرن الله سبحانه وتعالى بر الوالدين بتوحيده وعبادته وشكره، فقال جل من قائل:(وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) وقال جل من قائل: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) وقال جل من قائل: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي لي ولوالديك إلي المصير) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، وقد جاء في الصحيح أن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - سأل النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله عز وجل فقال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله تعالى "
(1)
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: رَغِم أنفُه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة "
(2)
وفي حديث الصحيح " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال: " الإشراك بالله سبحانه وتعالى، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، وقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت
(3)
.
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه مسلم والترمذي والإمام أحمد.
(3)
تقدم.
وقد أمر سبحانه وتعالى بالتذلل لهما والإحسان إليهما، ومصاحبتهما في الدنيا معروفا، والترحم عليهما، ونهى عن انتهارهما وجميع ما يؤذيهما، فقال جل من قائل:(وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: " من أكبر الكبائر شتمُ الرجل والديه، فقالوا: يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهل يشتم الرجل والديه؟! قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه "
(1)
وروى أيضا أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: " رضى الرب سبحانه وتعالى في رضى الوالد، وسخط الرب سبحانه وتعالى في سخط الوالد "
(2)
وجاء في الصحيح عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروح عليه إذا مل ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينا هو يوما على ذلك الحمار إذ مر به أعرابي، فقال: ألست فلانا بن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه الحمار، وقال: اركب هذا، وأعطاه العمامة وقال: اشدد بها رأسك، فقال له بعض أصحابه في ذلك، فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول: " إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يُوَلِّي "
(3)
وإن أباه كان صديقا لعمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه الترمذي، وهو حديث حسن.
(3)
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والإمام أحمد.
قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى - واختلف في بر الجد، فقال أبو بكر الطرطوشي - رحمه الله تعالى -: لم أجد نص العلماء في الأجداد، والذي عندي أنهم لا يبلغون مبلغ الآباء، واستدل بسلب الأبوة عنهم في الحقيقة بقوله سبحانه وتعالى:(أحدهما أو كلاهما) ولو كان حكم الأجداد لقاله بلفظ الجمع، وبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك، أدناك "
(1)
وفي حديث آخر " أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك، فأدناك "
(2)
قال: وفصل صلى الله تعالى عليه وسلم الجواب، ورتب الإخوة بعد الآباء.
(1)
متفق عليه، واللفظ لمسلم.
(2)
رواه النسائي والإمام أحمد، وهو حديث حسن صحيح.
واحتج بقوله سبحانه وتعالى: (كما ربياني صغيرا) والتربية لا تكون إلا للوالدين
…
قال القاضي عياض - رحمه الله تعالى - في الإكمال: والذي عندي خلاف ما ذهب إليه كله، والمعروف من قول مالك - رحمه الله تعالى - ومن وافقه من أهل العلم من أصحابه لزوم بر الأجداد، وتقديمهم، وقربهم من الآباء، وقد روي عن مالك - رحمه الله تعالى - أنه لا يقتص من الجد لابن ابنه، إلا أن يفعل به ما لا شك في قصده قتله كالأب سواء، وكذلك قالوا في الجهاد بغير إذنه لا يجوز كالآباء، وكذلك اختلف في تغليظ الدية عليه في عمد قتله، وفي قطعه في السرقة من مال حفيده، وأما الحديث الذي احتج به من قوله:" أمك وأباك وأخاك ومولاك " فهو حجة عليه، لأنه لما لم يذكر الأجداد وقد ذكر الموالي، دل على أنهم داخلون في عموم الآباء، وحسن ابن عبد السلام - رحمه الله تعالى - قول الطرطوشي، وقال في احتجاج عياض إنه إنما يتم على من يدعي أن الجد لا حظ له من البر، وهذا لم يذهب إليه أحد
…
قال مقيده عفا الله تعالى عنه: وليس هذا بصواب، فعياض إنما اعترض تأخير الجد عن الإخوة، ولم يقل بمساواته للأب، فكلامه في غاية الظهور والله سبحانه وتعالى أعلم
…
قوله: لو فسقا أو كفرا، معناه أن بر الوالدين واجب، وإن كانا فاسقين أو كافرين، وبر الكافر ينقطع بالموت، وقد تقدم الكلام على طاعته في الجهاد، والحمد لله رب العالمين، ونقل ابن ناجي - رحمه الله تعالى - عن بعضهم أن الفاسق من الأبوين يزاد له في الدعاء على الآخر، وهو بين.
قوله: فلتقل لدى الخطاب البيت، معناه أنه يؤمر بالتذلل لهما في الخطاب، وقد جاء عن سعيد بن المسيب - رضي الله تعالى عنهما - أنه فسر القول الكريم المذكور في الآية الكريمة بقوله: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ.
قوله: وعاشرنهما بمعروف، أشار به إلى ما جاء في الآية الكريمة من الأمر بمصاحبتهما في الدنيا معروفا.
قوله: ولا تطعهما بما عليك حظلا، معناه أنه لا يجوز برهما في ما حرم الله سبحانه وتعالى، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" إنما الطاعة في المعروف "
(1)
وقوله: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "
(2)
قال القرافي - رحمه الله تعالى - في الفرق الثالث والعشرين بعد بحوث: إذا تقررت هذه المسائل، وهذه المباحث، ظهر لك الفرق بين قاعدة الواجب للأجانب، والواجب للوالدين، فإن كل ما يجب للأجانب يجب للوالدين، وضابط ما يختص به الوالدان دون الأجانب، هو اجتناب مطلق الأذى كيف كان، إذا لم يكن فيه ضرر على الإبن، ووجوب طاعتهما في ترك النوافل، وتعجيل الفروض الموسعة، وترك فروض الكفاية إذا كان ثم من يقوم بها، وما عدا ذلك لا تجب طاعتهم فيه، وإن ندب إلى طاعتهم وبرهم مطلقا، وكذلك الأجانب يندب برهم مطلقا، غير أن الندب في الأبوين أقوى في غير القرب والنوافل، ولا ندب في طاعة الأجانب في ترك النوافل، بل الكراهة من غير تحريم.
وأما ما فيه ضرر فلا يجب فيه البر، وقد سأل رجل مالكا - رحمهما الله تعالى - له والدة وأخت وزوجة، قال: فكلما رأت لي شيئا، قالت: أعطني هذا لأختك، فأكثرت علي من هذا، فإن منعتها سبتني ودعت علي، فقال له: ما أرى أن تغايظها، وتَخَلَّصْ منها بما قدرت عليه وغيب عنها ما كان لك، قال: أين أخبئه؟ ذلك معي في البيت، قال: أما أنا فلا أرى أن تغايظها، وأن تتخلص من سخطها بما قدرت عليه.
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه الإمام أحمد والحاكم، وهو حديث صحيح.
قوله: وهكذا يجب أن البيت، معناه أنه يجب عليه الاستغفار لهما في حياتهما وبعد موتهما، لقوله سبحانه وتعالى:(وقل رب ارحمهما) والاستغفار بعد الموت خاص بالأبوين المسلمين، فلا يستغفر للكافرين بعد موتهما، لتبين أنهما من أصحاب الجحيم، وأما في حال الحياة فقال الحطاب في حاشيته: قال المهدوي: قال كثير من العلماء لا بأس أن يستغفر المؤمن لأبويه الكافرين، فأما إذا ماتا على الكفر تبين أنهما من أصحاب الجحيم، وقال ابن عطية: الاستغفار للمشرك الحي جائز، إذ يرجى إسلامه.
وقد جاء أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: " اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "
(1)
قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: وقد أجمع العلماء على أن الميت ينتفع بالدعاء له وبالصدقة عليه، واختلف في قراءة القرآن على أربعة أقوال للعلماء، يفصل في الثالث بين أن يكون عند القبر، فينتفع به الميت، وإلا فلا، قال الفاكهاني: وذهب بعض الشافعية - وأظنه أبا المعالي - إلى أن القارئ إذا نوى أول قراءته أن يكون ثواب ما يقرؤه لفلان الميت كان كذلك، وإلا فلا، إذ ليس له أن ينقل ما ثبت ثوابه لغيره
…
وقال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: قال ابن الحاج - رحمه الله تعالى - في المدخل: ومن أراد وصول قراءته بلا خلاف فليجعل ذلك دعاء، بأن يقول: اللهم أوصل ثواب ما أقرؤه إلى فلان.
(1)
متفق عليه.
قال مقيده عفا الله سبحانه وتعالى عنه هذا غير بين، لأنه إن أراد الدعاء بنقل الثواب، فمن لا يرى ذلك مشروعا دون دعاء، يلزم أن لا يرى الدعاء به مشروعا، وغير المشروع غير نافع، ولو صح هذا لجاز أن ينقل له عمل غيره بالدعاء، بأن يقول: اجعل ثواب قراءة زيد لعمرو، فالمعنى في هذا الوجه متواطئ في عمله وعمل غيره، فالمنظور له الدعاء فقط، ولا أظن أنه يمكن أن يختلف في امتناع هذا، وإن أراد الدعاء بأن يعطيه الله سبحانه وتعالى كأجر من قرأ كذا، فهذه مسألة أخرى غير مسألة القراءة، وصحيح أن له أن يدعو له أن يرزقه الله سبحانه وتعالى ثواب ألف ختمة، أو ألف حجة، أو صيام ألف رمضان من غير أن يقرأ هو آية، أو يحج حجة، أو يصوم يوما، لكن الأولى أن يدعو له بالمغفرة، والرضوان، وإكرام النزل، وتوسيع المدخل، والتنقية من الخطايا، ونحو ذلك مما يؤثر الدعاء به للميت، فهو أبين وأيمن، والخير كله في التأسي والله سبحانه وتعالى أعلم.
2081 -
كذا موالاة الذين أسلموا
…
فهي فرض وكذا نصحهم
2082 -
وإنما يؤمن حقا منَ اَحب
…
للمسلمين ما لنفسه استحب
2083 -
ومنَ اَكيد ما من الأمر لزم
…
بلا خلاف بينهم وصل الرحم
2084 -
ومن حقوق مسلم على أخيه
…
سلامه إذا لقيه عليه
2085 -
والعَود إن يمرض وأن يشمتَه
…
وهكذا شهوده جنازتَه
2086 -
وحفظه إياه في المغيب
…
سرا وجهرا وهْو ذو وجوب
قوله: كذا موالاة الذين أسلموا البيت، معناه أن موالات المؤمنين ونصيحتهم واجبة، وقد قال سبحانه وتعالى:(إنما المؤمنون إخوة)(والمؤمنون بعضهم والمؤمنات أولياء بعض) وفي الحديث " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يُسلمه، من كان في حاجة أخيه، كان الله سبحانه وتعالى في حاجته، ومن فرج عن مسلم كُرْبة، فرج الله سبحانه وتعالى عنه بها كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله سبحانه وتعالى يوم القيامة "
(1)
وفي حديث الموطإ " لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله تعالى إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال "
(2)
قال مالك - رحمه الله تعالى -: لا أحسب التدابر إلا الإعراض عن أخيك المسلم، فتدبر عنه بوجهك، وروى أيضا أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال:" تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا، وتذهب الشحناء " وفي حديث الصحيح " مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى "
(3)
وفي حديث الصحيح أيضا " الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم "
(4)
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
متفق عليه، واللفظ لمسلم.
(4)
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والدارمي والإمام أحمد، وترجم به البخاري ..
وشدد الشرع في موالاة الكفار، فقال جل من قائل:(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) وقال جل من قائل: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقية) الآية، وقال جل من قائل:(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) الآية، وقال جل من قائل:(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وفي حديث الصحيح " المرء مع من أحب "
(1)
.
(1)
متفق عليه.
قوله: وإنما يؤمن حقا من احب البيت، يشير به إلى حديث الصحيح " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "
(1)
ولفظ الشيخ قريب من لفظ ابن حبان، وهذا دليل للمسألة السابقة، وحبك لأخيك ما تحب لنفسك يستلزم نصحه، والنصح واجب كفاية، وقد يسقط لمعارضة مصلحة عامة، كما في بيع الحاضر للبادي
…
قوله: ومن أكيد ما من الأمر لزم البيت، معناه أن من الواجبات المؤكدة صلة الرحم، وقد قال جل من قائل:(فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) وفي الصحيح أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الخلق قامت الرحم وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال سبحانه وتعالى:" ألا ترضين أن أصل من وصلكِ، وأقطع من قطعكِ؟ " قالت: بلى، قال:" فذلك لكِ "
(2)
وفيه " من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه "
(3)
وروى الإمام أحمد في مسنده أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: " إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم "
(4)
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
متفق عليه.
(4)
وهو حديث حسن ..
قال عياض - رحمه الله تعالى -: ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة على الجملة، وقطيعتها كبيرة، ولكن الصلة درجات، بعضها أرفع من بعض، أدناها ترك المهاجرة، وصلتها ولو بالسلام، وهذا بحكم القدرة على الصلة، وحاجتها إليها، فمنها ما يتعين ويلزم، ومنها ما يستحب ويرغب فيه، وليس من لم يبلغ أقصا الصلة يسمى قاطعا، ولا من قصر عما ينبغي له ويقدر عليه واصلا، ثم ذكر الخلاف في حد الرحم التي تجب صلتها، وقد حدها بعضهم بالمحرمية مستدلا بتحريم الجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، مخافة المقاطعة، وجواز ذلك بين بنتي العم والخال، ذكره الطرطوشي عن بعض العلماء كما في الفروق، وحدها بعضهم بما يطلق عليه أولوا الأرحام في المواريث، وكلما كانت القرابة أقعد كانت الصلة آكد، كما في حديث " ثم أدناك فأدناك " وجاء في الحديث " إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا، فإن لهم ذمة ورحما "
(1)
قال الزهري - رحمه الله تعالى -: الرحم أن أم إسماعيل - على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - منهم.
(1)
رواه الطبراني والحاكم، وقال: صحيح، على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وروى مسلم والإمام أحمد عن أبي ذر ـ رضي الله تعالى عنه ـ " إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما ـ أو قال: ذمة وصهرا ـ فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لبنة فاخرج منها، قال: فرأيت عبد الرحمان بن شرحبيل بن حسنة، وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة، فخرجت منها ".
قوله: ومن حقوق مسلم الأبيات، أشار به إلى بعض حقوق المسلم على أخيه، فذكر منها السلام، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى، وذكر التشميت عند العطاس، وسيأتي الكلام عليه أيضا إن شاء الله سبحانه وتعالى، وذكر شهود الجنازة، وقد تقدم الكلام عليه، وأنه واجب على الكفاية، ويتعين على الولد، ومنها حفظه بالغيب، قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: بأن لا يسيء به الظن، ولا يتعدى على أمانته، ولا غيرها، من مال، أو حرمة، أو عرض، أو غير ذلك، وفي الحديث " من رد عن عرض أخيه في الغيب رد الله تعالى عن وجهه النار يوم القيامة "
(1)
.
(1)
رواه ـ دون كلمة في الغيب ـ الترمذي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
وحفظه بالعلانية بأن يعامله بما تقتضيه الأخوة، فلا يستخف به، ولا يسخر منه، ولا يخدعه، ولا يخذله، ولا يسلمه، وأن يرفق به ما أمكنه ذلك
…
وذكر منها عيادة المريض، وفي الحديث " إذا عاد الرجل أخاه المسلم، مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح "
(1)
والأصل في عيادة المريض الندب، وتتأكد في حق بعض الناس أكثر من غيره، لما يكون بينه وبين المريض من معان خاصة، كقرابة وتعليم وصداقة، وربما وجبت، وذلك حيث تضمن تركها عقوقا، أو قطع رحم يجب وصلها، ويرجع إلى العرف في المرض الذي يعاد منه، ويختلف الأمر في تكرارها بحسب ما تقتضيه الحال من تطاول المرض وشدته وصلة العائد بالمريض، ولا بد من اختيار الوقت الذي يليق بالمريض أن يعاد فيه وبأهله أن يدخل عليهم فيه، وليقتصد في مكثه عنده بحسب ما تقتضيه الحال، وليسأله عن حاله تأنيسا له من غير تعرض لما يتوقع عدم رغبته في التعرض له، وليوسع عليه، وليدع له بالشفاء، وقد روى الترمذي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال:" للمسلم على المسلم ست بالمعروف، يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويتبع جنازته إذا مات، ويحب له ما يحب لنفسه "
(2)
.
2087 -
وهجره له إذا ما جاوزا
…
ثلاث ليلات فليس جائزا
2088 -
ولكن الهجران يخرج السلام
…
عنه ولا تدع وراءه الكلام
(1)
رواه ابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح، وقوله:" في خرافة " ضبط بكسر الخاء المعجمة وبفتحها، قال الهروي: هو ما يخترف من النخل حين يدرك ثمره، قال أبو بكر بن الأنباري: يشبه رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ ما يحرزه عائد المريض من الثواب بمب يحرزه المخترف من الثمر، انظر حاشية السندي على ابن ماجة.
(2)
وهو حديث صحيح.
2089 -
وهجر ذي البدعة لم ينحظر
…
كذا الذي جهر بالكبائر
2090 -
حيث إلى تأديبه لم يوصَل
…
والوعظ لا يمكن أو لم يقبل
2091 -
وليس ذكر حاله بالممتنع
…
وهكذا ذكرك حال المبتدع
2092 -
كذاك لا غيبة في ما تذكر
…
من وصف من في نكحه تشاور
2093 -
ونحو ذلك كذا التجريح
…
ونحوه فهْو له مبيح
2094 -
واستحسنوا عفوَك عن من قد ظلم
…
ووصْلَ قاطع وإعطا مَن حرم
قوله: وهجره البيت، معناه أنه لا يجوز هجران المسلم أكثر من ثلاث ليال، لحديث الصحيح " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام "
(1)
وفي الصحيح أيضا " تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله سبحانه وتعالى شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا "
(2)
قوله: ولكن الهجران يخرج السلام عنه، معناه أن الهجران يخرجه عنه سلامه عليه، والبادئ منهما أعظم أجرا، قال الباجي - رحمه الله تعالى -: والسلام يخرج من الهجران إذا كان متماديا على إذايته والسبب الذي هجره من أجله، وأما إن كان قد أقلع عن ذلك، فلا يخرج من هجرانه حتى تجوز شهادته عليه، بأن يعود معه إلى ما كان عليه، وهذا معنى قول مالك - رحمه الله تعالى -.
وقال القاضي عياض - رحمه الله تعالى -: مقتضى دليل الخطاب أن الهجرة في الثلاث معفو عنها، وإنما الحرج في ما بعد الثلاث، إذ لا بد للبشر من نفاسة، وسوء خلق، ووجد لأمر يقع بينهم.
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة والإمام مالك والإمام أحمد.
قوله: ولا تدع وراءه الكلام، معناه أنه يستحب أن لا يكف عن كلامه بعد السلام إذا كان السلام مخرجا عن الهجران، وذلك حيث لم يكف عن السبب كما تقدم
…
هذا ومحل ما ذكر من منع الهجران أكثر من ثلاث إذا كان لأمر دنيوي، وأما ما كان لأمر ديني، كالبدعة والفسوق، فواجب لا ينقطع وجوبه إلا بالتوبة، وإلى هذا أشار بقوله: وهجر ذي البدعة البيت، وقوله: حيث إلى تأديبه البيت، معناه أنه إنما يهجره إذا لم يقدر على وعظه، أو قدر عليه ولم يفد، ولم يصل إلى عقوبته، قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: والظاهر لمن قدر على ذلك يلزمه، وليس ذلك إلا لمن بسطت يداه في الأرض، أو كان بمحل لا يلحقه به غيره من الأمراء، ولا يلحقهم منه غير، وإلا فالله سبحانه وتعالى أولى بالعذر، وهل يبلغ بالعقوبة الحد ويتجاوزه إن رآه زجرا، وهو المشهور، أو لا يتجاوز عشرة أسواط، لحديث " لا يتجاوز عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله سبحانه وتعالى "
(1)
وقال به أشهب في جماعة من العلماء والله سبحانه وتعالى أعلم
…
قوله: وليس ذكر حاله بالممتنع الأبيات الثلاثة، معناه أن الفاسق المجاهر بفسقه لا غيبة في ذكره بفسوقه، وقد جاء في الصحيح عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أنها قالت: استأذن رجل على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأنا معه في البيت، فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" بئس ابن العشيرة " ثم أذن له، قالت: فلم أنشَب أن سمعت ضحك رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - معه، فلما خرج الرجل قلت: يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قلتَ فيه ما قلتَ، ثم لم تنشَب أن ضحكت معه، فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره "
(2)
(1)
لم أقف عليه.
(2)
رواه أبو داود والترمذي والإمام مالك والإمام أحمد، وهو حديث صحيح ..
قال القرطبي - رحمه الله تعالى -: فيه من الفقه جواز غيبة المعلن بفسقه ونفاقه، والأمير الجائر، والكافر، وصاحب البدعة، وجواز مداراتهم اتقاء شرهم، لكن ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله سبحانه وتعالى نقله الحطاب في حاشيته.
قوله: وهكذا ذكرك حال المبتدع، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: لأنه إن كان معلنا بها، فهو يحب أن يذكر بها، وإن كان مستترا بها، فواجب أن يذكر بها، ويحفظ الناس من اتباعه عليها.
قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: قالوا وكذا علماء السوء، وظلمة الجور، يجوز ذكر حالهم، لا غيره مما يستترون به، قالوا ويجوز أيضا في التظلم والاستفتاء بقدر الحاجة، وكذا في التعريف الذي لا يمكن المعرفة إلا به، أو تكون الشهرة جارية به، كالأعمش، والأعرج، والأعور، وذي اليدين، وذي الشمالين، ومن يلقب جملة ونحوه، فإن هذا كله جائز، وإن كره صاحبه، وأما ما يوجب مخالطة، كالنكاح، والبيع إلى أجل، أو الشركة ونحوها، فالمشورة فيه تبيح القدر المتعلق بما شوور فيه، فقد شاورت امرأة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في نكاح أبي الجهم ومعاوية وأسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهم - فقال عليه الصلاة والسلام:" أما أبو الجهم فضراب، وأما معاوية فصعلوك، انكحي أسامة "
(1)
وقالت هند بنت الحارث: يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال:" خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "
(2)
ولم ينهها عما ذكرت من شحه، لأنها جاءت مستفتية شاكية متظلمة، فأخذ منه العلماء جواز ذلك بقدره، وقال عليه الصلاة والسلام:" لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته "
(3)
ولا خلاف في جواز ذكر ما يقع به التجريح في الشهادة والرواية، إلى أن قال: وذكر القرافي الخلاف في ذكر حال رجل اطلع عليه رجلان بينهما هل يكون ذلك غيبة أم لا.
قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: وينبغي لأهل الفضل والدين أن يحفظوا ألسنتهم من الخوض في ما لا يعنيهم، ويلتزموا الصمت، فلا يتكلموا من أمور الناس إلا في ما يحتاجون إليه.
(1)
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والإمام مالك والإمام أحمد.
(2)
متفق عليه.
(3)
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح، وذكره البخاري معلقا بلفظ: يذكر.
قوله: واستحسنوا عفوك البيت، معناه أنه يستحب لك أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك، فذلك من أعظم مكارم الأخلاق، وأشقها على النفس، وقد قال جل من قائل:(ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) وقد جاء في شمائل النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه لم يكن ينتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله سبحانه وتعالى فينتقم لله سبحانه وتعالى بها،
(1)
وقد جاء أن الرجل يدرك بحسن خلقه درجة القائم باليل الظامئ بالنهار،
(2)
وجاء في الصحيح أن رجلا قال: يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهُم المَلَّ، ولا يزال معك من الله سبحانه وتعالى ظهير عليهم، ما دمت على ذلك "
(3)
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه أبو داود والترمذي والإمام مالك والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(3)
رواه مسلم والإمام أحمد ..
وربما عرض للانتصار ما يكون به أفضل من العفو، وعلى ذلك تأول أهل العلم قوله سبحانه وتعالى:(والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) قال القرطبي: قال ابن العربي رحمهم الله سبحانه وتعالى: ذكر الله سبحانه وتعالى الانتصار في البغي في معرض المدح، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في موضع المدح، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالتين، إحداهما أن يكون الباغي معلنا بالفجور، وقحا في الجمهور، مؤذيا للصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل، وفي مثله قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم، فتجترئ عليهم الفساق، الثانية أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو هنا أفضل، وفي مثله نزلت (وأن تعفوا أقرب للتقوى) وقوله جل من قائل:(فمن تصدق به فهو كفارة له) وقوله جل من قائل: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم).
2095 -
وفي أحاديث لديهم أربعه
…
أزمَّة الخير أتت مجتمعه
2096 -
حديث حبك للاخوان كما
…
تحب للنفس الذي تقدما
2097 -
والصمت عن ما ليس خيرا واتقا
…
ما ليس يعنيك منَ اَمر مطلقا
2098 -
كذا اتقاء غضب، فالغضب
…
عنه الشرور كلها تسبب
معناه أن هذه الأحاديث الأربعة تضمنت جماع مكارم الأخلاق، وأزمة البر، ومفاتيح الخير، ومغاليق الشر، وهي حديث " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "
(1)
ولا يخفى أن متعلق النهي من خلاف ذلك هو الأمور الاختيارية، وأما ما يقع في القلب مما لا يملك فلا حرج فيه إن شاء الله سبحانه وتعالى إن كرهه ولم يعمل بمقتضاه، وقد جاء في الحديث الشريف " إن الله تبارك وتعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به "
(2)
وجاء في الحديث الشريف عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول:" اللهم هذا فعلي في ما أملك، فلا تلمني في ما تملك ولا أملك "
(3)
وقال جل من قائل سبحانه وتعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) ومما يستعان به على حب أخيك استحضار أعماله الصالحة، والتماس المخارج الحسنة له في ما اشتبه من أمره، وتذكرك لسيئات أعمالك، وما تعلمه من شناعة حالك، وقد جاء في الموطإ عن عيسى ابن مريم - على نبينا وعليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم - أنه قال: لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله سبحانه وتعالى على العافية.
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه واللفظ لمسلم.
(3)
رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد، وإسناد الأخيرين صحيح.
والثاني حديث " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت "
(1)
وحاصله النهي عن فضول الكلام الذي لا خير فيه، فضلا عن ممنوعه، وقد مدح سبحانه وتعالى بالإعراض عن اللغو في غير موضع من كتابه الكريم، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ بلاغا عن عيسى ابن مريم - على نبينا وعليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم - أنه كان يقول: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله سبحانه وتعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله سبحانه وتعالى ولكن لا تعلمون.
وروى عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - بلاغا أنها كانت ترسل إلى بعض أهلها بعد العتمة فتقول: ألا تريحون الكتاب؟ وذكر سيدي زروق عن مالك - رحمهما الله سبحانه وتعالى أنه قال: من عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا في ما يعنيه.
وفي جامع ابن أبي زيد قال مالك: ولم يكونوا يهذرون الكلام هكذا، ومن الناس من يتكلم بكلام شهر في ساعة.
وقال المناوي: العبد في سلامة ما سكت، فإذا تكلم عرف ما عنده بالنطق، فيعرض للخطر أو الظفر، وقال ابن عبد البر في كافيه: ومن شيم العاقل والعالم أن يكون عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه، متحرزا من إخوانه، فلم يؤذ الناس قديما إلا معارفهم، والمغرور من اغتر بمدحهم، والجاهل من صدقهم على خلاف ما يعرف من نفسه.
ولا ينافي هذا أن يروح العبد نفسه في بعض الأوقات بذكر بعض الطرائف من غير تطويل، وقد كان الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - يتحدثون عند النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بأمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم
(2)
.
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه مسلم والإمام أحمد.
الثالث حديث " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "
(1)
وهو أعم مما قبله، فما قبله خاص بالكلام، وهذا عام فيه وفي أعمال الجوارح وفكرة القلب، وذلك أن الإعراض عن الفضول أوفر للوقت، وأعون على انتهاز الفرصة، وأجمع للقوى، وأبعد عن الشرور، وقد قالوا من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه، فالاشتغال بالفضول مضيعة للوقت، محرقة للجهد
الرابع قوله صلى الله تعالى عليه وسلم للرجل الذي قال له: علمني كلمات أعيش بهن، ولا تكثر علي فأنسى:" لا تغضب "
(2)
وذلك أن الغضب مثار البغي، ومنشأ الخروج عن الرشد، وتنكب نهج العقلاء، ولذلك جاء في الحديث الشريف " ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب "
(3)
فالغضب مذموم للمعنى الذي لأجله حرم السكر.
2099 -
وسمعك الغناء والملاهي
…
على تعمد من المناهي
2100 -
وهكذا أيضا سماع الباطل
…
جميعِه فليس بالمحلل
2101 -
كذا استماع صوت من ليست تحل
…
تلذذا به فهو منحظل
(1)
رواه الترمذي وابن ماجة والإمام مالك والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(2)
رواه البخاري والترمذي والإمام مالك والإمام أحمد.
(3)
متفق عليه.
قوله: وسمعك الغناء البيت، معناه أن سماع الأغاني منهي عنه، أما ما كان منها بآلة فلا تفصيل فيه، وأما ما كان دونها فلا يمنع لذاته، وإنما يمنع لما يعرض له، ولا ينبغي الإكثار منه على الإطلاق، قال القرطبي - رحمه الله تعالى -: الغناء المعتاد عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون، الذي يحرك الساكن، ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا يختلف في تحريمه، لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق، فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح كالعرس والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، وحدو أنجشة،
(1)
وسلمة بن الأكوع،
(2)
(1)
في حديث أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ في الصحيحين وغيرهما، أن رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كان في بعض أسفاره، وغلام أسود يقال له أَنْجَشَة يحدو، فقال له رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ:" ارفُق ـ يا أنجشة ـ ويحك بالقوارير ".
(2)
لعله يقصد عامر بن الأكوع، وهو عم سلمة بن الأكوع ـ رضي الله تعالى عنهما ـ ففي الصحيحين وغيرهما عن سلمة بن الأكوع، أنهم خرجوا مع رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ إلى خيبر، فقال رجل من القوم: أيا عامر لو أسمعتنا من هنيهاتك، فنزل يحدو بهم، يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدنا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اقتفينا
…
وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا
…
إنا إذا صيح بنا أتينا
فقال رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ " من هذا السائق؟ " فقالوا: عامر، فقال:" يرحمه الله تعالى " قال رجل من القوم وجبت يا رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وجاء في الصحيحين وغيرهما أنه ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كان ينشدها يوم الخندق وهو ينقل التراب.
فأما ما ابتدعه الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة، من الشبابات، والطار، والمعازف، والأوتار، فحرام، ابن العربي: فأما طبل الحرب فلا حرج فيه، لأنه يقيم النفوس، ويرهب العدو، وفي اليراعة تردد، والدف مباح، الجوهري: وربما سموا قصبة الراعي التي يزمر بها هيرعة ويراعة، قال القشيري: ضرب بين يدي النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يوم دخل المدينة، فهم أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - بالزجر، فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح "
(1)
فكن يضربن، ويقلن: نحن بنات النجار، حبذا محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - من جار
(2)
.
(1)
الذي وقفت عليه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال يوم لعب الحبشة: " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة " رواه الإمام أحمد بإسناد حسن، وأنه قال لأبي بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وقد دخل عليه يوم عيد، عند عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، وليستا بمغنيتين، فقال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ: " دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد " متفق عليه.
(2)
روى ابن ماجة أن النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ مر ببعض المدينة فإذا هو بجوار يضربن بدفهن، ويتغنين ويقلن: نحن جوار من بني النجَّار، يا حبذا محمد من جار فقال النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ:" الله يعلم إني لأحبكن " وهو حديث صحيح.
وقال ابن أبي زيد - رحمه الله تعالى - في جامعه: وسئل مالك - رحمه الله تعالى - عن ضرب الكبر، وعن المزمار ينالك سماعه، وتجد له لذة، في طريق أو مجلس، قال: فليقم إذا التذ لذلك، إلا أن يكون جلس لحاجة، أو لا يقدر أن يقوم، وأما الطريق فليرجع، أو يتقدم، أو يتأخر، قيل: فالصنيع فيه اللهو؟ قال: لا يصلح لذي الهيئة أن يحضر اللعب، قيل: فاللهو فيه البوق؟ قال: إذا كان كثيرا مشهورا فلا أحبه، قال: ولا بأس بالدف في العرس، قال أصبغ: وهو الغربال المكشوف من ناحية، وفي الكبر في العرس بعض الرخصة.
قوله: وهكذا أيضا سماع الباطل البيت، معناه أن سماع الباطل منهي عنه، وقد ذكروا أن حكم المستمع في سماعه، حكم المتكلم في كلامه، فإذا كان الكلام ممنوعا، كالغيبة والنميمة ونحوهما كان الاستماع ممنوعا، وإذا كان الكلام بالفضول الذي لا حرمة فيه، فالإعراض عنه مطلوب في الجملة، لا سيما في حق أهل العلم والفضل، وقد ذكر القاضي عياض - رحمه الله تعالى - أن مالكا - رحمه الله تعالى - كان لا يراه أحد من أهله ولا من أصدقائه إلا متعمما، لابسا ثيابه، لا يضحك، ولا يتكلم في ما لا يعنيه، ويقول: لا يكون العالم عالما حتى يكون كذلك، وحتى يحتاط لنفسه بما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم، نقله المواق في سنن المهتدين.
قوله: كذا استماع صوت من ليست تحل البيت، معناه أن الاستماع لصوت الأجنبية تلذذا به، واستحسانا له، غير جائز، ويكره الاستماع إلى ما لا تدعو الحاجة إليه منه مطلقا، إلا أن تكون متجالة، وما يقع في عبارة بعض أهل المذهب من أن صوتها عورة، لا يراد به أن سماعه على كل حال كرؤية بدنها مكشوفا، بل المراد به أنه يدعو إلى الفتنة بها، كما يقال المرأة عورة، وقد قال بعض الشعراء:
والاذن تعشق قبل العين أحيانا
ولا يخفى أن ذلك الأمر ليس متواطئا فيهن، فشأن صوتها شأن رؤية الوجه واليدين، ورؤية بدنها من فوق الثياب بلا تأمل وإمعان، ورؤية الأمرد، وبالجملة فالاستماع إلى الشابة من غير ضرورة مرجوح مطلقا، والكف عنه مطلوب، ويتأكد ذلك بحسب قوة المظنة حتى يبلغ الوجوب أحيانا، وكذلك يكون العكس أيضا بحسب بعد ذلك المعنى ومسيس الحاجة، وقد قيل إن نساء من قريش قاتلن في اليرموك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
2102 -
ومنعوا الترجيع بالقرآن
…
كمثل ما ترجّع الأغاني
2103 -
فكن له عن مثل ذا مجلا
…
فهْو كلام الله ليس هزلا
2104 -
وإنما يقرأ بالوقار
…
وبالسكينة والاعتبار
2105 -
مع التدبر وما يُستيقن
…
بأنه عند الإله حسن
معناه أن قراءة القرآن الكريم بالألحان المرجعة ترجيع الأغاني غير جائزة، فهي إخراج له عن العبادة إلى جهة اللهو والمباهات، وما هو لذلك بأهل، وإنما يقرأ بالهيبة، والوقار، والسكينة، والتدبر، والخشوع، والتذلل، قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: وأما سماع القرآن باللحون المرجعة كترجيع الغناء، فهو من أقبح ما يسمع، وأبشع ما يسمع، لا سيما إذا كان يؤدي لتغيير نظم القرآن الكريم، أو تضييع حروفه، وإبدال بعضها، أو إسقاطه، أو يكون على هيئة تنفي الخشوع، أو تدعو لنقيصة، فإن ذلك كله ممنوع، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: فالواجب أن ينزه القرآن الكريم عن ذلك، ولا يقرأ إلا على الوجه الذي يخشع القلب، ويزيد في الإيمان، ويشوق في ما عند الله سبحانه وتعالى، وقد اختلف في معنى قوله عليه الصلاة والسلام:" ليس منا من لم يتغن بالقرآن "
(1)
فقيل من لم يحسن صوته به، وقيل من لم يستغن به عن الغناء، وقيل من لم يستغن به عن الناس، وقيل غير ذلك، إلى أن قال: وقال أبو موسى - رضي الله تعالى عنه - لما قال عليه الصلاة والسلام: " لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داوود "
(2)
على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا، وبالجملة فتحسين الصوت بالقرآن الكريم مطلوب، والخروج إلى حد يشبه الغناء مذموم، وما يؤدي إلى الخشوع من غير إخلال مندوب إليه.
(1)
رواه البخاري وأبو داود والدارمي والإمام أحمد.
(2)
متفق عليه.
وقال ابن أبي زيد - رحمه الله تعالى - في جامعه: قال مالك - رحمه الله تعالى -: لا تعجبني القراءة بالألحان، ولا أحبه في رمضان ولا في غيره، لأنه يشبه الغناء، ويضحك بالقرآن، ويقال فلان أقرأ من فلان، وبلغني أن الجواري يعلمن ذلك كما يعلمن الغناء، أترى هذا من القراءة التي كان يقرأ بها رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -
…
وقال السيوطي - رحمه الله تعالى - في الإتقان: قال في زوائد الروضة: والصحيح أن الإفراط على الوجه المذكور - يعني الزيادة في المد، وإشباع الحركات، حتى تتولد عنها أمداد - حرام يفسق به القارئ، ويأثم المستمع، لأنه عدل به عن نهجه القويم، قال: وهذا مراد الشافعي - رحمه الله تعالى - بالكراهة، قال السيوطي - رحمه الله تعالى -: وفيه حديث " اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتهم، وإياكم ولحون أهل الكتابين وأهل الفسق، فإنه سيجيء أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب من يعجبهم شأنهم
(1)
.
2106 -
والامر بالمعروف معْ تغيير
…
مناكر من واجب الأمور
2107 -
على الذي بسط جل أمْرَهْ
…
وكلِّ من له عليه قدره
2108 -
باليد فاللسانِ فالجَنانِ
…
وذا الأخير أضعف الإيمان
(1)
رواه الطبراني في الأوسط، وهو منكر.
معناه أن من الفرائض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومراتب ذلك ثلاثة أن يغيره بيده، كالسلطان، والأمير، والقاضي، وأعوانهم، فإن لم يقدر على ذلك فبلسانه، فإن لم يقدر على ذلك فبقلبه، وذلك لحديث الصحيح " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "
(1)
(1)
رواه مسلم والنسائي والإمام أحمد ..
وقال جل من قائل: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) واشترط العلماء لذلك ثلاثة شروط، أحدها علم الآمر والناهي الحكم في ما يأمر به وما ينهى عنه، فالجاهل بالحكم لا يحل له النهي ولا الأمر على ما يراه، فذلك افتراء على الله سبحانه وتعالى وهو من أعظم المناكر، كما قال سبحانه وتعالى:(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) الثاني ألا يؤدي إنكاره إلى ما هو أعظم مما أنكر، اتفاقا إذا كان ذلك في غير الناهي، كأن ينهاه عن الشرب فيقتل نفسا أخرى، وعلى المعول إذا كان في الناهي، بأن علم أنه إذا نهاه عن الشرب قتله، الثالث ظن الإفادة أو تحققها، وهذا شرط في الوجوب، وأما الشرطان قبله فهما مشترطان في الجواز، والمعروف ما أمر الشرع به، والمنكر ما نهى عنه اتفاقا، فإن اختلف فيه فإن كان فاعله يعتقد الحرمة أنكر عليه، وإن كان يعتقد الإباحة لم ينكر عليه، إلا أن يكون مدرك الإباحة ضعيفا جدا، بحيث ينقض حكم الحاكم به، ولا يشترط في ما علم نهي الشرع عنه ولم يختلف فيه اختلافا معتبرا أن يكون الفاعل عاصيا، قال القرافي في الفروق: قال بعض العلماء لا يشترط في النهي عن المنكر أن يكون ملابسه عاصيا، بل يشترط أن يكون ملابسا لمفسدة واجبة الدفع، أو تاركا لمصلحة واجبة الحصول، وله أمثلة أحدها أمر الجاهل بمعروف لا يعرف وجوبه، ونهيه عن منكر لا يعرف تحريمه، كنهي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أممهم أول بعثتهم، وثانيها قتال البغاة وهم على تأويل، وثالثها ضرب الصبيان على ملابسة الفواحش، ورابعها قتل الصبيان والمجانين إذا صالوا على الدماء والأبضاع ولم يمكن دفعهم إلا بقتلهم إلخ
…
قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: إذا كثرت المناكر في الطرقات من حمل الخمر فيها، ومشي الرجال مع النساء الشواب يحادثوهن، وما أشبه ذلك من المناكر الظاهرة، وجب على الإمام تغييرها جهده، بأن يولي من يجعل
إليه تفقد ذلك، والقيام به، قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا العقوبة كلهم "
(1)
ويستحب لمن دعاه الإمام إلى ذلك أن يجيبه إذا علم أن به قوة عليه، لما في ذلك من التعاون على فعل الخير، قال الله عز وجل:(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) ومن مر به شيء من ذلك أو اعترضه في طريقه وجب عليه أن ينكره على الشرائط الثلاثة المذكورة، فإن لم يقدر على ذلك بيده ولا بلسانه أنكره بقلبه.
وسئل مالك - رحمه الله تعالى - هل يأمر الرجل أبويه وينهاهما؟ فقال: يفعل ذلك مع خفض جناح الذل لهما، ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون عدلا، وفي جامع ابن أبي زيد: قال مالك: قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: ومن هذا الذي ليس فيه شيء؟!
(1)
رواه الإمام أحمد بلفظ " إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله تعالى الخاصة والعامة " قال في فتح الباري: أخرجه أحمد بسند حسن، وهو عند أبي داود من حديث العرس بن عميرة، وهو أخو عدي، وله شواهد من حديث حذيفة وجرير وغيرهما عند أحمد وغيره.
قال ابن ناجي: ويشترط في المنكر ظهوره في الوجود من غير تجسس، ولا يسرق سماعا، ولا يستنشق رائحة يتوصل بذلك إلى المنكر، ولا يبحث عما أخفى في يده، أو ثوبه، أو دكانه، أو داره، فإن السعي في ذلك حرام، لقوله سبحانه وتعالى:(ولا تجسسوا) وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أنه أحس من رجل بالخنا فتسور عليه، فرآه على منكر، فصاح عليه، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن عصيت الله سبحانه وتعالى في واحدة، فقد عصيته أنت في ثلاثة، فقال: وما هن؟ قال: تجسست، وقد قال سبحانه وتعالى:(ولا تجسسوا) فقد نهى عنه، وأتيت البيوت من ظهورها، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بإتيانها من أبوابها، ودخلت غير بيتك من غير استئذان وتسليم، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بذلك، فقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: صدقت، فاستغفر لنا، فقال: غفر الله تعالى لنا ولك يا أمير المؤمنين.
2109 -
وأخلصنْ بكل قول أو عمل
…
برٍّ تحتما لوجه الله جل
2110 -
فما به يُراد غيره معه
…
فهو مردود على من صنعه
2111 -
وهو شِرْك أصغر والتوبة
…
من الذنوب كلها واجبة
2212 -
من غير إصرار وبالإقامة
…
قد فسروه مع الاستدامة
2213 -
وواجب في التوب رد ظلم
…
يمكنه معْ تركه للحِرم
2114 -
وهكذا نية أن لا يرجعا
…
بقية العمر لما قد وقعا
قوله: وأخلصن إلى قوله: وهو شرك أصغر، معناه أنه يجب على المكلف أن يخلص لله سبحانه وتعالى في عمل البر كله، قولا كان أو فعلا، والإخلاص هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ويقابله الرياء، ويسمى بالشرك الأصغر، وقد قال سبحانه وتعالى:(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) وقال جل من قائل سبحانه وتعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) وفي الصحيح " يقول الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه "
(1)
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله تعالى ورسوله فهجرته إلى الله تعالى ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " وجاء عن الإمام أحمد أنه قال في هذا الحديث إنه الخناق، وفي جامع ابن أبي زيد - رحمه الله تعالى -: قال بعض العلماء: الرياء أن تعمل عملا تحب أن يعرفك به الناس، ويثنون به عليك، فإن قبل قلبك هذا فهو رياء، ويقال: من خاف الرياء سلم منه، ويقال: من البر أن لا تترك البر مخافة الرياء، ومن العجب أن ترى لنفسك الفضل على الناس، وتمقتهم ولا تمقت نفسك، قال بعض السلف: إذا كنت في الصلاة فقال لك الشيطان: إنك تراءي، فزدها طولا، فإنه كذوب، قال مالك - رحمه الله تعالى -: وإخفاء النوافل كلها في الصلاة وغيرها أحسن، وقيل لمالك - رحمه الله تعالى - في المصلي لله سبحانه وتعالى يقع في نفسه أنه يحب أن يعلم به، ويحب أن يلقى في طريق المسجد، قال: إن كان أول ذلك لله سبحانه وتعالى فلا بأس، وربما كان ذلك من الشيطان ليمنعه ذلك، وإن المرء يحب أن يكون صالحا.
(1)
رواه مسلم وابن ماجة والإمام أحمد، واللفظ لمسلم.
قوله: والتوبة من الذنوب كلها واجبة، معناه أن التوبة فرض من كل ذنب على وجه الفور، وهي عبارة عن الندم على حصول الذنب من جهة أنه معصية، فالندم عليه من جهة سببيته لمرض، أو تلف مال، أو وقوع معرة، غير توبة، وإنما التوبة الندم على حصول الذنب من جهة أنه مخالفة لأمر الخالق سبحانه وتعالى، وعلى قدر ندمه ورجوعه يكون رجاء قبول توبته، كما يشير إليه حديث " تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم "
(1)
وحديث " تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم "
(2)
وحديث " تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له "
(3)
(1)
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والدارمي والإمام أحمد.
(2)
رواه مسلم.
(3)
رواه مسلم وأبو داود والدارمي والإمام أحمد ..
وهذا الحديث الشريف صريح في أن المكس أشد من الزنى بكثير، لأن شأن المبالغة تباعد طرفيها، ولا تضر مع الندم شهوة نفس لا يقدر على دفعها، ولا تصح التوبة مع الإصرار، وهو الإقامة على المعصية مع نية الرجوع إليها، وقيل إن الإصرار هو مجرد نية الرجوع إلى الذنب، وإلى شرط عدم الإصرار أشار بقوله: من غير إصرار البيت، وذلك لقوله جل من قائل:(ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)
…
قوله: وواجب في التوب رد ظلم يمكنه، معناه أنه يشترط في صحة التوبة إذا تعلق الذنب بترك واجب يمكن تداركه، تدارك ذلك الحق، سواء كان حقا لله سبحانه وتعالى أو لآدمي، قال القرطبي - رحمه الله تعالى - في تفسيره: قال العلماء: الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو إما أن يكون حقا لله سبحانه وتعالى أو للآدميين، فإن كان حقا لله سبحانه وتعالى كترك صلاة، فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها، وهكذا إن كان ترك صوم أو تفريطا في الزكاة، وإن كان قتل نفس بغير حق فأن يمكن من القصاص إن كان عليه وكان مطلوبا به، وإن كان قذفا يوجب الحد، فيبذل ظهره للجلد إن كان مطلوبا به، فإن عفي عنه كفاه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص، وكذلك إن عفي عنه في القتل بمال، فعليه أن يؤديه إن كان واجدا له، قال الله سبحانه وتعالى:(فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) وإن كان ذلك حدا من حدود الله سبحانه وتعالى كائنا ما كان، فإنه إذا تاب إلى الله سبحانه وتعالى بالندم الصحيح سقط عنه، إلى أن قال: فإن كان الذنب من مظالم العباد، فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه، والخروج عنه، عينا كان أو غيره، إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه، وإن كان أضر بواحد من المسلمين وذلك الواحد لا يشعر به، أو لا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له، فإذا
عفا عنه فقد سقط الذنب عنه، وإن أرسل من يسأل ذلك له فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه - عرفه بعينه أو لم يعرفه - فذلك صحيح، وإن أساء رجل إلى رجل بأن فزّعه بغير حق، أو غمه، أو لطمه، أو صفعه بغير حق، أو ضربه بسوط فآلمه، ثم جاءه مستعفيا نادما على ما كان منه، عازما على أن لا يعود، فلم يزل يتذلل له حتى طابت نفسه فعفا عنه سقط عنه ذلك الذنب، وهكذا إن كان شانه بشتم لا حد فيه.
تنبيه
في حاشية الرهوني: قال في رسم الوصايا من سماع القرينين من كتاب الوصايا الأول ما نصه: قال: وسمعته يسأل عمن كان يلي يتامى فكان لا يتحفظ في أموالهم، ويتناول منها، فلما بلغوا سألهم أن يحللوه ما بين كذا إلى كذا، فحللوه على ما قال، ثم قالوا له بعد زمان: لست في حل، فقال: أنا أرى في مثل هذا أن يحرز الذي يرى أنه أصاب من أموالهم ويحتاط فيه حتى لا يشك، أو يأتي رجلا فيخبره بالمال وأمره، وما كان منه فيه، وما تناوله، حتى يحرزه له ويحتاط فيه حتى لا يشك إن لم يحسن هو حزره ثم يخبرهم بالذي عليه في ذلك من التباعة فيحللونه، فإنهم يقولون بعد ظننا أنه يسير، فأرى أن يحرز ذلك باحتياط، ثم يتحللهم قال محمد بن رشد - رحمه الله تعالى -: هذا كما قال ان التحليل لا يلزمهم إذا لم يعلمهم بمقدار ما لهم عليه من التباعة في ما تناوله من أموالهم، فيلزم أن يعلمهم بمقدار ذلك حتى يحللوه منه بنفوس طيبة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
وأما ما اعترض به الرهوني من صحة هبة المجهول، فلا وجه له، فالمقصود اشتراط كون الهبة عن طيب نفس، وهذا معنى مجمع عليه بين أهل العلم، فلو علم طيب أنفسهم بالتحليل ولو كان الحق قنطارا، لم يلزم الحزر المذكور، كما هو بين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
2115 -
واستغفر الله علا وخفه معْ
…
رجائه وشكر ما بك صنع
2116 -
بفعلك الفرض عليك كلَّه
…
وترك ما كره جل فعلَه
2117 -
مع التقرب بكل سهل
…
عليك من كل صنوف النفل
2118 -
واقض الذي من الامور الواجبه
…
فرطت فيه قبل ذاك قاطبه
2119 -
وفي قبوله إلى الله ارغب
…
كذاك من تضييعه قبلُ تُب
قوله: واستغفر الله علا، معناه أنه يجب الاستغفار من الذنوب كلها، وفي الحديث الشريف " يا أيها الناس توبوا إلى الله سبحانه وتعالى فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة "
(1)
وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: إن كنا لنعد لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في المجلس الواحد مائة مرة " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم "
(2)
وفي الحديث أن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم فى أجسادهم، فقال تبارك وتعالى:" وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني "
(3)
وفي الحديث القدسي " يا عبادي إنكم تخطؤون باليل والنهار، وأنا اغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم "
(4)
وقال جل من قائل: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون).
(1)
رواه مسلم والإمام أحمد.
(2)
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(3)
رواه الإمام أحمد، وهو حديث حسن.
(4)
رواه مسلم.
قوله: وخفه البيت، أشار به إلى وجوب الخوف والرجاء والشكر، أما الخوف والرجاء فهما أمران متلازمان، فالخوف المحض يأس، وقد قال سبحانه وتعالى:(لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) والرجاء المجرد أمن من مكر الله سبحانه وتعالى، وقد قال جل من قائل:(فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) وبالخوف يكون الكف عن المناهي، وبالرجاء يكون القيام بالأوامر، وأما الشكر فهو بتذكر نعمه سبحانه وتعالى التي لا يدخل أدنى طرف منها تحت حصر، ولو كنت من أعظم الناس بلاء، ولا يمكن حصول أيسرها إلا بمحض فضله ومنه، فيحمده سبحانه وتعالى عليها، ويعترف بعجزه عن بلوغ شكر يسيرها، ولقد أحسن من قال:
إذا كان شكري نعمة الله نعمةً
…
عليَّ له في مثلها يجب الشكرُ
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله
…
وإن طالت الأيام واتسع العمْرُ
ويتقرب إليه بأداء ما افترض عليه، وترك ما نهاه عنه، مع التقرب بما تيسر من أنواع القرب، وقد جاء في الحديث الشريف عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يقوم من اليل حتى تتفطر قدماه، فقلت: لم تصنع هذا يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وقد غفر الله سبحانه وتعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: " أفلا أكون عبدا شكورا "
(1)
وقد جاء في الأثر عن السلف أن نوحا - على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - كان يحمد الله سبحانه وتعالى على طعامه، وشرابه، ولباسه، وشأنه كله، فلهذا سمي عبدا شكورا، وجاء في الحديث القدسي " ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه "
(2)
.
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه البخاري والإمام أحمد.
قوله: واقض الذي من الأمور الواجبه البيت، معناه أنه يؤدي شكر الله سبحانه وتعالى على نعمائه، بما وجب عليه من المبادرة إلى استدراك ما فرط فيه من الواجبات، صلاة، أو صوما، أو زكاة، أو صدقة فطر، أو حجا، أو كفارة، أو نذرا، أو غير ذلك، وكذلك حقوق العباد، كما تقدم ذكره في الكلام على التوبة، وإذا شك في قدر شيء من ذلك احتاط، حتى تطمئن نفسه أن ذمته قد برئت، وأنه أدى ما عليه، ولا يعمل على شك لا تعضده قرينة، فذلك وسوسة يجب الإعراض عنها.
قوله: وفي قبوله البيت، معناه أنه يجب عليه مع ذلك أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى مما حصل منه من التفريط في ما ذكر، وليلجأ إلى الله سبحانه وتعالى في قبول تداركه لذلك.
2120 -
ولازم اللجَأَ لله علا
…
حيث انقيادك عليك ثقلا
2121 -
فإنه ولي ذا والقادر
…
على الذي من الأمور يعسر
2122 -
لا تيأسنْ لسوء ما منك صدر
…
بل الجأنْ له تعالى فهْو بر
2123 -
ولازم الفكرَ وذكرَ الموتِ مع
…
ما من عظائم وراءه يقع
2124 -
واذكر إساءتَك معْ الامهال
…
وبادر الأجل بالأعمال
قوله: ولازم اللجأ الأبيات الثلاثة، معناه إذا ثقل عليك انقياد نفسك، وشق عليك الخروج بها من وحل الشهوات، فلازم اللجأ والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، مستيقنا أنه مالك ذلك، والقادر عليه، وأنه لا سهل إلا ما جعله سهلا، فحرٍ بمدمن القرع للأبواب أن يلج، ولا يؤيسك ما تعلمه من سيء عملك، فهو عفو يحب العفو، ورحمته وسعت كل شيء، وقال سبحانه وتعالى:(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) وفي الصحيح أن رجلا قتل تسعا وتسعين نفسا، ثم ندم وسأل عابدا من عباد بني إسرائيل هل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله وأكمل به مائة، ثم سأل عالما من علمائهم هل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله سبحانه وتعالى فيها، فقصدها فأتاه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمر الله سبحانه وتعالى أن يقيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أقرب فهو منها، فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة، وذكر أنه نآ بصدره عند الموت، وأن الله تبارك وتعالى أمر البلدة الخيرة أن تقترب، وأمر الأخرى أن تتباعد،
(1)
وفي الصحيح أيضا " لولا أنكم تذنبون لخلق الله عز وجل قوما يذنبون فيغفر لهم " قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: ومن أحسن ما يذكر هنا قول ابن عطاء الله تعالى - رحمه الله تعالى -: من استغرب أن ينقذه الله تعالى من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز قدرة إلهه، وكان الله على كل شيء مقتدرا.
(1)
متفق عليه.
قوله: ولازم الفكر البيت، أشار به إلى ما ذكر الشيخ من أن التفكر في أمر الله سبحانه وتعالى هو مفتاح العبادة، فالتفكر في تغير أمور الدنيا من النعيم إلى البؤس، والصحة إلى المرض، والقوة إلى الضعف، والشبيبة إلى الهرم، والغنى إلى الفقر، والعز إلى الذل والهوان، وما بعد ذلك كله من معالجة الموت وسكراته، والقبر وهوله، وما ينتظر العصاة من النكال والخزي، والعذاب الأليم، وما أعد الله سبحانه وتعالى بفضله لعباده الصالحين، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ما يبعث على الهرب من المناهي والسيئات، والجد في امتثال الأوامر والتقرب بالطاعات، ولقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول:
…
حتى متى أنت في لهو وفي لعب
…
والموت نحوك يهوي فاغرا فاه
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
…
رب امرئ حتفه في ما تمناه
وقد جاء في الحديث الشريف الأمر بالإكثار من ذكر هاذم اللذات،
(1)
وذلك أنك إن ذكرته وأنت في ضيق من العيش، وسعه عليك، فرضيت بما أنت فيه، وإن ذكرته وأنت في سعة ضيقها عليك، ومنعك من الركون إليها.
قوله: واذكر إساءتك البيت، معناه أنه مما ينبغي أن تتفكر فيه أيضا إمهال الله سبحانه وتعالى لك، مع ما أنت فيه من عظائم الجرائم ليلك ونهارك، مما تستحق بأيسره من النقمة ما لا قبل لأحد به، ولتنتهز الفرصة في ما بقي من عمرك، مسابقا الموت، بالإقبال على التوبة، والاستكثار من القرب، وقد كنت قلت:
وبادرنَّ بتدارك الاِسا
…
ءة، وحاذرنْ لعل وعسى
لا تجعل الحاضرَ في تفويت
…
فُرَصه كسالف الوقوت
وكن على فوات ذاك السالف
…
من فُرَصٍ لك شديدَ الاسف
ذاكرا الذنب وما من الفتورْ
…
عليك فوَّت قناطير الاجور
فمن على تفريطه لم يأسف
…
يكن بحاضر له كالسالف
وهكذا يكون في ما ياتي
…
بعدُ كمثل حاضر الأوقات
فلا يزال راكنا إلى الدعه
…
وكانت الأوقات منه ضائعه
(1)
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
ولا يزال مشتهى لمشتهى
…
آخر يرميه بدون منتهى
وقد ذكر ابن حبان - رحمه الله تعالى - في كتابه روضة العقلاء أن أبا العتاهية دخل على هارون الرشيد أمير المؤمنين - رحمه الله تعالى - فلما رآه قال: أبو العتاهية؟ قال: نعم، قال: الذي يقول الشعر، قال: الذي يقول الشعر، قال: عظني بأبيات شعر، وأوجز، فأنشده:
لا تأمن الموت في طرف وفي نفس
…
ولو تمنعت بالحجاب والحرس
واعلم بأن سهام الموت قاصدة
…
لكل مُدَّرِع منا ومُتَّرِس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكَها
…
إن السفينة لا تجري على اليبس
قال: فخر مغشيا عليه، قال ابن حبان - رحمه الله تعالى -: العاقل لا ينسى ذكر شيء هو مرتقب له، ومنتظر وقوعه من قدم إلى قدم، ومن لحظة إلى شزرة، فكم من مكرم في أهله، معظم في قومه، مبجل في جيرته، لا يخاف الضيق في المعيشة، ولا الضنك في المصيبة، إذ ورد عليه مذلل الملوك، وقاهر الجبابرة، وقاطع الطغاة، فألقاه صريعا بين الأحبة وجيرانه، مفارقا لأهل بيته وإخوانه، لا يملكون له نفعا، ولا يستطيعون عنه دفعا، فكم من أمة قد أبادها الموت، وبلدة قد عطلها، وذات بعل قد أرملها، وذي أب أيتمه، وذي إخوة قد أفرده، فالعاقل لا يغتر بحالة نهايتها تؤدي إلى ما قلنا، ولا يركن إلى عيش مغبته ما ذكرنا، ولا ينسى حالة لا محالة هو مواقعها، ويوما لا شك يأتيه، إذ الموت طالب حثيث، لا يعجزه المقيم، ولا ينفلت منه الهارب، وأنشد لسليمان بن يزيد العدوي:
ألم تر أن المرء يُودِي شبابه
…
وأن المنايا للرجال تَشَعَّب
فمن ذائق كأسا من الموت مُرة
…
وآخر أخرى مثلها يترقب
لها منهمُ زاد حثيث وسائق
…
وكل بكأس الموت يوما سيشرب
وما وارث إلا سيورث ماله
…
ولا سالب إلا وشيكا سيسلب
ولا آلف إلا سيتبع إلفَه
…
ولا نعمة إلا تبيد وتذهب
وما من معافى ـ والمصائب جمة ـ
…
يعاوره العصران إلا سيعطب
أرى الناس أضيافا أقاموا بغربة
…
تقلبهم أيامها وتقلب