المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار - عون المتين على نظم رسالة القرويين

[محمد بن محمد بن المصطفى اليعقوبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشرح

- ‌مقدمة النظم

- ‌باب ما يجب منه الوضوء والغسل

- ‌فصل في الحيض والنفاس

- ‌باب طهارة الماء والبقعة وما يجزئ من اللباس في الصلاة

- ‌أماكن تمنع الصلاة فيها

- ‌باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

- ‌باب في الغسل

- ‌باب التيمم

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب في أوقات الصلاة وأسمائها

- ‌باب في الأذان والإقامة

- ‌باب في الإمامة وحكم الإمام والمأموم

- ‌باب جامع في الصلاة

- ‌باب في سجود القرآن

- ‌باب في صلاة السفر

- ‌باب في صلاة الجمعة

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌باب في صلاة العيدين والتكبير أيام منى

- ‌باب في صلاة الكسوف

- ‌باب في صلاة الاستسقاء

- ‌باب ما يفعل بالمحتضر وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه

- ‌باب في الصلاة على الجنائز والدعاء للميت

- ‌باب في الصيام

- ‌باب في الاعتكاف

- ‌باب في زكاة العين والحرث والماشية وما يخرج من المعدن

- ‌باب في زكاة الماشية

- ‌باب في زكاة الفطر

- ‌باب في الحج والعمرة

- ‌باب في الضحايا والذبائح والعقيقة والصيد والختان وما يحرم من الأطعمة والأشربة

- ‌باب في الجهاد

- ‌باب في الأيمان والنذور

- ‌باب في النكاح والطلاق والرجعة والظهار والإيلاء واللعان والخلع والرضاع

- ‌باب في العدة والنفقة والاستبراء

- ‌باب في البيوع وما شاكل البيوع

- ‌باب في الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء

- ‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب

- ‌باب في أحكام الدماء والحدود

- ‌باب في الأقضية والشهادات

- ‌باب في الفرائض

- ‌باب جمل من الفرائض والسنن الواجبة والرغائب

- ‌باب في الفطرة والختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك

- ‌باب في الطعام والشراب

- ‌باب في السلام والاستئذان والتناجي والقراءة والدعاء وذكر الله عز وجل والقول في السفر

- ‌باب في التعالج وذكر الرقى والطيرة والنجوم والخصاء والوسم والكلاب والرفق بالمملوك

- ‌باب في الرؤيا والتثاؤب والعطاس واللعب بالنرد وغيرها والسبق بالخيل والرمي وغير ذلك

الفصل: ‌باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

‌باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

81 -

ووصْل الاستنجا بأعمال الوضو

ليس من الأمر الذي يفترض

82 -

وهو من باب انحتام الطهر

من النجاسات جميعا يجري

83 -

ومثله بذاك الاستجمار

فما له لقصد افتقار

الاستنجاء - قال القاضي في التنبيهات ـ: غسل موضع الحدث بالماء، وأصله: إزالة النجو، وهو الحدث، وسمي نجوا لاستتار من يفعله بنجوة من الأرض عن أعين الناس، وهو: ما ارتفع من الأرض، وقد يقال أيضا في إزالة ذلك بالأحجار، وجاء في الحديث، وقيل سمي استنجاء من قولهم: نَجَوْتَ العودَ إذا قشرته، وقيل من النجا، وهو الخلاص من الشيء، وإذا زال عنه فقد تخلص منه، وسمي استجمارا من الجمار وهي الحجارة الصغار التي يزال بها، وقيل من الاستجمار بالبخور والحجر، لأنه يطيب الموضع كما يطيبه البخور نقله أبو الحسن في الشفاء.

وقد أشار في هذه الأبيات إلى أن الاستنجاء والاستجمار من الأخبثين لا يطلب اتصالهما بالوضوء، لا وجوبا ولا ندبا، فالخطاب بذلك خطاب مستقل عن الخطاب بالوضوء، فالخطاب به من قبيل الخطاب بإزالة النجاسة التي تقدم ذكر الخلاف فيها هل تجب وجوب الفرائض أو وجوب السنن المؤكدة، وأما الوضوء فلا خلاف بين المسلمين في وجوبه وجوب الفرائض، وأنه شرط في صحة الصلاة، والآية الكريمة والأحاديث الصحيحة الصريحة المتضافرة مانعة من الخلاف في ذلك.

وقد أشار الشيخ -رحمه الله تعالى -بهذا إلى رد ما تعتقده العامة من أن الاستنجاء من الوضوء.

قوله: فما له لقصد افتقار، هو مفرع على كونه من قبيل إزالة النجاسة، فتطهير النجاسة لا يتوقف على نية، لأنها من باب التروك، والتروك يخرج المكلف من عهدة الخطاب فيها مع عدم العلم أصلا، وقد حكى جماعة الإجماع على عدم اشتراط النية في طهارة الخبث، منهم ابن القصار وابن الصلاح من الشافعية كما في المواهب، قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -ونقل القرافي عن التلخيص شرط النية في إزالتها لا أعرفه، بل نقل ابن القطان الإجماع على لغوها.

ص: 75

وهذا من الشيخ -رحمه الله تعالى -صريح في إيجاب النية في الوضوء، بل وفي طهارة الحدث كلها، وسيتكلم على ذلك أيضا آخر الفصل - إن شاء الله تعالى -وقد حكى ابن رشد وابن حارث -رحمهما الله تعالى -الاتفاق على ذلك، وقال المازري: على المشهور، قاله ابن عرفة في مختصره.

وقال ابن يونس في جامعه: قال الله سبحانه وتعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (والإخلاص هو إخلاص القصد، والوضوء والغسل من الدين، فيجب أن يخلصهما لله سبحانه وتعالى، إلى أن قال: وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: " الأعمال بالنيات "

(1)

فعم جميع الأعمال، والطهارة عمل، ثم قال:" وإنما لكل امرئ ما نوى " فدل على أن ما لم ينوه لا يكون له، وقال عليه الصلاة والسلام: " الوضوء شطر الإيمان

(2)

" اتفقنا على أن الإيمان لا يصح إلا بنية، فكذلك شطره، ولا فرق بين الوضوء وبين الصلاة والصيام الذين اتفقنا على أنهما لا يصحان إلا بنية، لأن جميع ذلك عبادة واجبة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى فاستويا، ولأنهما طهارة عن حدث كالتيمم انتهى.

(1)

" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " جزء من حديث متفق عليه.

(2)

رواه مسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة والإمام أحمد واللفظ للترمذي.

ص: 76

والنية في الوضوء - قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب في التلقين ـ: هي قصده به ما لزمه، والذي يلزمه أن ينوي بوضوئه رفع الحدث، أو استباحة فعل معين يتضمن رفع الحدث، ومعنى رفع الحدث: استباحة كل فعل كان الحدث مانعا منه، ومعنى تعيين ما يتضمن ذلك هو أن ينوي به استباحة فعل بعينه لا يستباح إلا بعد التطهر من الحدث، وذلك كالصلوات كلها على اختلاف أنواعها من الصلوات المعهودة، وصلاة الكسوف والجنازة وسجود القرآن، على اختلاف أحكامها من فرض على الأعيان أو على كفاية وسنة ونفل، وكالطواف بالبيت، كل هذا لا يجزئ إلا بعد التطهر من الحدث، فقصده استباحة واحده كقصده استباحة جميعه انتهى.

قال ابن عرفة: ابن بشير: أو امتثال الأمر، والثلاثة متلازمة، ولذا لو أثبت أحدها نافيا الآخر فسدت انتهى.

ولهذا المعنى الذي أشار إليه ابن بشير قالوا ما يتوقف على النية يثاب عليه مطلقا، وما لا يتوقف عليها لا يثاب عليه إلا بنية الامتثال، وليس معناه أن شيئا من الأعمال يثاب عليه دون نية الامتثال، كما توهمه بعض شروح مراقي السعود، بل لا ثواب إلا مع قصد الامتثال، لكن نية العبادة تستلزم الامتثال، لأن الامتثال هو الإتيان بالفعل لأجل أمر الشرع به، وهذا المعنى لا تحقق للطاعة بدونه، ولهذا المعنى استدل الأئمة بالآية الكريمة) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) على نية رفع الحدث ونية الصلاة المعينة، كما تقدم في كلام ابن يونس - رحمه الله تعالى - وهذا بين، والله سبحانه وتعالى أعلم

84 -

ووصْفُه غسْلك بعد الغسل

لكفك اليسرى محلَّ البول

85 -

وبعد ذلك امسحنْ بمَدَر

أو غيرٍ أو يدٍ محلَّ الاخَر

86 -

ولْتغسل اليدَ ورا حكٍّ على

الارض وصُبَّ الما هنا مواصِلا

87 -

مستنجيا مسترخيا يسيرا

ولْتَعرُكَنَّ حين ذا كثيرا

ص: 77

المَدَر: جمع مَدَرَة، مثل قصبة وقصب، وهو التراب المتلبد، قال الأزهري: المدر قطع الطين، وبعضهم يقول: الطين العلك الذي لا يخالطه رمل قاله في المصباح، ويطلق المدر على القرى والمدن، والاستنجاء تقدم الكلام عليه، والاسترخاء: استفعال من أرخى الشيء صيره رِخوا وهو خلاف المشتد المنقبض، ولتعركن: أمر من العرك وهو الدلك، وعبارة الشيخ: وصفة الاستنجاء أن يبدأ بعد غسل يديه، فيغسل مخرج البول ثم يمسح ما في المخرج من الأذى بمدر أو غيره أو بيده ثم يحكها بالأرض ويغسلها، ثم يستنجي بالماء، ويواصل صبه، ويسترخي قليلا، ويجيد عرك ذلك بيده انتهى.

وقد رويت اليد في قوله: بعد غسل يده، بالتثنية والإفراد، والإفراد أولى، كما قال سيدي زروق وأبو الحسن ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وقد نقل عنه ابن يونس في جامعه نحوا من كلامه هنا وفيه تثنية اليد، ونقل عنه ابن عرفة في مختصره نحوا منه أيضا، وفيه إفراد اليد، وقد استشكل الشيوخ التثنية، قال ابن عبد السلام: إذ لا موجب لغسل اليد اليمنى، ولو قال قائل: إن مراده الذي يريد أن يستنجي من آنية مفتوحة يغترف منها بيمناه في يسراه، فيؤمر بغسل يديه قبل أن يبدأ في الاغتراف، لم يكن بعيدا، وحمله على هذا المعنى يجعل الغسل في كلامه على حقيقته التي هي الغسل بدلك، لا البل.

قوله: وصفة الاستنجاء أي على الوجه الأفضل، وإلا فهذه صفته مع الاستجمار، قوله: ثم يحكها بالأرض، الظاهر أنه عائد للصورة التي أشار إليها بقوله: أو بيده، ولا يرجع لصورة الاستجمار بالمدر ونحوه، إذ لا موجب فيها لغسل اليد، وليس هذا هو الغسل المذكور في قول سيدي خليل: وغسلها بكتراب بعده، كما هو ظاهر بعض الشيوخ، لأن ذلك بعد الاستنجاء وهذا قبله.

ص: 78

قوله: ويغسلها، يحتمل رجوعه لهذه الصورة خاصة على حقيقته، ولما قبلها بمعنى أنه يبلها، قوله: ويسترخي قليلا، إنما أمر بذلك لئلا تنقبض غضون المخرج على بعض الخبث، قال ابن ناجي: ولم أزل أسمع من غير واحد أن الشيخ لم يسبقه أحد إلى التنبيه على الاسترخاء انتهى.

وظاهر الصفة التي ذكر الشيخ -رحمه الله تعالى -الاقتصار في البول على الاستنجاء، ووجهه خفة البول، وكفاية المرة الواحدة من إفاضة الماء عليه، وقد اقتصر على هذه الصفة ابن يونس في جامعه، وابن عرفة في مختصره -رحمهما الله تعالى -وفسره سيدي زروق -رحمه الله تعالى - بما يقتضي جمع الاستجمار والاستنجاء أيضا في البول.

88 -

لكن بلا غسل بواطنَ ولا

تستنج من ريحٍ، فذاك استُثقلا

89 -

وأجزأتْ وفقا في الاستجمار

ثلاثةٌ أنقتْ من الأحجار

90 -

والماء بالتفضيل ذو جداره

لكونه أبلغ في الطهاره

بواطن: جمع باطن، وهو خلاف الظاهر، واستثقل فلان الأمر: كرهه ولم يرض به، والإجزاء: الإغناء والكفاية، والإنقاء: التنظيف، والجدارة كالسحابة: مصدر جدر بالشيء إذا كان خليقا به وأهلا له، والبيت الأول فيه مسألتان الأولى أن المستنجي لا يؤمر بغسل باطن المخرجين، بل ينهى عن ذلك، لما فيه من الغلو وخشية أن يضر به ذلك، وتثنية المخرج باعتبار المرأة، فتغسل الثيب ما يظهر من فرجها عند جلوسها للبول كما يغسل اللوح، وتغسل البكر ما دون العُذْرة.

الثانية كراهة الاستنجاء من الريح لما فيه من الغلو، فالريح ليس بنجس، ولو طلب الاستنجاء منه لطلب غسل الثوب من ملاقاته، ولا قائل به.

ص: 79

قوله: وأجزأت وفقا

البيت، فيه مسائل الأولى جواز الاقتصار على الاستجمار وهذا أمر مجمع عليه عند عدم الماء، وأما مع وجوده فقال ابن حبيب: لا يجوز، وتأوله الباجي على الاستحباب، قال: وإلا فهو خلاف الإجماع، نقله سيدي زروق -رحمه الله تعالى -وهو أيضا خلاف الأحاديث الصحيحة، والاستجمار إنما يجوز في الغائط وبول الذكر خاصة، وذلك ما عبر عنه الجلاب في التفريع بقوله: السفرة والبسرة، وقال: وما قارب المخرج مما لا بد منه ولا انفكاك عنه فحكمه في العفو عندي عن غسله حكم المخرجين، وقال ابن عبد الحكم خلافه انتهى.

ويستثنى من جواز الاستجمار في الغائط من به علة يبرز المخرج لأجلها، كباسور، فلا بد في حقه من الاستنجاء على ما يظهر، إذ لا يحصل الإنقاء له بغير الماء، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الثانية ما يقع به الاستجمار، قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى ـ: ضبطه المازري بكل منق، طاهر، غير مطعوم، ولا ذي حرمة، فأخرج العظم، والزجاج، والنجس، والطعام، ولو للجن، وحائط المسجد.

وزاد عياض منفصل، جامد، غير ذي شرف، ولا منجس غيره، فأخرج اليد، والرَّطب، والحجر المبتل، والجدار، ولو لمرحاض انتهى.

وقوله ـ ولو للجن، يعني العظم لما في الحديث الصحيح من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال للجن:" لكم كل عظم ذكر اسم الله تعالى عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم، قال صلى الله تعالى عليه وسلم: " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم "

(1)

ويفهم منه النهي عن الاستنجاء بما يطعمه الآدميون، وما يعلفون به دوابهم، ويفهم منه النهي عن تنجيس هذه الأشياء بالبول عليها مثلا، أو إلقاء نجاسة عليها، والنهي عما يمنع الانتفاع بها مطلقا والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

رواه مسلم والترمذي والإمام أحمد وفي لفظ الإمام أحمد " وكل بعرة أو روثة " بزيادة الروثة.

ص: 80

وأفضل ما يستجمر به ما كان من قبيل الصعيد لأنه طهور، وذهب داوود وأصبغ من أصحابنا إلى منع الاستجمار بما سواه والجمهور على جوازه لظواهر الأحاديث كحديث البخاري " ولا تأتني بعظم ولا روث " وغيره من الأحاديث التي وقع فيها النهي عن أشياء معينة، فلو تعينت الحجارة مثلا لنهى عن غير الحجارة ولم يسم شيئا.

الثالثة طلب العدد في الاستجمار قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -وتستحب ثلاثة أحجار، وفي إجزاء ما أنقى دونها نقلا المازري عن المذهب وابن شعبان مع أبي الفرج، إلى أن قال: اللخمي: إن أنقى بأربع أو ست طلب الوتر انتهى.

ونقل في التوضيح عن ابن هارون أنه قال: والذي سمعت قديما في المذاكرات أنه يطلب الوتر إلى السبع، فإن لم ينق بها يطلب إلا الإنقاء في ما زاد، من غير مراعاة وتر، قياسا على غسل الإناء من ولوغ الكلب.

والوجه في ندب الإيتار حديث الصحيح " ومن استجمر فليوتر "

(1)

ووجه عدم وجوب الثلاث والوتر حديث الصحيح أيضا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أتي بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين ورمى الروثة، وقال:" هذه رِكْس "

(2)

ووجه استحباب الثلاثة حديث " أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار"

(3)

.

الرابعة الإنقاء وهو أمر متفق على طلبه، لأنه المعنى الذي شرع له الاستجمار، وقد مر صلى الله تعالى عليه وسلم بقبرين فقال:" إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول ".

قوله: والماء بالتفضيل

البيت، يعني به أن من أراد أن يقتصر على إحدى الطهارتين فالاستنجاء أفضل، لأنه يزيل العين والأثر، ويذهب الشك، وقد صح في الحديث أنه التطهر الذي مدح القرآن الكريم به أهل قباء.

(1)

متفق عليه.

(2)

رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.

(3)

رواه الإمام مالك في الموطإ.

ص: 81

هذا ولا بد قبل إزالة الخبث عن ظاهر المخرج من الاستبراء، قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى ـ: الجلاب: إخراج ما بالمحلين من أذى واجب مستحق، وروي بالنفض والسلت الخفيفين باليسرى، وسمع ابن القاسم: ليس القيام والقعود وكثرة السلت بصواب، اللخمي: من عادته احتباسه فإذا قام نزل منه، وجب أن يقوم ثم يقعد، فإن أبى نقض وضوءه ما نزل منه بعده، مالك: ربيعة أسرع امرئ وضوءا، وأقله لبثا في البول، وابن هرمز يطيلهما، ويقول: مبتلى، لا تقتدوا بي انتهى.

قال في التاج: وسئل ابن رشد عن الرجل يخرج من بيت الماء وقد استنجى بالماء ثم توضأ، فيكون في الصلاة أو سائرا إليها فيجد نقطة هابطة، فيفتش عليها فتارة يجدها، وتارة لا يجدها، فأجاب: لا شيء عليه إذا استنكحه ذلك، ودين الله تعالى يسر. وسئل ربيعة عن الرجل يمسح ذكره من البول ثم يتوضأ فيجد البلل، فقال: لا بأس به، قد بلغ محنته، وأدى فريضته.

وسئل سليمان بن يسار عن البلل يجده، قال: انضح ما تحت ثوبك بالماء والْه عنه، قال القاسم بن محمد: إذا استبرأت وفرغت فارشش بالماء، قال ابن المسيب: وقل: هو الماء، وكذلك أيضا هو سلس المذي، قال عمر -رضي الله تعالى عنه ـ: إني لأجده في الصلاة على فخذي ينحدر كتحدر اللؤلؤ، فما أنصرف حتى أقضي صلاتي انتهى.

91 -

وغسلك اليدين في الوضوء منْ

قبل دخولها بالانية سُنْ

92 -

كذا التمضمض والاستنشاق قد

سنت والاستنثار مثلَها يُعَدْ

93 -

كمسح الاذنين، وسائر الوضو

غير الذي ذكرته مفترض

ص: 82

التمضمض: مصدر تمضمض، قال ابن عبد السلام: المضمضة قال ابن العربي: هي بضادين غير مشالتين معلومة، وفي اشتقاقها وجهان، قيل من مَضَني الدهر: عركني، فالمضمضة جعلك الماء في فيك وتحريكك إياه بلسانك من شدق إلى شدق، وقيل من تمضمض النوم في العين، قال ابن العربي: وأما المصمصة -بالصاد غير المعجمة ـ فأقل من المضمضة، قال أبو عبيد في الغريب: فرق ما بين المضمضة والمصمصة، كفرق ما بين القبضة والقبصة، لأن القضة أبلغ وأشد إتعابا.

وقال في الاستنشاق: جذبك الماء بخيشومك، من قولك: نَشَق يَنشِق إذا شم، وقال ابن عبد السلام في الاستنثار: طرح الماء من الأنف بعد استنشاقه، وقال ابن قتيبة مأخوذ من النثرة، وهي الأنف، نقله في شفاء الغليل.

وقد أشار بهذه الأبيات إلى أن أعمال الوضوء - غسلا ومسحا - على الصفة المعهودة والآتي ذكرها واجبة الأصل ما عدا خمسة أشياء، فهي سنن، الأول غسل اليدين قبل إدخالهما في الآنية، وما ذكره في ذلك من الاستنان هو المشهور، وقيل إنه مستحب كما في التوضيح، وبذلك عبر الجلاب في التفريع، ونصه: قال مالك يستحب لمن استيقظ من نومه غسل يديه قبل أن يدخلهما في إنائه، وكذلك كل منتقض الطهارة انتهى. قال سيدي زروق: وتأوله ابن عبد السلام بالسنة لأنها عبارة العراقيين عن السنة، وقد اختلف في الأمر بغسلهما هل هو تعبد أو تنظيف، قال ابن الحاجب: وفي كونه للعبادة أو للنظافة قولان لابن القاسم وأشهب، وعليهما من أحدث في أضعافه.

قال خليل: وعلى العبادة يغسلهما في أضعاف وضوئه ولو كان نظيف اليدين، ويحتاج إلى نية، ويغسلهما مفترقتين، وعلى النظافة خلافه في الجميع، هكذا قالوا، وفيه بحث على التنظيف، وذلك لأنه لِمَ لا يجوز أن يسن لنظيف اليد الغسل، ولو قلنا إنه تنظيف كما في غسل الجمعة، فإنه شرع أولا للنظافة مع أنا نأمر به من كان نظيف الجسد فانظر ما الفرق انتهى.

ص: 83

والظاهر أن الفرق أن من جعل غسلهما للنظافة، لا يرى غسلهما قربة بذاته، فهو عنده بمثابة الاستنجاء، فكما لا يؤمر به من لم يبل، كذلك لا يؤمر نظيف اليدين بغسلهما، وقد روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما -أنه وصف وضوء النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم - فابتدأ بالمضمضة، وأما غسل الجمعة فهو قربة في نفسه، وهو وإن قلنا إنه غير تعبدي، إلا أن تعليله بالنظافة ظني لا محقق، والمعلل بالمظنة لا يتخلف والله سبحانه وتعالى أعلم.

ووجه المازري -رحمه الله تعالى -في شرح التلقين الأمر بغسلهما مفترقتين بأن ذلك هو صفة التعبد في غسل الأعضاء قال ألا ترى أنه لا يشرع في غسل عضو حتى يستكمل غسل ما قبله، وإلى هذا أشار بعض أصحابنا في صفة غسلهما وهو ظاهر حديث ابن زيد في صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام أنه غسل يديه مرتين مرتين

(1)

وإفراد كل واحدة بالذكر يدل على إفرادها بالغسل انتهى.

وقال ابن شاس في جواهره: وقد جاء في لفظ الحديث أيضا ما يقتضي الخلاف في ذلك وهو قوله: غسل يديه مرتين، وروي في بعض طرقه: مرتين مرتين انتهى.

وقال ابن عرفة: وفي استحباب غسلهما مفترقتين أو مجتمعتين نقلا ابن زرقون عن مالك وابن القاسم فذكرهما المارزي تخريجا على التعبد أو النظافة قصور انتهى.

وأما مقدار غسلهما فقال المازري: قد أشار بعض أصحابنا إلى غسلهما مرتين أخذا بحديث ابن زيد المتقدم، قال المازري: وأما على الحديث الآخر فالمختار ثلاثا، لقوله:" فليغسلهما ثلاثا "

(2)

ولأنه القدر الذي تتعلق به الفضيلة في سائر أعضاء الوضوء المغسولة انتهى.

(1)

الحديث متفق على أصله والرواية المذكورة ثابتة في الموطإ وسنن النسائي.

(2)

لم أقف عليه بلفظ الأمر، وهو مذكور في صفة وضوء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من حديث ابن زيد وغيره في الصحيحين وغيرهما.

ص: 84

الثاني والثالث المضمضة والاستنشاق وما ذكره من سنيتهما هو المشهور، وحكى ابن بشير في شرح التفريع قولا بكونهما فضيلتين، وجعل المازري في شرح التلقين ذلك اختلافا في عبارة، ومن أهل العلم من قال بوجوبهما لشمول الوجه لهما، ووجه القول بعدم دخولهما في الوجه، أنه لو أريد به ما يعمهما لكان حقه في التكرير أن يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه قبل أن يتمضمض ويستنشق ثانية، ثم يتمضمض ويستنشق، ثم يغسل وجهه، ثم يتمضمض ويستنشق ثالثة، ثم يغسل وجهه ثالثة، فدل فعله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهما مستقلان عن الوجه والله سبحانه وتعالى أعلم.

ومن أهل العلم من قال بوجوب الاستنشاق دون المضمضة كما ذكره المازري في شرح التلقين.

وقال ابن شاس في جواهره: في صفة المضمضة وصفتها أن يأخذ الماء بفيه، فيخضخضه ثم يمجه، قال أبو الحسن اللخمي: وإن أدخل أصبعه ودلك بها أسنانه فحسن، وقال في الاستنشاق وصفته: أن يجتذب الماء بخياشيمه ويجعل إبهامه وسبابته على أنفه ثم ينثر بالنفس ويبالغ في الاستنشاق ما لم يكن صائما انتهى.

وفي بعض شروح خليل أن المبالغة مكروهة للصائم أيضا في المضمضة، فينهى عن تعميم أرجاء فمه، ولم أقف عليه في كلام المتقدمين الذين يتعين المصير إلى قولهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

والرابع الاستنثار وقد سقط من أكثر النسخ كما قال أبو الحسن، وقد اختلف في عده سنة مستقلة عن الاستنشاق، وقد وقع في بعض الأحاديث ما ظاهره إطلاق الاستنثار على الاستنشاق، قال ابن عرفة في مختصره: عياض: الاستنشاق والاستنثار عندنا سنتان، وعدهما بعض شيوخنا سنة واحدة، وقال ابن يونس في جامعه في صفته: قال مالك في العتبية: والاستنثار أن يجعل يده على أنفه ثم يستنثر، وقال ابن حبيب في شرح غريب الموطإ: الاستنشاق جذبه الماء بنفسه إلى خياشيمه، والاستنثار نثر ذلك الماء بنفَسِه إلى خارج انتهى.

وفي الحديث " من توضأ فليستنثر "

(1)

(1)

متفق عليه.

ص: 85

الخامس مسح الأذنين وما ذكره من سنية مسحهما هو المشهور على ما للباجي وابن يونس - رحمهما الله تعالى - وغير واحد، ووجهه ما تقدم في المضمضة، وما في حديث ابن زيد - رضى الله تعالى عنه - من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي أخذ لرأسه،

(1)

وذلك شأن العضوين، وذهب ابن مسلمة والابهري وأصحابه إلى الفرض، وجعله ابن رشد المنصوص لمالك - كأنه يعني قول المدونة: والأذنان من الرأس - وجعله هو الصواب، وقال: يشهد بصحته الحديث " إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه، إلى قوله: فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه "

(2)

واختاره اللخمي لأن الصحابة الذين رووا وضوءه صلى الله تعالى عليه وسلم اقتصروا على الرأس، ولم يذكروا الأذنين فاقتضى ذلك أنهم فهموا دخولهما في الرأس نقله الرهوني.

(1)

رواه البيهقي وقال إسناده صحيح، وحسنه النووي، وجعله ابن حجر خلاف المحفوظ.

(2)

رواه الإمام في الموطإ والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.

ص: 86

ونقل عن ابن العربي - رحمه الله تعالى - أنه قال: قد روى وضوء النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - جماعة لم أجد من ذكر الأذنين فيها إلا يسير من الصحابة منهم عبد الله بن زيد قال رأيت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - توضأ فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي أخذ لرأسه ومنهم عبد الله بن عباس - رضي الله تعالى عنهما - روى أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - مسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما بإبهاميه، صححه الترمذي ومنهم الربيع بنت معوذ قالت: رأيت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - توضأ ومسح رأسه ما أقبل منه وأدبر ومسح صدغيه وأذنيه مرة واحدة صححه الترمذي ومنهم عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - علم الوضوء لمن سأله بأن توضأ له ثم مسح برأسه وأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه ظاهرهما.

(1)

94 -

ويبدأ الوضوء بالبسملة

على خلاف جاء عن أجلة

95 -

وجعْلُ الانية في الوضو على

يمينه أولى له تناولا

96 -

وثلثنْ غسلَ يديك أولا

وفي التمضمض كذلك افعلا

97 -

بغرفة أو غرفات، والسواك

ندب، ولو بأصبع أحرى أراك

98 -

واستنشقنْ واستنثرنَّ أيضا

ثلاث مرات فذاك الارضى

99 -

والنقص عن ذلك ليس في الوضو

مؤثرا، وهكذا التمضمض

البسملة من بسمل إذا قال: بسم الله، قال الزَّبِيدي: هو من الأفعال المنحوتة، أي: المركبة من كلمتين، كحمدل، وحوقل، وحسبل، وغيرها، وهو كثير في كلام المصنف، إلا أنه قيل إن بسمل لغة مولدة لم تسمع من العرب الفصحاء، وقد أثبتها كثير من أئمة اللغة، كابن السكيت والمطرزي، ووردت في قول عمر بن أبي ربيعة:

لقد بسملتْ ليلى غداة لقِيتُها

فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل

(1)

رواه أبو داوود وهو حديث حسن صحيح.

ص: 87

وأجلة: جمع جليل، وهو عظيم القدر، والآنية: جمع إناء، وتجمع الآنية على أوان، والإناء: الوعاء، والسواك قال النووي: بكسر السين، وهو استعمال عود أو نحوه في الأسنان لإزالة الوسخ، وهو من ساك إذا دلك نقله في شفاء الغليل.

والأراك قال في المصباح: شجر من الحَمْض يستاك بقُضبانه، الواحدة أراكة، ويقال هي شجرة طويلة ناعمة كثيرة الورق والأغصان، خوارة العود، ولها ثمر في عناقيد، يملأ العنقود الكف، والأراك: موضع بعرفة من ناحية الشام انتهى.

وقال الزَّبِيدي: قال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى ـ: هو أفضل ما استيك بفروعه، وأطيب ما رعته الماشية رائحة لبن، وقال أبو زياد: تتخذ هذه المساويك من الفروع والعروق، وأجوده عند الناس العروق، الواحدة أراكة، قال ورد الجعدي:

تخيرتُ من نعمانَ عودَ أراكة

لهند، ولكن من يبلغه هندا

وقد جاء في الحديث أن عبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنه -كان يجني سواكا من الأراك وكان دقيق الساقين فجعلت الريح تكفؤه فضحك القوم منه، فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم ـ:" مم تضحكون؟ " فقالوا: يا نبي الله تعالى من دقة ساقيه، فقال -صلى الله تعالى عليه وسلم ـ:" والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد "

(1)

(1)

رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.

ص: 88

أشار بالبيت الأول إلى الاختلاف في استحباب الابتداء بالبسملة، قال ابن الحاجب - رحمه الله تعالى ـ: الفضائل التسمية، وروي الإباحة، والإنكار، قال ابن ناجي: وكل هذه الأقوال عن مالك، وجعل الاستحباب هو المشهور وأما حديث " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه

(1)

" فهو محمول عند أهل العلم على النية، كما قال ابن حبيب في الواضحة وغيره، قال في التوضيح: استشكل بعضهم تصور الإباحة، لأن الذكر راجح الفعل، وأجيب بأن مراد من أباح إنما هو اقتران هذا الذكر بأول هذه العبادة الخاصة، لا حصول الذكر من حيث هو ذكر، وصيغة رواية الإنكار: أهو يذبح؟!

ما علمت أحدا يفعل ذلك انتهى

وهي رواية علي بن زياد كما في الجواهر.

وانظر الجواب الذي ذكره سيدي خليل - رحمه الله تعالى -هل يخلص من الإشكال، فإن المراد أنه يفعل ذلك على قصد أنه قربة بذلك الموضع، فإما أن يثبت كون ذلك سببا فيكون إتيانه بها قربة، أو لا فيكون بدعة، كالأذكار التي تقال عند كل عضو على ما يظهر والله سبحانه وتعالى أعلم.

ونقل سيدي زروق عن ابن العربي -رحمهما الله تعالى -أنه قال: نكتة الوضوء عبادة لم يشرع في أولها ذكر وفي أثنائها، وإنما يلزم فيها القصد بها لوجه الله تعالى العظيم، وهي النية، وقد رويت أذكار تقال في أثنائها ولم تصح، ولا شيء في الباب يعول عليه إلا حديث عمر -رضي الله تعالى عنه -المتقدم، قال: وقد روى أبو جعفر الأبهري عن مالك أنه استحب ذلك من تسمية الله سبحانه وتعالى عند الوضوء، وروى الواقدي أنه مخير، قال: والذي أراه تركها.

ويعني بحديث عمر -رضي الله تعالى عنه -حديث التشهد عند الانتهاء الآتي إن شاء الله سبحانه وتعالى.

(1)

رواه أبو داوود والترمذي وابن ماجة والدارمي والإما أحمد ن وهو حديث حسن.

ص: 89

وأشار بالبيت الثاني إلى أن جعل المتوضئ الإناء على جهة يمينه أمكن له وأيسر في تناول الماء، وظاهر الشيخ أنه ليس بمستحب، وصرح باستحبابه ابن يونس في جامعه، وابن رشد في مقدماته، ومحل ذلك الإناء الواسع الذي يغترف منه باليد، قال عياض -رحمه الله تعالى ـ اختيار أهل العلم ما ضاق عن إدخال اليد فيه وضع على اليسار، نقله ابن عرفة في مختصره، والوجه في ذلك كله ما هو معروف من حبه صلى الله تعالى عليه وسلم التيمن في طهوره وفي شأنه كله

(1)

.

وأشار بقوله: وثلثن غسل يديك أولا، إلى أن غسل اليدين يطلب تكريره ثلاثا، وقد تقدم الكلام على ذلك قريبا عن المازري، قوله: وفي التمضمض كذلك افعلا، إلى أنه يطلب التثليث في المضمضة، وكذلك في الاستنشاق، كما سيذكره في البيت الآتي، كسائر مغسولات الوضوء، قوله: بغرفة أو غرفات، أشار به إلى أنه في التمضمض إن شاء تمضمض ثلاثا من غرفة واحدة، وإن شاء فعل ذلك بثلاث غرفات، وكذلك أيضا الاستنشاق، وإن شاء فعلهما معا بغرفة واحدة، بأن يتمضمض منها ثلاثا متوالية، ويستنشق منها ثلاثا أيضا، وإن شاء فعلهما بثلاث، يتمضمض من الأولى ويستنشق، ثم يفعل مثل ذلك بالثانية، ثم كذلك بالثالثة، الأمر في ذلك واسع، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى ـ: الشيخ: روى ابن القاسم وابن وهب وابن نافع وعلي: لا بأس بهما في غرفة واحدة، ورووا إلا عليا إن مضمض بغرفة واستنشق بأخرى فواسع، ابن القاسم: قيل له بثلاث فأبى أن يحد فيه انتهى.

وقد اختلف في الأولى من ذلك، فمنهم من اختار أن يتمضمض ثلاثا بثلاث، ثم يستنشق ثلاثا بثلاث، قال المازري في شرح التلقين: لأنهما عضوان متميزان، فيميز كل واحد منهما بالغسل عن صاحبه، ويكرر فيه من العدد ما يكرر في كل عضو انتهى.

(1)

كما في حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ المتفق عليه.

ص: 90

ومنهم من اختار أن يتمضمض ثلاثا ويستنشق ثلاثا من غرفة واحدة، قال المازري: لأنهما عنده كعضو واحد فجمعا في الغسل معا، واقتصر على غرفة واحدة فيهما لورود الخبر بها انتهى.

والظاهر أن مراده أن يتمضمض مرة ويستنشق مرة، ثم يفعل مثل ذلك مرتين، وذلك لقوله: لأنهما عنده كعضو واحد، ثم قال: ومن الناس من ذهب إلى أن يجمعا معا، ولكن بثلاث غرفات، لأنهما عنده كعضو واحد كما قدمنا، ولكن من حكم العضو الواحد أن يتكرر فيه أخذ الماء، ولورود الخبر بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم تمضمض واستنشق، بثلاث غرفات انتهى

وهذه الطريقة الثالثة اقتصر ابن رشد عليها في بيان الأفضل، ونصه: الاختيار أن يأخذ غرفة يمضمض بها ويستنشق، ثم يأخذ أخرى يمضمض بها ويستنشق، ثم غرفة ثالثة يمضمض بها ويستنشق، على ظاهر الحديث،

(1)

وإن شاء مضمض ثلاثا بغرفة واحدة أو بثلاث غرفات، ثم استنشق ثلاثا بغرفة واحدة أو بثلاث غرفات، الأمر في ذلك واسع، واتباع ظاهر الحديث أولى نقله في المواهب.

قوله: والسواك ندب ولو بأصبع أحرى أراك، أشار به إلى ما ذكر الشيخ - رحمه الله تعالى - إثر كلامه على المضمضة من أنه إن استاك بأصبعه فحسن، ويحتمل في هذا أن يكون من تمام صفة المضمضة نحو ما تقدم عن اللخمي، وهو ظاهر كلام سيدي زروق - رحمه الله تعالى - ويحتمل أنه أراد أصل السواك، وهو ظاهر ابن ناجي وغير واحد، وعليه فقوله: بأصبعه، يحتمل أنه عند عدم العود، وحمله عليه التادلي وارتضاه ابن ناجي - رحمهما الله تعالى - وهو نص سماع ابن القاسم - رحمه الله تعالى - وصرح به اللخمي في التبصرة وابن رشد في مقدماته، ويحتمل العموم وجعله ابن عبد السلام وخليل ظاهره - رحمهم الله تعالى جميعا ـ.

وفسر ابن ناجي قول الشيخ في السواك إنه حسن بالندب، وكذلك ذكر غير واحد.

(1)

روى الشيخان عن عبد الله بن زيد أنه مضمض واستنشق من كفة واحدة فعل ذلك ثلاثا.

ص: 91

وقال ابن عرفة -رحمه الله تعالى ـ والأظهر أنه سنة لدلالة الأحاديث على مثابرته صلى الله تعالى عليه وسلم عليه وإظهاره والأمر به، ثم قال وهو باليمنى أولى، وروى ابن العربي -رحمه الله تعالى ـ: بقضيب الشجر، وأفضلها الأراك، ثم قال: وفي إجزاء غاسول مضمض به عنه قولا ابن العربي وبعض المتأخرين، ثم قال: اللخمي: والأخضر للمفطر أولى، وظاهر التلقين هما سواء انتهى

قال في التبصرة: وهو مخير أن يجعل ذلك عند الوضوء، أو الصلاة، واستحسن إذا بعد ما بين الوضوء والصلاة أن يجعله عند الصلاة، وإن جعله عند وضوئه أن يعيده عند صلاته، وإن حضرت صلاة أخرى وهو على طهارته تلك أن يتسوك للثانية.

قوله: والنقص من ذلك

البيت، يعني به أن النقص في المضمضة والاستنشاق عن ثلاث لا يؤثر في الوضوء، وقد تقدم هذا، ولكن الأولى أن لا ينقص فيهما عن ثلاث ثلاث، والاقتصار على اثنتين خير من الاقتصار على الواحدة، وأما الزيادة على الثلاث فمنهي عنها قيل تحريما، وقيل كراهة، وهذا ما لم تكن الزيادة لحاجة فتجوز لأجل تلك الحاجة، كما لو لم يكن في وضوء، وقد نقل في المواهب ذلك عن الزاهي، وأما ترك المضمضة جملة أو الاستنشاق جملة، فقال ابن عرفة - رحمه الله تعالى ـ: وفي إعادة صلاته في الوقت ثالثها في العمد، اللخمي ونقله، وسماع يحيى ابن القاسم، وعزى ابن رشد الثاني لابن حبيب، وخرج إعادته أبدا من ترك السنة عمدا، قال: وهو المشهور المعلوم لابن القاسم، ولا يعيد الناسي اتفاقا، ابن بشير: ما ترك من سننه إن فعل في محلها عوض، كغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، وإعادة مسح الرأس من المقدم للمؤخر لم تعد وإلا أعيدت كالمضمضة والاستنشاق.

100 -

ولْتنقلنَّ بيديك الما إلى

وجهٍ، وأفرغه عليه غاسلا

101 -

من فوق جبهة، وحده منِ

مَنبِتِ رأسه لطرف الذقَن

102 -

ودَوْرِ وجهه من اللحيين

منتهيا لعظمي الصدغين

ص: 92

103 -

ومُرَّ فوقَ ظاهرِ الجفنين

مراعيا ما غار باليدين

104 -

وبالأسارير وتحت المارن

من ظاهر الأنف كذلك اعتن

105 -

وثلثنْه هكذا، وحركا

جميعَ أشعار اللحى بكفكا

106 -

فالماء يندفع إن لاقى الشعَر

إذا عليه باليدين لم يُمَر

107 -

وليس بالواجب أن يخللا

على الذي عن مالك قد نقلا

الجبهة قال الفاكهاني: ما أصاب الأرض في حال السجود، والجبينان: ما أحاط عن يمين وشمال، وحد الشيء تعريفه، والمنبت: اسم مكان من نبت نبتا ونباتا، والمراد المنبت المعتاد، فلا يؤمر الأصلع بتتبع ما انحسر عنه الشعر، كما لا يجزئ الأغم أن يقتصر على ما لم ينبت عليه شعر، والطرف - بفتح الراء وسكونها - من كل شيء: حرفه ومنتهاه، والذقن: مجتمع اللحيين من أسفلهما، والدور: مصدر دار، والمراد الاستدارة أو دارة، واللحيين: تثنية لحي، وهو منبت اللحية، جمعه ألْح ولُحِي، والصدغين: تثنية صُدْغ أيضا، قال الجوهري: الصدغ: ما بين العين والأذن، ويسمى أيضا الشعر المتدلي عليه صدغا، إلى أن قال: وربما قالوا السدغ بالسين، قال قطرب: إن قوما من بني تميم يقال لهم بَلْعَنْبَر يقلبون السين صادا عند أربعة أحرف، عند الطاء والقاف والغين والخاء إذا كن بعد السين، ولا تبالي أثالثة كن، أم ثانية، أم رابعة، بعد أن يكن بعدها، يقولون: سراط وصراط، وبسطة وبصطة، ومِسدغة ومصدغة، وسخر لكم وصخر لكم، والسخب والصخب، والمِصدغة: المخدة، لأنها توضع تحت الصدغ، وربما قالوا مِزدغة نقله في الشفاء، والجفنين: تثنية جفن، وهو غطاء العين من أعلا وأسفل، جمعه أجفان وجفون وأجفن، وغار غورا وغؤورا: دخل وبطن، والأسارير: جمع أسرار، وهو جمع سرر كعنب، أو سر، وهي خطوط الجبهة وغضونها وتجاعيدها، قال الجزولي: هي التكاسير أو العطوف أو الطيات ألفاظ مترادفة، والمارن: ما لان من الأنف، وهو الذي ينثني منه عند العطف، والأشعار: جمع شعرة، وتجمع أيضا على شعور، ويندفع:

ص: 93

مضارع اندفع مطاوع دفعه إذا رده، أشار بقوله: ولتنقلن إلى قوله: جبهة، إلى صفة غسل الوجه، فذكر أنه يأخذ الماء بيديه، وإن شاء أخذه بيده اليمنى خاصة، ثم جعله في يديه، ونقله إلى وجهه وأفرغه عليه، غاسلا له بيديه من أعلاه، أما أخذ الماء باليدين معا، أو باليمنى وحدها فالحكم فيه التخيير على ظاهره، ابن عرفة: الباجي: خير فيهما ابن حبيب والشيخ والقاضي انتهى

والأخذ بهما جميعا أولى عند مالك، وباليمنى فقط اختيار ابن القاسم، وصوبه ابن رشد -رحمة الله تعالى عليهم أجمعين ـ.

وأما نقل الماء إلى الوجه فظاهره اشتراطه، ووجهه عند من يراه دخول ذلك عنده في مسمى الغسل المأمور به في الآية الكريمة، قال ابن شاس في جواهره: وحقيقة الغسل نقل الماء إلى العضو مع الدلك.

ويقرب منه قول ابن الحاجب: غسل جميع الوجه بنقل الماء إليه مع الدلك على المشهور.

قال خليل: وظاهر المذهب أن النقل غير مشترط، خلافا لأصبغ وغيره

وقال ابن ناجي: وظاهر كلام الشيخ أن نقل الماء باليد شرط، وهو ظاهر كلام ابن حبيب، وعزاه ابن رشد لابن الماجشون وسحنون، وقيل إنه لا يشترط بل إنما المطلوب إيقاع الماء على سطح الوجه كيف ما أمكن ولو بميزاب، وهذا القول هو المشهور، وأخذ من قول ابن القاسم من مسألة خائض النهر، ولم يحفظ ابن عبد السلام غير الثاني، واختلف إذا ألقى رأسه إلى رش ماء ومسحه بيده، فقال ابن عبد السلام: المنصوص أنه لا يكفيه، وغلط فيه بعض المتأخرين، قال ابن ناجي: واعترضه بعض شيوخنا بقول ابن رشد يجزئ عند ابن القاسم، ووجه المشهور ما في الحديث من صب الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم -على أعضائه الشريفة في الوضوء -صلى الله تعالى عليه وسلم ـ

(1)

.

(1)

كما في حديث المغيرة بن شعبة ـ رضي الله تعالى عنه ـ عند الشيخين وغيرهما.

ص: 94

وأما إفراغه للماء على وجهه غاسلا له به فقال سيدي زروق -رحمه الله تعالى-: يعني لا يرشه رشا، ولا يلطمه لطما، ولا يكب وجهه في يديه كبا، لأن ذلك كله جهل، بل يفرغه تفريغا، حالة كونه في ذلك غاسلا له بيديه، يعني: أنه يدلكه بهما مع الماء، أو أثره، متصلا به، دلكا وسطا، إذ لا يلزم إزالة الوسخ الخفي، بل ما ظهر وحال بين مباشرة الماء للعضو.

وأما ما يفعله بعض الجهال من صب الماء دون الوجه، وإمرار اليد مبلولة على الوجه فهو مسح، وليس بغسل، فلا يجزئ قطعا.

وأما إفراغ الماء على الجبهة من أعلاها فهو مندوب، قال في المواهب -عازيا للشيخ يوسف بن عمر ـ: قال أبو إسحاق بن شعبان: السنة في غسل الأعضاء أن يبدأ من أولها، فإن بدأ من أسفلها أجزأه وبئس ما صنع، فإن كان عالما ليم، وإن كان جاهلا علم انتهى

واحتج له بعضهم بالغاية في اليدين والرجلين " إلى المرافق "" إلى الكعبين " كما ذكره سيدي زروق -رحمه الله تعالى ـ.

ص: 95

فتحصل أن في الصفة المذكورة أشياء متعددة مختلفة الحكم، منها نقل الماء إلى الوجه، وقد اختلف في شرطيته، والمشهور أنه غير شرط، ولكن الخروج من الخلاف حسن، ومنها أخذه باليدين أو باليد اليمنى خاصة، وهو اختيار ابن القاسم وصوبه ابن رشد، لأنه أعون على تقليل الماء، ومنها إيصال الماء إلى الوجه، وهو واجب باتفاق، كما صرح به ابن رشد وغيره، لأنه بتركه يكون ماسحا غير غاسل، وما حكي فيه من الخلاف ضعيف جدا، ومنها البدء بأعلا الوجه، وهو مندوب، ومنها الدلك وهو واجب، لتوقف اسم الغسل عليه، وقيل ليس بمطلوب، وقيل هو سنة وقيل واجب لا لنفسه، بل لتحقق وصول الماء، فيكفي عنه طول المكث في الماء، وقال في المواهب: قال أبو الحسن الصُّغَير: حكى ابن بطال الاتفاق على الوضوء أنه لا بد فيه من التدلك، بخلاف الغسل، الشيخ: الفرق بينهما أن آية الوضوء فيها) فاغسلوا) وآية الغسل فيها) فاطهروا (وأحاديث الوضوء كلها تدل على التدلك، وأحاديث الغسل إنما فيها " أفاض الماء " " واغتسل " وقال أبو الحسن: إن ظاهر كلام ابن يونس وابن رشد وابن بشير أن الخلاف في الغسل فقط انتهى

والمشهور فيه ما ذهب إليه الشيخ من أنه لا يشترط أن يكون مقارنا لصب الماء، بل يكفي إذا وقع بأثره، خلافا لأبي الحسن القابسي حيث اشترط المقارنة، ولا تجوز الإنابة على الدلك إلا لضرورة، فإن أناب لغير ضرورة عصى وأجزأه ذلك على المشهور، وأما الإنابة على صب الماء فجائزة من غير ضرورة، ولا يشترط في الدلك أن يكون باليد كما هو صريح سماع ابن القاسم في المتوضئ من نهر يدلك رجله برجله، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى ـ: وقد روى عن محمد بن خالد أنه قال لا يجزئه حتى يغسلهما بيديه، فيحتمل أنه رأى أن دلك إحداهما بالأخرى لا يمكنه، أو لعله فعله استخفافا من فاعله وتهاونا إذا فعله من غير ضرورة نقله في المواهب.

ص: 96

وهذه الأحكام المذكورة جارية كذلك في اليدين والرجلين، ما عدا أخذ الماء باليدين والله سبحانه وتعالى أعلم.

قوله: وحده إلى قوله الصدغين، أشار به إلى حد الوجه، فذكر أنه طولا أعلاه من منابت شعر رأسه المعتاد إلى طرف ذقنه الذي هو مجتمع لحييه من أسفلهما كما تقدم، وأما عرضا فدور وجهه كله من حد عظمي لحييه، قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: الحد الذي تحت الأذنين من نواحيها إلى صدغيه، قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: وظاهر كلام الشيخ - رحمه الله تعالى - أنه لا يأخذ شيئا من شعر الرأس وهو كذلك، لأنه أراد منابت الشعر المعتاد وهو أحد نقلي شيوخنا، وهما جاريان على اختلاف الأصوليين في ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب، ومنه اختلاف أهل المذهب هل يجب إمساك جزء من اليل أم لا بالنسبة إلى الصوم، واختلف المذهب في ما بين العذار والأذن هل يجب غسله أم لا، على أربعة أقوال، والمشهور وجوبه، وقيل لا يجب، وقيل يجب في من لا شعر له، وقيل سنة قاله القاضي عبد الوهاب، واعترضه ابن هارون بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يغسله وهو عندي ضعيف، لأن فعله أعم من كونه واجبا أو سنة، وقد علمت أن الوجه مأخوذ من المواجهة، وما بين العذار إلى الأذن لا يواجه.

وقال سيدي زروق -رحمه الله تعالى -: ولا خلاف في عدم دخول ما تحت الذقن في الخطاب لأنه ليس بوجه، وقد رأيت شيخ المالكية نور الدين السنهوري وهو من العلماء العاملين يغسله، فلا أدري لورع أو غيره.

وقد جاء في الحديث أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم -كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته

(1)

.

(1)

رواه أبو داوود وهو حديث صحيح.

ص: 97

قوله: ومر فوق

البيتين، معناه أنه يجب على المتوضئ إمرار يديه على الأماكن التي من شأنها أن يخطئها الماء من وجهه، كأسارير جبهته، وما تحت المارن من ظاهر أنفه، والوترة وهي الحاجز بين ثقبي الأنف، والنثرة، وهي مقابل الوترة فوق الشفة العليا، منتهيا إلى السُّنْعُبَة، وهي اللحمة الناتئة في وسط الشفة العليا، وظاهر شفتيه، ومنبت عنفقته، وما غار من ظاهر الأجفان، قال اللخمي - رحمه الله تعالى -: وغسل ما بين المنخرين وظاهر الشفتين فرض نقله في المواهب، وقال: فيتعين على المتوضئ أن لا يضم شفتيه، فمن ضم شفتيه حين غسل الوجه فقد ترك لمعة من وجهه، ونقل عن الجزولي - رحمهما الله تعالى - أنه قال في الكلام على هذه المغابن: فيلزم المتوضئ أن يتحفظ عليها، فإن ترك شيئا منها كان كمن لم يتوضأ، ويدخل في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" ويل للأعقاب من النار "

قوله: وثلثنه هكذا، يعني أنه يطلب غسل الوجه مرة ثانية على الصفة المذكورة، ومرة ثالثة، والمشهور في كل منهما أنها فضيلة، وقيل كلاهما سنة، وهو الجاري على حد المسنون بأنه المدام مظهرا، وقيل الثانية سنة، والثالثة فضيلة نقله في التوضيح، وكذلك سائر الأعضاء المغسولة، قال في التفريع: والفرض في تطهير الأعضاء مرة مرة مع الإسباغ، والفضل في تكرار مغسولها ثلاثا ثلاثا، ولا نحب النقصان من اثنتين.

وذلك لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم توضأ مرة مرة،

(1)

ومرتين مرتين،

(2)

فدل ذلك على عدم وجوب الزائد على المرة.

(1)

كما رواه البخاري وأبو داوود والترمذي والدارمي عن ابن عباس، والإمام أحمد عن عمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

(2)

كما رواه البخاري عن عبد الله بن زيد وأبو داوود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

ص: 98

وقال المازري - رحمه الله تعالى - في شرح التلقين: وإنما اقتصر في الوجوب على مرة واحدة، لأن الله سبحانه و تعالى قال) فاغسلوا وجوهكم (فأمر بالغسل مطلقا غير مقرون بعدد، والأمر المطلق يحمل على مرة واحدة إذا تجرد من القرائن عند جماعة من أهل الأصول، وقد أضاف هذه المقالة في هذا الأصل بعض أصحابنا لمالك - رضي الله تعالى عنه - لما احتج في الاقتصار على مرة واحدة بهذه الآية الكريمة، وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة وقال:" هذا وضوء لا يقبل الله سبحانه وتعالى الصلاة إلا به " وقد كره مالك - رحمه الله تعالى - مع هذا الاقتصار على مرة واحدة، وذلك لأنه قال: الوضوء مرتان مرتان، قيل له فواحدة واحدة؟ قال: لا، وهذا وإن كان ظاهره إيجاب المرتين فإن محمله على المبالغة منه في التشديد في أن لا يقتصر على الواجب، والتحضيض على أن يؤتى بالفضيلة، ولأن العامة لا تكاد تستوعب العضو في مرة واحدة، وقد صرح بهذا المعنى في رواية أخرى، فقال: لا أحب الواحدة إلا من عالم، وهذا تنبيه منه على أن العامة لا تكاد تستوعب بمرة واحدة، فاحتاط لهم، بأن أمرهم بالزيادة عليها، وأخرج العالم من ذلك لمعرفته بما يأتي ويذر من ذلك.

وظاهر الشيخ أبي محمد -رحمه الله تعالى -هنا آكدية التثليث في الوجه والرجلين، دون اليدين، حيث خير في اليدين، دون الوجه والرجلين، واستشكله ابن ناجي، وقال سيدي زروق -رحمه الله تعالى -في الكلام على تثليث الوجه: ولو اقتصر على ما دونه أجزأه كما سيأتي، إلا أن أمرها في هذا آكد، لغيبة هذا العضو عن العيان مع كثرة مغابنه، ولهذا لم يخير فيه الشيخ

وفي حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ثلث في غسل الوجه وغسل يديه مرتين مرتين

(1)

.

(1)

متفق عليه.

ص: 99

وأما وجه آكدية التثليث في الرجلين فهو أن شأنهما الدرن حتى نقل عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما -أنه كان يغسلهما سبعا سبعا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأما زيادة المغسولات على الثلاث المحققة فمنهي عنها قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى ـ: والرابعة ممنوعة، ابن بشير: إجماعا

وقال ابن الحاجب - رحمه الله تعالى -في مختصره: وتكره الزيادة، قال خليل: نحوه في المقدمات، وقال عبد الوهاب واللخمي والمازي بل تمنع، ونقل سند على المنع اتفاق المذهب.

وقال المازري في شرح التلقين: أما منع الزيادة على الثلاث فلقوله عليه الصلاة والسلام " فمن زاد فقد تعدى وأساء وظلم " ولأنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة، وقال:" هذا وضوء لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به " وتوضأ مرتين مرتين، وقال:" من توضأ مرتين مرتين آتاه الله تعالى أجره مرتين " وتوضأ ثلاثا ثلاثا، وقال:" هذا وضوءي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء إبراهيم عليه الصلاة والسلام "

(1)

وهذا منه صلى الله تعالى عليه وسلم تنبيه على نهاية الفضيلة في هذا.

وإلى حديث وصف الزائد بالتعدي والظلم استند من لم ير الغرة أيضا، قال ابن عرفة: عياض: أجمعوا على أن لا يتعدى بالوضوء حدوده لحديث " فمن زاد فقد تعدى وأساء وظلم "

(2)

قال في التاج: النووي: ليس كذلك، بل أصحابنا مجمعون على استحباب الزيادة على الجزء الذي يجب غسله لاستيفاء كمال الوجه.

(1)

أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف.

(2)

حديث " فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم " رواه النسائي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

ص: 100

قوله: وحركا إلى قوله: لم يمر، يعني به أنه يجب على المتوضئ إمرار يديه على لحيته عند مرور الماء عليها، لأن الشعر يرتفع بعضه عن بعض فيمنع بعضه وصول الماء إلى بعض، ولأن الشعر يدفع الماء، ويرده لجساوته وملوسته، فإذا لم يمر عليه يديه مع الماء أخطأ أكثره، وهذا التحريك لا بد منه بلا خلاف.

قوله: وليس بالواجب

البيت، يعني به أن شعر اللحية لا يجب تخليله في الوضوء في قول مالك -رحمه الله تعالى -وذلك لما تقدم من وضوئه صلى الله تعالى عليه وسلم مرة.

قال ابن ناجي: قال المغربي: ظاهر كلام الشيخ أنه يستحب له التخليل، لأنه إنما نفى الوجوب، وهو خلاف ظاهر المدونة، قال فيها: ويمر يديه عليها من غير تخليل، فظاهرها كراهة التخليل، قال ابن ناجي: الأقرب أن الشيخ إنما أراد كراهة ذلك، لأن الاستحباب لم يقل به مالك فيما قد علمت، وإنما هو قول ابن حبيب، حسبما يأتي - إن شاء الله سبحانه و تعالى - واختلف في تخليلها في الوضوء على ثلاثة أقوال، فقيل إن ذلك مكروه، وهو ظاهر المدونة والعتبية، وبه قال ربيعة، وقيل مستحب قاله ابن حبيب في واضحته، وقيل تخليلها واجب قاله مالك في روايتي ابن وهب وابن نافع، وبه قال ابن عبد الحكم، وكل هذا الخلاف في اللحية الكثيفة، وأما الخفيفة التي لا تستر البشرة، فإنه يجب إيصال الماء إليها، وإذا قلنا بوجوب التخليل، فقيل إلى داخل الشعر فقط، رواه ابن وهب وبه قال بعض شيوخ المازري، وقيل لا بد من وصوله إلى البشرة، نقله المازري عن الحذاق

وقول ابن حبيب في التخليل بالاستحباب جعله ابن رشد -رحمه الله تعالى -أظهر الأقوال.

ص: 101

ومثل اللحية جميع شعر الوجه، قال القاضي عبد الوهاب في التلقين: وأما الوجه فالفرض إيعاب جميعه، وحده: ما انحدر من منابت شعر الرأس إلى آخر الذقن للأمرد، واللحية للملتحي طولا، وما دار عليها من العذارين عرضا، فإن كان عليه شعر لزم إمرار الماء عليه، ثم ينظر فإن كان كثيفا قد ستر البشرة سترا لا تبين معه انتقل الفرض إليه، وسقط فرض إيصال الماء إلى البشرة، وإن كان خفيفا تبين منه البشرة لزم إمرار الماء عليه وعلى البشرة، وسواء في ذلك أن يكون على خد، أو شفة، أو حاجب، أو عذار، أو عنفقة، ويلزم في ما انسدل من البشرة كلزومه في ما تحته بشرة، ونقله ابن عرفة مختصرا، وظاهر كلام سيدي زروق -رحمه الله تعالى - اختصاص التخليل باللحية، حيث قال: وحكى بعض المتأخرين في تخليل العنفقة قولين، ثم أحال على نظر القرافي، ثم قال: وذكر ابن الحاجب الهدب وفيه مشقة فانظر فيه.

وذكره ابن شاس في جواهره، وظاهر قول ابن عبد السلام: وذكر الهدب لما رءاه للشافعية فيه وفي الحاجبين من سقوط التخليل، لأن الغالب في شعرهما الخفة، وما ذكروه في الهدب متجه، أنه لا يعلم لأهل المذهب كلاما صريحا في الهدب، مع أن التحريك الذي تقدم أنه واجب في الشعر، قائم مقام التخليل في الشعر الخفيف، كما ذكره سند في اللحية، فأولى في الهدب الذي ليس شعره صفوفا متعددة، وما نسبه للشافعية خلاف ما وقفت عليه في غير واحد من كتبهم، من أنما شأنه الخفة كالهدب يجب غسل ظاهره وباطنه، وإن كان كثيفا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

والمشهور وجوب غسل ما طال من اللحية، قال ابن رشد: وهو المعلوم من مذهب مالك وأصحابه في المدونة وغيرها، وقيل ليس عليه أن يغسل من لحيته إلا ما اتصل منها بوجهه، لا ما طال منها، وهو ظاهر ما في سماع موسى عن ابن القاسم عن مالك كما نقله في المواهب، وقال به الأبهري -رحمه الله تعالى ـ.

ص: 102

108 -

ثم أفض على اليد اليمنى معا

تدلك، وخلل الأصابعا

109 -

وافعل بيسراك كذا، وعمما

مرافقا بالغسل عند علما

110 -

وبعضهم بالوقف عندها حكم

والاحتياط مقتضاه أن تُعَمْ

البيت الأول تضمن الإشارة إلى مسائل الأولى: غسل اليد إلى المرفق، وهذا أمر معلوم الوجوب، ويجري فيه أغلب البحوث المتقدمة في الوجه، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.

الثانية: البداءة باليمين وهي مندوبة، وقد جاء في الحديث " إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم

(1)

" وفي حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها -أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعجبه التيمن في طهوره وفي شأنه كله، وهو المنقول في أحاديث صفة وضوئه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يجري في ذلك الخلاف المعروف في الترتيب، لأنهما فرض واحد.

الثالثة: الدلك، وقد تقدم الكلام عليه.

الرابعة: تخليل الأصابع، قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى ـ: وتخليل أصابعهما أوجبه ابن حبيب، واستحبه ابن شعبان وابن حارث عن ابن وهب: رجع مالك عن إنكاره إلى وجوبه لما أخبرته بحديث ابن لهيعة " كان صلى الله تعالى عليه وسلم يخللهما في وضوئه "

(2)

قال ابن عرفة: في الاحتجاج بابن لهيعة ثالثها ما سمع منه قبل حرق كتبه.

وقال ابن ناجي -رحمه الله تعالى ـ: رجوع مالك إلى الوجوب لتخليله، صلى الله تعالى عليه وسلم فيه نظر، إذ تخليله أعم من الوجوب والندب، ورجوع مالك إلى ما قال ابن وهب - رحمهما الله تعالى -إشارة إلى مكانته في الحديث، وهو كذلك، وقد قرأ -رضي الله تعالى عنه - على أربعمائة عالم، ومع ذلك كان يقول: لولا مالك والليث لضللت.

(1)

رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح.

(2)

حديث ابن لهيعة عن المستورد بن شداد أنه رأى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره رواه أبو داوود والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد.

ص: 103

قال في المواهب: واستدل صاحب الطراز للوجوب بحديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما -أنه عليه الصلاة والسلام قال ": إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك " رواه الترمذي وأبو داود

(1)

وبأن ما بين الأصابع يجب إيصال الماء إليه فوجب دلكه، واستدل لنفي الوجوب بأن كل من نقل وضوء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الصحاح لم يذكره فيه، ولأن الماء يتخلل الأصابع وهي تماس بعضها فيحصل بذلك حقيقة الغسل

واعتمد القاضي أبو الوليد بن رشد قول الاستحباب في مقدماته، وهو أخذ بالدليلين معا والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأشار بقوله: وافعل بيسراك كذا، إلى أنه يفعل بيده اليسرى مثل ما تقدم وصفه في اليد اليمنى، وأشار ببقية البيتين الأخيرين إلى الاختلاف في وجوب غسل المرفقين، قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -: وفي وجوب غسل المرفقين ثالثها احتياطا للمشهور واللخمي عن أبي الفرج، مع الباجي عن رواية ابن نافع واللخمي عن القاضي، مع الباجي عن أبي الفرج، قال في المواهب بعد أن ذكر الاشتراك فى لفظ اليد، وأن الغاية تكون داخلة وتكون خارجة: والاعتماد في ذلك على ما بينته السنة، ففي الصحيح عن أبي هريرة أنه غسل يديه حتى شرع في العضد، وقال هكذا رأيت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - توضأ، ومثله ما رواه البزار عن وائل بن حجر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم غسل يديه حتى جاوز المرفق، وفعله صلى الله تعالى عليه وسلم مبين، فلما أدخل المرفقين دل على وجوب غسلها، وقيل إن المرفقين غير داخلين في الوجوب، وإنما عليه أن يبلغهما، رواه ابن نافع عن مالك، وحكاه اللخمي عن أبي الفرج، وقيل يدخلان لا لأجلهما بل احتياطا، لأن الواجب لا يتوصل إليه إلا بدخولهما، وعزاه الباجي وغيره لأبي الفرج، وعزاه اللخمي للقاضي عبد الوهاب.

(1)

وهو حدبث صحيح.

ص: 104

111 -

ثم امسحنْ رأسَك بعدُ وعلى

صدغيك إبهاميك إذ ذاك اجعلا

112 -

قارنا أطراف يديك سائرا

إلى القفا، وأوعبنَّ الشعرا

113 -

ثم ارجعنَّ بهما أيضا إلى

حيث ابتداؤك لمسح أولا

114 -

وما من الشعر كان ذا انسدالْ

بالوجه يمسح انحتاما كالدَّلال

115 -

وتحت ضفر يدخل الذي ضفر

يديه عند رده مسح الشعر

116 -

واجعل ورا الأذنين الابهامينِ

في الرد ماسحا إلى الصدغين

117 -

وكيف ما عممت رأسك كفى

ولكن الأكمل ما قد وصفا

118 -

ولا يجوز المسح فوق ساتر

ما لم يكن ذاك منَ اَجل ضرر

الصدغ تقدم الكلام عليه، وإبهاميك: تثنية إبهام، وهو عظيم الأصابع، والقفا: مؤخر العنق، مذكر ويؤنث، جمعه أقف كأظب، وأقفية كأبنية، وأقفاء كأبناء، وقفي كدلي، وقولهم: لا أفعل كذا قفا الدهر أي: طوله، وانسدال: مصدر انسدل إذا تدلى، والدلال بفتح الدال، والضفر قال في المغرب: فتل الشعر وإدخال بعضه في بعض معترضا.

ص: 105

أشار بهذا إلى صفة مسح الرأس الذي هو الفريضة الثالثة من الفرائض المذكورة في الآية الكريمة المجمع عليها بين أهل العلم، فذكر أنه يأخذ الماء بيده اليمنى ويفرغه على باطن يده اليسرى، ثم يرسله جميعا حتى لا يبقى فيهما إلا البلل، وإن شاء غمسهما في الماء، والأول أفضل عند ابن القاسم، والثاني أفضل عند مالك - رحمهما الله تعالى - كما نقله سيدي زروق - رحمه الله تعالى - ثم يمسح بهما رأسه، ويبدأ بمقدمه، قال المازري - رحمه الله تعالى -: لأنه قياس سائر الأعضاء، وقد جرى العمل بالبداية بأوائلها، وأول الفعل يجب أن يكون في أول العضو، مع ما جاء في صفة وضوئه صلى الله تعالى عليه وسلم، وحكم البدء بالمقدم الندب، وقيل الاستنان، نقله ابن ناجي عن ابن رشد، وهو وجيه مع حد السنة، قال المازري: وقد وسع في البداية بوسطه لقوله في حديث زيد بدأ بمقدم رأسه فأقبل بيديه وأدبر، اتباعا لظاهر هذا الحديث، وأول الرأس من المقدم: أول منابت شعر الرأس المعتاد، وظاهر الشيخ أنه لا يمسح معه شيئا من الوجه، والمشهور الوجوب، ولعله لم يرد ذلك لما سبق له في المرفقين، وإنما أراد بيان الرأس الواجب بالأصالة، خاصة مع ما ذكره من أنه يقرن أطراف أصابع يديه بعضها ببعض على رأسه، جاعلا إبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما إلى طرف شعر رأسه مما يلي قفاه، ثم يردهما إلى حيث بدأ، ويمر إبهاميه خلف أذنيه، كما فعل أولا سائرا بهما إلى صدغيه، وإلى هذه الصفة الإشارة بالأبيات الثلاثة الأولى، وأخذ الماء لمسح الرأس بوجهيه لا خلاف في المذهب أنه لا بد منه كما قال المازري، قال: ولكنه إن لم يفعل ومسحه ببلل الماء الذي غسل به ذراعيه فإنه يتخرج على قولين في الوضوء بالماء الذي قد توضئ به، وقد احتج للإجزاء هنا بما روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستأنف الماء لمسح رأسه

(1)

(1)

رواه أبو داوود عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوّذ بن عفراء وهو حديث حسن.

ص: 106

وإذا نفد بلل يديه قبل أن يستوعب رأسه مسحا، جدد لهما الماء، كما قال مالك في المجموعة، وذكره عنه ابن حبيب في مسح المرأة، وحمل عليه الشيخ في النوادر وعبد الحق قول ابن القاسم: إن مسحه بأصبع واحدة أجزأه، وقال القاضي إسماعيل: لا يجدده نقله في المواهب، وتمسح المرأة على دلاليها، وتدخل يديها من تحت عقاص شعرها في ردها للمسح، قال سيدي زروق -رحمه الله تعالى -: لتمسح ما غاب عنها وما والى ذلك من دلاليها، وكذلك الرجل، وهل إدخال اليدين تحت العقاص منوط بالوجوب لتمام المسح، أو بالرد، لم أقف على شيء في ذلك، وهو مشكل فانظره.

وبالأول قال علي الأجهوري وتلامذته، وصوب الشيخ محمد بن الحسن البناني خلافه، قال ونصوص الأئمة كالمدونة، والرسالة، وعبد الوهاب، وابن يونس، واللخمي، وعياض، وابن شاس، وابن الحاجب، وابن عرفة، وغيرهم، كلها ظاهرة في ما ذكرناه، وليس في واحد منهم إشعار بما ذكره الأجهوري أصلا، وقد قالوا: إن الظواهر إذا كثرت بمنزلة النص، ويدل على ذلك أيضا أنهم عللوا الرد من أصله في مسح الرأس، بأنه يحصل به مسح باطن الشعر.

هذا ونقل في المواهب عن سند ما يقتضي أن ظاهر الشعر الذي يجب مسحه هو ظاهره حال السدل، وهذا يقتضي وجوب سدله عند المسح، ونصه: قال صاحب الطراز: فلو رفعت الضفائر من أجناب الرأس وعقصت الشعر في وسط الرأس، وهو لو ترك انسدل عن الرأس، فالظاهر أنه لا يجزئ مسحه، لأنه حائل دون ما يجب مسحه، قال بعض أصحاب الشافعي: هو كالعمامة لا يجوز المسح عليه، ونقله في الذخيرة وقبله، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 107

وانظره مع ما نقله من مختصر الواضحة، ونصه: وسنة وضوء المرأة كسنة وضوء الرجل سواء، غير أنها إذا مسحت رأسها بدأت من أصل شعر قصتها، فتذهب بيديها على جميع شعر قصتها وأدلتها وجميع شعر رأسها، مضفورا كان أو غير مضفور، مجموعا كان أو مسدولا على ظهرها، حتى تبلغ إلى آخره، ثم تدخل يديها من تحته، فتحوله حتى ترد يديها به، أو بضفائرها المرسلة، إلى مقدم رأسها مرة واحدة، لا بد لها من ذلك.

قوله في البيت الثاني: وأوعبن الشعر، أشار به إلى وجوب استيعاب الشعر المسترخي بالمسح، سواء استرخى إلى جهة القفا أو الأذنين أو الصدغين أو غير ذلك، اعتبارا بمنبته، وهذا هو المشهور، ويجري فيه الخلاف السابق ذكره في ما طال من شعر اللحية.

قوله: وكيف ما عممت رأسك كفى، معناه أن الصفة المذكورة في مسح الرأس غير واجبة، بل مندوبة، وإنما الواجب التعميم، وقد علم أن الرأس طولا أوله من أول منابت شعر الرأس المعتاد، وآخره طرف شعر رأسه مما يلي قفاه، وعرضا ما بين الأذنين، فيجب مسح البياض الذي فوق الأذن، والبياض الذي خلفها، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى دخول الأذنين في الرأس، وذهب بعض إلى دخولهما في الوجه، وذهب بعض إلى أن الوجه الموالي للرأس منه، والوجه الموالي للوجه منه، والمذهب أنهما حد لعرض الوجه، وحد لعرض الرأس.

وعلم من هذا البيت أن الاقتصار على بعض الرأس غير مجزئ، قال ابن عرفة: ابن مسلمة يجزئ ثلثاه، أبو الفرج ثلثه، الباجي عن أشهب مقدمه.

واختلف هل الخلاف في الواجب ابتداء، أو في الاجتزاء بعد الوقوع؟

ونقل في الجواهر عن القاضي أبي محمد أنه قال: وهذه الأقوال مذاهب لأصحابه لا أنها تخريج على مذهبه قال: فأما مذهبه فهو الإيعاب كما تقدم.

ص: 108

قال ابن يونس - رحمه الله تعالى -: والدليل لمالك قوله سبحانه وتعالى: (وامسحوا برؤوسكم (فهو كقوله سبحانه وتعالى في التيمم: (وامسحوا بوجوهكم (فلما لم يجز أن يقتصر على بعض الوجه بالاتفاق، وجب أن لا يقتصر على مسح بعض الرأس، وكقوله سبحانه وتعالى: (ولْيَطَّوَّفوا بالبيت العتيق) الذي لا يجوز الاقتصار فيه على بعض الطواف في الطواف، لأن الباء إنما دخلت للإلصاق، إلى أن قال: وليس كما زعموا أنها دخلت للتبعيض، دليلنا أن الاستثناء يصح في ما ذكرنا، ولا يصح في ما كان للتبعيض، لو قلت: امسح برأسك إلا بعضه جاز، ولا يجوز امسح ببعض رأسك إلا بعضه، لأنك استثنيت مجهولا من مجهول، ولو صح أنها تصلح للمعنيين، وأشكل ذلك، فقد رفع الإشكال فعل النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه توضأ ومسح جميع رأسه، وقال:" هذا وضوء لا يقبل الله سبحانه وتعالى الصلاة إلا به "

وأما حديث المسح على الناصية فقال المازري: دوفع عنه بأنه لما مسح على الناصية استكمل بقية الرأس بالمسح على العمامة، فلو كان الاقتصار جازيا ما تكلف المسح على حائل.

وقوله: ولا يجوز المسح فوق ساتر

البيت، معناه ظاهر، قال ابن عرفة: وفيها إن كان معقوصا مسحت على ضفرها، ولا تمسح على حناء أو خمار أو غيره، الطراز: إن كان الحناء بباطن الشعر لم تمنع كالتلبيد، ابن حبيب: إن كثرت شعرها بصوف أو غيره، لم يجز مسحه حتى تنزعه، وتجدد الماء لمسحه.

19 -

ثم بالابهامين والسبابتين

من بعد ذا امسحنَّ وجهي الاُذُنَيْنْ

أما الإبهام فقد تقدم الكلام عليها في الأبيات المتقدمة، وأما السبابة فقال في تنبيه الطالب: هي الأصبع التي تلي الإبهام، سميت بذلك لأنهم يشيرون بها إلى السب في المخاصمة ونحوها، ويقال لها: المسبحة -بكسر الباء -لأنها يشار بها إلى التوحيد، فهي مسبحة منزهة، قال ابن العربي: وتسمى مدية الشيطان، نقله في شفاء الغليل.

ص: 109

أشار بهذا إلى الأمر بمسح الأذنين وصفته، وقد ذكر الشيخ أنه يفرغ على سبابتيه وإبهاميه، وإن شاء غمسهما في الماء، وقد اختلف في حكم التجديد، فقيل مستحب، قاله مالك، وقال ابن حبيب: تركه كتركهما، وقال ابن مسلمة إن شاء جدد، وإن شاء لم يجدد، وقد تقدم حديث ابن زيد في التجديد.

وصفة مسحهما أن يمسح ما يلي الرأس منهما بإبهاميه، وما يلي الوجه بسبابتيه، ويدخل سبابتيه في صماخيه، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: وكيفية مسحهما مطلق في الروايات، وفي الموطإ: كان ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - يأخذ الماء بأصبعيه لأذنيه، فقال عيسى: يقبض أصابع يديه سوى سبابتيه يمرهما ثم يمسح بهما داخلهما وخارجهما، الباجي: يحتمل أنه يأخذ الماء بأصبعين من كل يد، لحديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما" - باطنهما بالسبابة، وظاهرهما بالإبهام

(1)

" قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى - ونقل الشيخ عن ابن حبيب: يأخذ الماء بأصبعيه يمسحهما مرة، ظاهرهما وباطنهما، يحتمل الوجهين.

120 -

وبعد ذلك اغسل الرجلينِ

وابتدئنْ في ذاك باليمين

121 -

صُبَّ قليلا وقليلا، واعركا

بيدك اليسرى خلال ذلكا

122 -

وثلثنْ، وخلل الأصابعا

فذاك أطيب، وتركٌ وُسِّعا

123 -

واجتهدنَّ في وصول الما إلى

ما عنه يَنْبُو، كالشقوق مثلا

124 -

(ويل للاعقاب من النار) على

تساهل بمثل ذاك حُملا

(1)

رواه النسائي وهو حسن صحيح.

ص: 110

أشار بهذا إلى الفريضة الرابعة المذكورة في القرآن الكريم، والمجمع عليها بين أهل العلم، وهي غسل الرجلين، وصفته أن يبدأ برجله اليمنى ندبا كما تقدم في اليدين، ويتناول الماء بيده اليمنى، ويصبه عليها قليلا قليلا، مع العرك بيده اليسرى خلال ذلك، والعرك: الدلك، ويبالغ في دلك ما لا يكاد يداخله الماء بسرعة من جساوة أو شقوق، مع صب الماء، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم:" ويل للأعقاب من النار "

(1)

وذلك حين رأى ناسا يتوضؤون وقد بقيت في أعقابهم بقع لم يصبها الماء، ويعمم كعبيه على نحو ما تقدم في المرفقين من الخلاف، والمراد بالكعبين الكعبان المرتفعان الواقعان عند مفصلي الساقين، وقد حكى في ذلك ابن عطية وابن فرحون الإجماع، مصرحين بأن غير ذلك مما قيل به في تفسير الكعب لا قائل بإجزاء الانتهاء إليه، وأن ذلك خلاف لغوي، وقال ابن غازي هما محجوجان بقبول فحول المذهب، كالباجي وابن رشد وعياض وغيرهم رواية القاضي عبد الوهاب فقها، وإن كانت مرجوحة نقله الرهوني.

ويخلل أصابع رجله ندبا، كما قال ابن شعبان، وهو المشهور، وقيل وجوبا، وروى أشهب عن مالك -رحمهما الله تعالى -إنكاره، ومنهم من أباحه، ويرد عليه ما تقدم في البسملة، قال ابن ناجي -رحمه الله تعالى -: والخامس تخليل ما بين الإبهام والذي يليه خاصة، وبه كان شيخنا أبو محمد عبد الله الشبيبي يفتي إلى أن مات، ووجهه أنه لا حرج فيه لانفراجه، بخلاف بقية الأصابع، لأن تخليلها من باب الحرج المسقوط عن هذه الأمة، وبقول شيخنا هذا أقول.

(1)

متفق عليه.

ص: 111

ونقل كنون عن اليسيتني أنه قيد بذلك الخلاف في تخليل أصابع اليدين، ونصه: قال الشيخ ميارة: وقد كنت قيدت عن شيخنا الإمام العالم المحقق أبي الحسن البطوءي عن شيخه الفقيه الأجل قاضي الجماعة بفاس سيدي عبد الواحد الحميدي، عن شيخه الإمام العالم سيدي محمد اليسيتني، أن هذا الخلاف إنما هو في ما عدا ما بين السبابة والإبهام، لشبهه بالباطن، أما ما بينهما فلا خلاف في وجوب تخليله، لأنه من جملة ظاهر اليد الواجب غسله اتفاقا.

قال في التوضيح: ورجح اللخمي وابن بزيزة وابن عبد السلام الوجوب في تخليل أصابع اليدين والرجلين، لما روي أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم -كان يخلل أصابع رجليه بخنصره،

(1)

وذكر ابن وهب أنه سمع مالكا -رحمهما الله تعالى -ينكر التخليل، قال: فأخبرته بالحديث فرجع إليه.

وقد تقدم كلام ابن ناجي في ذلك، وكأن الحطاب رأى مثل ذلك في احتجاج خليل المذكور، فقال بعد نقله: وروى الترمذي من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما - عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم " ـ إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك " وقال: حديث حسن غريب.

وإذا أوعب رجله على ما ذكرنا فقد سقط الوجوب، ويطلب بإيعابها مرتين على نحو ما ذكر، كما سبق في الوجه واليدين، وهذا ما صدر في التوضيح بتشهيره، قال: وزعم بعض الشيوخ أنه لا فضيلة في تكرار غسل الرجلين، قال: لأن المقصود من غسلهما الإنقاء، لأنهما محل الأقذار غالبا، ونحوه رواه ابن حبيب عن مالك، نقله في النوادر.

ونقل في المواهب عن ابن راشد -بمد الراء - أنه قال: أخبرني من أثق به من الأشياخ أن فرضهما الإنقاء، قال: وهو المشهور، ويؤيده حديث عبد الله بن زيد في صحيح مسلم قال في آخره: وغسل رجليه حتى أنقاهما، ومن جهة المعنى أن الوسخ يعلق بهما كثيرا، والمطلوب فيهما المبالغة في الإنقاء، وقد لا يحصل بالثلاث.

(1)

رواه الإمام أحمد وهو صحيح لغيره.

ص: 112

قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: والصواب أنهما يرجعان إلى قول واحد، وأن معنى قول الشيخ ومن ذكر معه إذا كانتا نقيتين، ومعنى قول غيرهما إذا كانتا وسختين، لقول الإمام المازري -رحمه الله تعالى -في شرح الجوزقي: إذا كانتا نقيتين فكسائر الأعضاء، يطلب فيهما التكرار، وإلا فلا تحديد إجماعا.

وذكر سيدي زروق عن أشهب -رحمهما الله تعالى -أنه أوجب المرة الثانية في الرجلين وغيرهما من الوجه واليدين إلى المرفقين.

125 -

وادع لدى ختم الوضو بما ورد

من التشهدين عن خير معَدْ

126 -

صلى وسلم عليه الله

والال والصحب ومن تلاه

127 -

وغسْل الاعضاء ثلاثا في الوضو

ليس من الأمر الذي يُفْتَرض

128 -

فموعب بدونها إذا اقتصر

عنها فما عليه في ذاك ضرر

129 -

واستشعرنَّ بالوضو تأهبا

تنظفا لفعل ما قد وجبا

130 -

وللمناجات، والاحتسابُ

بكل ذاك حكمه الإيجاب

اشتملت هذه الأبيات على ثلاث مسائل:

الأولى: الدعاء بعد الوضوء

والثانية: جواز الاقتصار في الأعضاء المغسولة على المرة الواحدة الموعبة.

والثالثة: الاحتساب بالوضوء

أما المسألة الأولى فذكر الشيخ فيها حديث " من توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء " قال: وقد استحب بعض العلماء أن يقول بإثر الوضوء " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " وأصل الحديث في صحيح مسلم، قال ابن ناجي: المراد بقوله: فأحسن الوضوء، تحصيله بفرائضه وسننه وفضائله.

ويشهد لهذا لفظ مسلم " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ".

وزيادة" ثم رفع طرفه" التي ذكر الشيخ ضعيفة، وكذلك زيادة تكرير ذلك ثلاث مرات، وأما زيادة " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " فهي عند الترمذي وهي صحيحة.

ص: 113

وقوله: وقد استحب بعض العلماء، قال ابن ناجي: سمعت بعض من لقيته يذكر أن الشيخ أراد بقوله بعض العلماء ابن حبيب، وكذلك مهما ذكره، وما ذكره نص عليه التادلي في باب ما يفعل بالمحتصر، وفي نفسي منه شيء فتأمله.

وروى الحاكم أبو عبد الله أن " من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك " كتب في رق ثم جعل في طابع فلم يكسر إلى يوم القيامة "

وقال النووي في الأذكار: وقد روى النساءي وصاحبه ابن السني في كتابيهما عمل اليوم والليلة، بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه -قال: أتيت رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -بوضوء فتوضأ، وسمعته يدعو يقول:" اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي في رزقي " فقلت يا نبي الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -سمعتك تدعو بكذا وكذا، قال:" هل تركن من شيء " انتهى

وروي الدعاء به مطلقا من غير توقيت.

وأما المسألة الثانية فقد تقدم الكلام عليها.

وأما المسألة الثالثة فهي عائدة إلى النية، ومعنى الاحتساب الإخلاص، بأن يكون الباعث على الوضوء امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، وطلب الأجر والمثوبة، وهذا عام في القرب كلها، قال جل من قائل:(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)

قال في مطهرة القلوب:

ورسْم إخلاصِ عبادة الشكور

إفراده بها ولو بلا حضور

وقد تقدم الكلام على وجوب النية وصفتها والحمد لله رب العالمين.

ص: 114

وقول الشيخ: وتطهيره من الذنوب به، يشير به إلى الأحاديث الواردة في تكفير الوضوء الذنوب وهي كثيرة، منها الوارد في مطلق الوضوء، ومنها الوارد في الوضوء المسبغ، ومنها الوارد في المسبغ على المكاره، ومنها الوارد في الوضوء والصلاة، والمعول أن الذنوب التي يكفرها الوضوء إنما هي الصغائر خاصة، ولا يقال: إن قوله: " كل خطيئة نظر إليها بعينه " نص في عموم الذنوب، لنصوصيته في الاستغراق، لأن الأحاديث الأخرى صريحة في اختصاص ذلك بالصغائر، كحديث " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر

(1)

" ومعلوم أن الصلاة تستلزم الوضوء غالبا، مع احتمال عدم تناول الخطيئة للكبيرة، ويختص التكفير أيضا بغير ما هو حق للعباد، لحديث الموطإ عن أبي قتادة، قال جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال: يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أرأيت إن قتلت في سبيل الله تعالى صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، أيكفر الله سبحانه و تعالى عني خطاياي؟ فقال رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -: نعم " فلما أدبر ناداه رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -أو أمر به فنودي، فقال له رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -:" كيف قلت؟ " فأعاد عليه قوله، فقال:" نعم، إلا الدين "

(2)

وقد حكى ابن العربي وغيره الإجماع على ذلك.

واعلم أن قيد اجتناب الكبائر، راجع إلى تكفير جميع الذنوب، وأما الصغائر فمكفرة بتلك الأعمال وإن غشيت الكبائر، بقرينة ما في الآية من أن اجتناب الكبائر وحده مكفر للصغائر، كما صرحوا به، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

رواه مسلم والترمذي وابن ماجة والإمام أحمد.

(2)

ورواه مسلم والترمذي والنسائي والدارمي والإمام أحمد.

ص: 115

ويتجه أن يكون التكفير المذكور في الوضوء واقعا في التيمم أيضا، كما صرحوا بمثله في الغرة والتحجيل، وقد يفهم ذلك من كلام بعض المفسرين عند قوله سبحانه وتعالى:(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) ويشهد له حديث " حبسهم العذر "

(1)

بعد قوله: ما فعلتم كذا ولا فعلتم كذا، فقد دل عده صلى الله تعالى عليه وسلم لتلك الأشياء على أن صاحب العذر تكتب له تفاصيل العمل، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال، هذا والمراد باستواء المعذور وغيره، الاستواء في الجملة لا الاستواء من كل حيثية، كما هو صريح قوله سبحانه وتعالى:(فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القعدين درجة)

وظاهر الحديث

(2)

أن المريض والمسافر يكتب له ما كان يعمله صحيحا مقيما، على نحو ما كان يعمله، فإذا اعتاد عدم إسباغ الوضوء، أو عدم تطويل الركوع والسجود -مثلا -أو أن يصلي فذا، أو غير مستاك، أو نحو ذلك، لم يكتب له إلا نحو ما كان يعمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

رواه البخاري وأبو داوود وابن ماجة والإمام أحمد.

(2)

روى البخاري عن أبي موسى ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ: إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا ورواه أبو داوود والإمام أحمد.

ص: 116